في فترة الحجر الصحي الشامل على إثر الانتشار السريع لفيروس كورونا، ألَم نلاحظ أن الحلاقين تحوّلوا إلى ما يشبه الدكاكين التي تبيع ترياقًا سحريًا، حيث أضحت المعادلة كالتالي: "هنا يُحلَق للرجال سرًا"؟ نحن نعلم أنّ التمثلات الجمالية لأجسادنا آخذةٌ بالتآكل ضمن مجتمع الاستهلاك (جان بودريار Jean Baudrillard)، ومجتمع الفرجة (غي دو بور Guy Debord)، ومجتمع الأدائية (جوديث باتلر Judith Butler)؛ لكن ما الذي يُميز محال الحلاقة على وجه الخصوص؟
إنّ مسألة الاهتمام بحلاقة الشعر وحُسن المظهر ليسَت حصيلة ما نحن عليه اليوم، إنما هي ذات أبعادٍ تاريخيةٍ وأنثروبولوجيةٍ مهمّة. ففي نهاية القرن السابع عشر مثلًا، كانت اللّحية تُعتبر سمةً كاريكاتوريةً للدجّال والمُتحذلق، كما كان الشعر الأشعث والكثيف علامةً تؤشّر إلى الانسلاخ العلائقي الاجتماعي (صورة الفرد الهامشي نوعًا ما). أما زوّار الصالونات والجلسات الحميمة والمهتمّون بالشؤون السياسية، فكان عليهم أن يطبعوا أجسادهم بسِمَة النقاء من خلال حلق شعر ذقونهم كليًا.
لكننا نجد أيضًا أثرًا دامغًا لأهمية "اللحية" لدى حركات النضال السياسي المتشعّب والمنفلت بين الأدبيات اليسارية واليمينية، حيث نرى على ضفةٍ صورة الذكورة السلفية1 التي ترمز إلى العفة والالتزام بتعاليم دينيةٍ صارمةٍ وذات طابعٍ سياسي يتميز بالتمرد وإعادة خلق تصوّرٍ آخر للمعاش اليومي والاجتماع البشري - ولعلّ علامة هؤلاء الصامتة هي "إعفاء اللّحى" والامتناع عن قصّ الشعر - بينما نرى على الضفة الأخرى ظاهرة الثوّار الكوبيّين المُلتحين (Barbudos)، أو لنقُل ذكورات اللّحى التي ميّزت النضال اليساري الراديكالي مع شخصياتٍ قياديةٍ مثل أرنستو تشي غيفارا وفيديل كاسترو.
ما يهمّنا في حقيقة الأمر هو التالي: إنّ الاهتمام المَظهري باللّحى والشعر يُخفي في باطنه صناعةً اجتماعيةً لا يمكن التغاضي عنها، فالحلّاقون ليسوا مجرّد أشخاصٍ نزورهم بانضباطٍ من أجل الامتثال للمعايير الجمالية الذكورية التي لا نعي مَن وضَعها وكيف، بل إننا "نُصنَع" في كلّ مرةٍ نقصد فيها محال الحلاقة. نحن كائناتٌ لغويةٌ نتفاعل مع ما نصغي إليه ونستبطنه ونعيد إنتاجه، لاسيما أن فضاءات الحلّاقين تتغيّر من جيلٍ لآخر، ونلاحظ ذلك في اختلاف الديكور، والموسيقى، وتوزيع الكراسي، واللباس، والتفاعل في فترات الانتظار والمواضيع التي يجري التداول فيها. يبدو أننا سنستأنف التحليل تحت الشّعار التالي: "هُنا تُصنَع الذكورات سرًا".
الحلاقة، اللغة والذكورة
يشير جان ماري لو غال2 (Jean-Marie le Gall) إلى أنّ الحلاقة للمرة الأولى تُعتبر حدثًا جللًا لأنها تُجسّد طقس العبور الأول (un rite de passage)، إذ تختزن دلالةً عميقةً على الانتقال من مرحلة الطفولة التي تتميز بقصر الإدراك وتقبل الأوامر والتوجيهات إلى مرحلة الذكورة المبنيّة، أي رسم حدود الرجولة اجتماعيًا. محلّ الحلاقة هو الفضاء الحميم والخاص لبناء هذه الذكورة، وفيه تتمّ عملية صناعة الرجولة المبنيّة وفقًا للمعايير الاجتماعية للاعتناء بالمظهر الخارجي (اللّحى وقص الشعر) والامتداد السوسيو-سيكولوجي للذكورة، والتي تساهم في صوغها مختلفُ القواميس اللغوية المتشابكة.
