فعل تحرّش مُثبت ومُوثّق بالصور. مشهد لا يحتاج إلى تأويلات المؤوّلين والمدافعين عن المتهم السياسي التونسي زهير مخلوف والذين تسارعوا إلى تمجيد تاريخه النضالي ضدّ نظام بن علي الدكتاتوري، مُتجاهلين الحالة النفسية للضحيّة.
تابعتُ عن كثب تطورات قضية تحرّش السياسي التونسي زهير مخلوف بفتاة تبلغ من العمر 19 سنة تقطن إحدى معتمديّات (حسب التقسيم الإداري التونسي المعتمدية هي الدائرة أو المنطقة) ولاية (محافظة) نابل وذلك قبل ثلاثة أيام من موعد الانتخابات الرئاسيّة في دورها الثاني. بدأت القصة عندما أرسلت الفتاة صور زهير مخلوف وهو بصدد الاستمناء في سيّارته بعد أن لاحقها أمام المعهد، إلى إحدى المُشرفات على مجموعة مغلقة لفتيات المنطقة حتى تتعرف على هويّة المتحرّش. وأرفقت الصور برسالة نصيّة تحدثت فيها عن حالتها النفسية وعن تفاصيل الحادثة لتتفاجأ في ساعات متأخرة من الليل بأنه سياسيّ معروف وفائز بمقعد في البرلمان بالانتخابات التشريعية الأخيرة عن حزب "قلب تونس". تسرّبت الصور بسرعة رهيبة خارج المجموعة المغلقة وتناقلها روّاد الفضاء الأزرق بهدف التشهير بالمتحرّش "المناضل".
فالصور والضجّة التي أثيرت حول الملف في الفضاء الافتراضي لم تمنع الخطابات الذكوريّة المُدافعة عن المُتحرّش من تصدّر النقاش العام
كان يوم الجمعة اليوم الأطول في العمل. غادرت مكتبي مثقلة. كلّ التعليقات المُدينة للفتاة كانت كفيلة لتحويل هذا الموضوع إلى عبء لم أستطع التخلّص منه. فالصور والضجّة التي أثيرت حول الملف في الفضاء الافتراضي لم تمنع الخطابات الذكوريّة المُدافعة عن المُتحرّش من تصدّر النقاش العام حول المسألة. "كيف نتثبّت من صحّة التهم؟ لماذا هذا التوقيت بالذات؟ هل هو فعل مُسيّس لقطع الطريق على نبيل القروي المُترشّح في الدورة الثانية للرئاسيّة؟ لماذا يتطاولون على شخص زهير؟ وماذا عن رصيده النضاليّ؟ المعلومات مغلوطة ألم نقل لكم؟ الفتاة ليست قاصرًا...". تفجرّت عن الموضوع أبعاد خطيرة وتحوّلت القضية من قضية تحرّش إلى قضية سياسية قوامها التكذيب ومحاولات تبرئة المُتّهم والتغطية على فضحيته الأخلاقية. دون أن نتجاهل تطبيع عشرات الأشخاص مع العنف بوصم الضحيّة-الناجية.
نظراته المريبة وتأوّهاته المُنتشية، يده التي تغطيها مادة لزجة بيضاء اللون وقضيبه العاري كانت كفيلة بنقل المشهد كاملا وبوضوح. فعل تحرّش مُثبت ومُوثّق بالصور. مشهد لا يحتاج إلى تأويلات المؤوّلين والمدافعين عن المتهم والذين تسارعوا إلى تمجيد تاريخه النضالي ضدّ نظام بن علي الدكتاتوري، مُتجاهلين الحالة النفسية للضحيّة. بعض المتدخلين حتى من وزارات معنيّة لم يستجيبوا بالسرعة المطلوبة للتحري ومناصرة الفتاة. تحرّكت العديد من الناشطات النسويّات للتنديد بما حصل والتشهير بالمناضل الفذّ زهير مخلوف من أجل أن تتحرّك النيابة العمومية وتُحيل القضية على التحقيق، وأطلقن هاشتاغ
تلقّى مندوب حماية الطفولة النداء الأول باعتبار أن الحادثة جدّت أمام معهد ثانوي وبمحاذاة مبيت الفتيات مما يمسّ بسلامة الفتيات وحرمتهن الجسدية والنفسية، لكنه تراجع عن التكفّل بالملف حالما تبيّن أن المتضرّرة ليست قاصرًا، مُصرحًا بأنّ الأمر يخرج عن صلاحياته.