اللغة هي عاملٌ أساسي جدًا، فهي التي تُتيح تحويل التصوّرات الاجتماعية إلى ممكناتٍ أدائية، وهذا تحديدًا ما يهتم به التحليل الجندري
اللغة هي عاملٌ أساسي جدًا، فهي التي تُتيح تحويل التصوّرات الاجتماعية إلى ممكناتٍ أدائية، وهذا تحديدًا ما يهتم به التحليل الجندري. لنوردَ في هذا السياق مثالَ كلمة "زبّي" الشائعة جدًا في الاستخدام الشعبي التونسي، وهي تعني حرفيًا "قضيبي"، لكنها تخفي دلالاتٍ ومعانيَ متعددةً جدًا. ففي الفضاءات العامة على سبيل المثال، حيث هناك اختلاطٌ بين الرجال والنساء، ما أن يتلفّظ أحدُهم بهذه الكلمة حتى تأتي ردّات الفعل إما استحياءً أو مطالبةً بالامتناع عن إطلاق الكلمات "البذيئة"، ما يكشف عن تابو القضيب العربي، أو على نحوٍ أكثر تحديدًا، مشكلة الجنسانية ومن ثم مشكلة الجندر اللتين تُفضيان إلى استتباب التفوّق الرمزي للقضيب واستمراره. لكن تجدر الإشارة أيضًا إلى أن دلالة كلمة "زبّي" تختلف عندما تستخدمها النساء، لأنها تُعتبر علامة الحطّ من التمييز الجندري، كأنما التدنيس يحدث بسُلطة الكلمة ذاتها وحسب.
وبالعودة إلى فضاء الحلاقة والحلّاقين، نجد أنّ استخدام كلمة "زبّي" يتواتر بشكلٍ ملحوظ، وقد لا نتفطّن إلى تعدّد تلك اللفظة بتعدّد المعاني التي تدلّ عليها وإمكانيات الأداء السيكولوجي والذاتي المُرافق لها، إذ يُمكن لكلمة "زبّي" مثلًا أن تحيل على الغضب ("فُك على الزبّي" ويُستدلّ على معنى الغضب من خلال نبرة الصوت)، أو الدهشة ("يا الزبّي!")، أو الاستياء ("زبّي" بنبرةٍ خاصّة)، أو الفرح ( يا الزبّي...) وغير ذلك من الأحوال والمواقف.
تتباين أجيالُ محالّ الحلاقة في تناولها مُختلف هذه الاستعمالات اللغوية. مثلًا، تتميز محالّ حلاقة الأجيال الأكبر سنًا بالصرامة في التعامل، وتُعتبر اللغة عاملًا أساسيًا في فرض الاحترام والهيبة والمُماسفة، مثل عدم التلفظ بكلماتٍ نابيةٍ أمام حضورٍ متنوعٍ من حيث الفئة العمرية أو المكانة الاجتماعية؛ بينما يختلف البناء اللّغوي في محال الحلاقة الخاصة بالشبّان أو الجيل الأصغر سنًا، إذ لا نجد حواجز تضبط التواصل. بناءً عليه، يمكننا القول كنتيجةٍ أوليةٍ إنّ محالّ الحلّاقين هي فضاءاتٌ لصنع الفاعلين الاجتماعيين خطابيًا، وإنّ الجنس الاجتماعي هو من جنس الكلمات والألفاظ وفعلها، ولعلّ هذا ما تعنيه جوديث باتلر في اعتبارها الإنسان بناءً لغويًا.
إنَّ احتكار كلمةٍ واحدةٍ (مثل كلمة "زبّي" التي تطرقنا إليها سابقًا) داخل فضاء تنشئةٍ اجتماعيةٍ يُخلّفُ سوءًا بالغًا، إذ يتقلّص المعجمُ العام فيه، ما يجعل العبورَ إلى الأداء العنيف أمرًا أسهل وفق ترجيحنا؛ فعدم القدرة على المحاججة والتعبير عن الرأي يدفع بنا للاتكال على التعبير الجسماني الذي قد يصبح إحالةً على العنف. ولعلّ هذا يفسر الكمّ الهائل من ردّات الفعل المبنيّة عليه التي تتخبّط فيها الذكورة التونسية أو غيرها.