لم يتوقّف النزيف، ولم أتوقّف عن المتابعة بصفتي مُكلّفة بمشروع يتعلّق بمناهضة العنف ضد النساء والفتيات بإحدى الجمعيات النسوية التونسية. وبين الرواية والأخرى لا يغادر المشهد ذهني. مثل الضحيّة-الناجية، لم أكن أعرف زهير مخلوف. لا اسمه ولا شكله ولا نضالاته ولا حتى انتماءه لحزب "قلب تونس". ما يُهمّني هو فعل التحرّش الذي أعمل جاهدة من أجل مكافحته، وأساند بشكل مطلق النساء والفتيات اللاّتي يكسرن حاجز الصمت ويتكلّمن بصوت عالٍ وواثق عمّا تعرّضن له من عنف جندري. هؤلاء النسوة والفتيات يقدمن سرديّات أخرى للعنف المُسلّط ضدّهن، سرديات مختلفة في نسقها وسياقاتها وتفاصيلها عن الروايات الرسمية للذكورية وحججها الواهية.
مازال القضاء التونسي يتأخر في البتّ في هذه الجرائم وتنفيذ الأحكام المتعلّقة بها وهو ما سيُوظّفه النائب زهير مخلوف لصالحه
المُتحرّش في هذه القضية ليس مُجرّد عابر منحرف يعترض طريقنا كلّ يوم وإنما هو شخص معروف وسيتمتع بالحصانة البرلمانية حال تأديته القسم خلال الأسابيع المقبلة. وتُمثّل هذه الحصانة غطاءً قانونيًا للنوّاب حتى يفلتوا من المحاسبة في قضايا قد تصل إلى قضايا فساد وإرهاب وتببيض أموال فما بالك بالجرائم الجنسية. مازال القضاء التونسي يتأخر في البتّ في هذه الجرائم وتنفيذ الأحكام المتعلّقة بها وهو ما سيُوظّفه النائب زهير مخلوف لصالحه. وككل النهايات السعيدة والمنتظرة ستُعلّق القضية إلى أن يتحصّل النائب المتحرّش على الحصانة، وتُنسى كأنها لم تكن.
تسارعت وسائل الإعلام بمختلف توجّهاتها إلى الاتصال بالفتاة وتناقل الخبر "المُثير"، كما تحوّلت بعض الائتلافات الحزبية إلى منزلها لتقتات من الواقعة وتوظّفها سياسيًا. كان المُحرّك الأساسي لهذه المحاولات خدمة مصالح ضيقة لهذا الطرف أو ذاك، غير مراعية للحالة النفسية للمتضرّرة. وصل الأمر إلى انخراط أحد الإذاعات الجهويّة في نشر تصريحات كاذبة لامرأة انتحلت شخصية والدة الفتاة وتكلمت باسمها في حين أنّ الناجية وعائلتها لم يقدموا أية تصريحات إعلامية، مما أعاد الحادثة إلى مربّع التشكيك والوصم.