الفضاء، الديكور والأساليب
يعتبر إدموند رونالد ليش3 (Edmund Ronald Leach) أن قصّ الشعر هو أحد أهم طقوس تجاوز النجاسة، لأنَّ الأنثروبولوجيا تعتبر بدايةَ الحلاقة بالمجمل سلوكيةً رمزيةً تتمثّل ماهيّتها في خلق التواصل، وترجع النجاسة هنا إلى ارتباط الشعر بالمناطق التناسلية أو الإبط أو المنطقة الشرجية أو الفم، أي أكثر الأشياء خلوًا من "النقاء". ولأن الشعر يرتبط في المخيال العام بالبراز والبول والسائل المنويّ ودم الحيض والبصاق، يُعتبر قصّ الشعر من "طقوس الفصل" أو "العبور" (من النجاسة إلى الطهارة) إذا ما ابتغينا الدقة؛ أي كأنما نحن إزاء فصل أمرٍ عن آخر أو مرحلةٍ عن أخرى. لذلك، تتخذ الظروف المرافقة لعملية الحلق طابعًا احتفاليًا صامتًا تُعبّر عنه اللغة في نوعٍ من عدم التذكير به أو الالتفات التام عنه. فمثلًا، ما أن ينتهي أحدهم من حلاقة اللّحية أو قصّ الشعر حتى تُتوّج العملية بكلمة "صَحة" على ألسنة الحاضرين، وفيها نوعٌ من التهنئة.
تتخذ الظروف المرافقة لعملية الحلق طابعًا احتفاليًا صامتًا تُعبّر عنه اللغة في نوعٍ من عدم التذكير به أو الالتفات التام عنه
وإذا ما اعتبرنا الحلاقة طقسَ عبور، يعني ذلك أن ثمّة فضاءٌ يحتوي هذا الطقس، وهو تحديدًا ما يميّز محالّ الحلاقة: أوّلًا، تعمل هذه الفضاءات على خلق تمييزٍ جندري بين المُذكر والمؤنث؛ وثانيًا، إذا ما تناولنا الجانب "البرّاني" أو الخارجي، نلحظ أنّ محالّ الحلاقة النسائية هي فضاءاتٌ كتومةٌ تحتجب وراء ستاراتٍ تُعيق النظر إلى داخلها، بينما تتّسم محالّ الحلاقة الرجالية بطابعٍ حميم، لكنها لا تتوارى، بل تبقى مكشوفةً وتتموقع عادةً إلى جانب أماكن أخرى ممهورةٍ بمشهديّةٍ ذكوريةٍ صارخةٍ مثل المقاهي أو قاعات الألعاب.
وتختلف المحالّ من الداخل تمامًا كما تختلف الاستخدامات اللغوية بين أجيال الحلّاقين، فالأوائل حافظوا على الطابع التقليدي في توزيع الفضاء: كراسي للزبائن، وأدواتٌ أوليةٌ للاستعمال، وراديو أو تلفازٌ يعرض أشرطةً وثائقيةً تلفزيةً نظرًا لحيادها التام، لاسيما ما كانت تقدّمه القناة الوطنية التونسية. أما محالّ الحلاقة العصرية أو صالونات التجميل - وذلك ما يُكتب عليها فعلًا - فأدخلَت تغييراتٍ عديدةً مثل التنوع الكبير جدًا في المواد الكيميائية التي تُستعمل في تصفيف ومعالجة الشعر واللّحى، وتعدد الأدوات المستعملة في الغسل والقصّ، وصولًا إلى اختلاف إمكانيات الإعداد الخارجي في الظهور. كلّ ذلك لا يعني إلا أمرًا واحدًا: إنّ قوة الصّوَر الرمزية التي خلّفها التصوّر الاستهلاكي للمجتمعات الرأسمالية الكبرى، أدركَت طريقها في إعداد الذكورات وفقًا للمشهدية التي تطلبها، أو لنقُل ضمن "مجتمع الفرجة" الذي ترغب فيه، على الرغم من أنَّ بعض طرق الحلاقة باتت تولّد آليّات وصمٍ اجتماعي من قبيل ’"فرار" (frère) أو الاتهام بـ "الميوعة".
تُرافق عملية الحلاقة أيضًا أجواءٌ موسيقيةٌ خاصةٌ في معظم الأحيان، ويُلاحظ أنّ غالبية أصحاب المحالّ يشغّلون موسيقى الرّاب الصاخبة. وتتمثّل المعضلة الأساسية هنا في كون هذه الموسيقى أيضًا تكوينٌ لغويٌ آخر يهتم بصنعنا، وهي بمعظمها تروّج للتمييز الجندري، إذ تتواتر فيها كلماتٌ تحقّر النساء وتحضّ على ممارسة العنف الرمزي عليهنّ وعلى الأقلّيات المُجتمعية. وتحمل أغاني الرّاب تناقضاتٍ فكريةً واجتماعيةً عديدة، لذا نعتبرها ضمن الآليّات التي تساهم في صنع الذكورات السّامة والتطبيع مع العنف. إنَّ الدعوة إلى الإساءة الجسدية والمعنوية التي يُنتجها عددٌ من مُغنّي الرّاب هي بمثابة دعوة إلى الانضباط والامتثال لصورة الذكورة الجماهيرية، أي تلك التي نجدها في كلّ مكانٍ وزمان.
يُلاحظ أنّ غالبية أصحاب المحالّ يشغّلون موسيقى الرّاب الصاخبة. وتتمثّل المعضلة الأساسية هنا في كون هذه الموسيقى أيضًا تكوينٌ لغويٌ آخر يهتم بصنعنا، وهي بمعظمها تروّج للتمييز الجندري
عجيبٌ أمرُ محالّ الحلاقة، فهي لا تبدو مجرد مجالٍ للعناية الخارجية بالجسد، إذ تتمظهرُ فيها أزمةُ الذكورة بين الأجيال المختلفة: الجيل الشّاب الذي يعتني جيدًا بأدقّ تفاصيل الوجه مثل قصّ الشعر وتلوينه وتصفيفه بمعداتٍ كانت ذات زمنٍ حكرًا على النساء،4 مقابل جيل الحلّاقين الذين امتهنوا الحلاقة في ظرفيةٍ زمنيةٍ خاصّةٍ ضمن السياق التونسي المحلّي، تميّزَت بمواكبة حركة البناء في مرحلة ما بعد الاحتلال وصعود الحركات القومية والإسلامية، ما زعزعَ مشهديةَ الذكورة حينها وجعلها تنضبطُ لمعايير نمطيةٍ بالمجمل، لكن صارمة وحريصة على الفصل عميقًا بين الأدوار الجندرية، ذلك أنّها "رجولاتٌ منكسرةٌ نرجسيًا"، فلا نجد على سبيل المثال تلوينًا للشعر أو اهتمامًا مفرطًا بقصّه وتسريحه.
إذًا، ليسَت محالّ الحلاقة مجرّد موعدٍ روتينيّ يحدث بين فينةٍ وأخرى، بل هي محالّ للتنشئة الاجتماعية بالمعنى السوسيولوجي، ومجالٌ لصنعنا لغويًا وأدائيًا وفق منظور التحليل الجندري.
- 1نرى فيها إشارةً بالغة الأهمية على استبطان المعايير الدينية وتفعيلها ضمن قصويةٍ ما.
- 2Jean-Marie Le Gall, “Un idéal masculin? Barbes et moustaches (xve-xviiie siècles)”, Revue Historique, Octobre 2012, T. 314, PUF, pp. 981-984
- 3E. R. Leach, “Magical Hair”, The Journal of the Royal Anthropological Institute of Great Britain and Ireland, Vol.88, No. 2 (Jul. - Dec., 1958), pp. 147-164
- 4لا يمكن اعتبار هذا الأمر عبورًا جندريًا أو تحولًا في الأدوار الاجتماعية أو إزالةً للحدود بين النساء والرجال، بل هو يندرج في إطار مجتمع الاستهلاك الذي يخضع لأهمية المشهدية وجعلنا بداية كائنات تُشاهد وترى دون أن تكون قادرة على الكلام.
إضافة تعليق جديد