رغم الارتباك والحزن الواضح كانت واثقة من نفسها ومُصرّة على تتبّع المتهم ومحاسبته
التقيت بالفتاة بعد يومين من الحادثة. تفحّصتني بريبة وكأنها تسأل هل سأشير إليها مثل الكثيرين بأصابع الاتهام. لم أبدِ أيّ تعاطف معها والتزمت بـ"الحياد" مُجبرة. رافقتني الأخصائية النفسية التي ستتولّى الاستماع إليها والإحاطة بها. رغم الارتباك والحزن الواضح كانت واثقة من نفسها ومُصرّة على تتبّع المتهم ومحاسبته. زاد فضولي لمعرفة التفاصيل المخفية والرواية كاملة دون تشويه. أسرّت لنا بأنّها مازالت تحت وقع الصدمة وأنها لم تكن تتوقّع بأنّ القضية ستُسيّس، خاصة وأنها لم تكن تعرف هويّة المتحرّش. فتاة صغيرة لا تعرف شيئًا عن أمور السياسة وتجاذباتها المُعقّدة. صار التحرّش مشهدًا اعتياديًا في حيّها وأمام معهدها وتحت جدران المبيت الجامعي للفتيات. فتيات يعترض طريقهنّ كل يوم، مُتحرّشٌ جديد وفي ثوب جديد. مُتحرّش يستدرجهنّ لممارسة الجنس تحت الأشجار، وآخر يُعرّي أيره عليهن، وكثيرون يسترقون النظرات ويستمنون في الفضاء العام. لا يهمّهنّ نسبهم أو انتمائهم السياسي أو عملهم وطبقتهم الاجتماعية، كلّ ما يهمهنّ هو أنهم مُتحرّشون. ووسط حديث مشحون مع اثنين من المحامين وممثّلات عن المنظمات النسوية التي تحرّكت لمساعدتها بالإضافة إلى الأخصائية النفسية، تفطّنت مُخاطبتنا إلى أنّ الملف سيُعلّق، فتوقّفت حالما سمعت أحدهم يتحدث عن حفظ الملف قائلة "لماذا يُحفظ الملف؟".
عُدت إلى منزلي وأنا أفكّر في اليوم الذي ستعود فيه إلى معهدها وكيف سيستقبلها زملاؤها ولكن لحسن الحظ أن صديقاتها كنّ متضامنات معها. الكل يتحدث عن النائب وموقعه السياسي ولم يُفكر أحد في تلميذة الباكالوريا. سنة مفصليّة للمرور إلى الكليّات وقاعات المحاضرات، للمرور إلى وعي جديد. تحوّل الوسط المدرسي مؤخرًا إلى وسط غير آمن بسبب حالات العنف والتحرّش والاعتداءات الجنسية المتكررة في ظل ضعف تدخّل الدولة بمختلف هياكلها ووزاراتها لحماية التلاميذ والتلميذات. الإحصائيات الوحيدة التي قدّمها وزير التربية كانت في مداخلة إذاعية إثر قضية تحرّش معلّم بأكثر من 20 طفلا بولاية صفاقس، حيث كشف أنّ حالات التحرش الجنسي بالتلاميذ والتلميذات خلال الفترة المترواحة بين 1 أكتوبر 2018 و18 مارس 2019 بلغت 87 شبهة تحرش بمختلف أنواعها. لم تتوقّف هذه الجرائم منذ ذلك الوقت، آخرها جريمة المعلّم الذي اعتدى علي 5 تلاميذ إناث وذكور في إحدى المدارس في نفس الجهة بداية شهر أكتوبر. تتواصل الاعتداءات الجنسية وسط تعتيم خطير وحجب للمعطيات التي قد تسمح لنا بتقدير حجم الضرر الناجم عن العنف كي نتصدّى له.
لا نعرف نحن الناشطات دائمًا كيف نتحرّك وسط كلّ هذه التجاذبات للتصدّي للعنف الجندري، ولا نعرف كيف نوحّد أصواتنا من أجل تغيير فعليّ. لطالما أخبرنا أنفسنا أن معركتنا الأساسية تتمحور حول كسر رابط السيطرة الأبويّة والذكورية على أرواحنا وذواتنا وأجسادنا وبالتالي تجاوز حاجز الصمت وقلب الوصم الاجتماعي من الضحيّة -الناجية إلى المعتدي. لكننا نصطدم في كل مرة بخطابات محافظة تشوّه معاييرنا الاجتماعية وتفكيرنا. تسدّ هذه الخطابات وما تُنتجه من صور نمطية كلّ منافذ التحرّر. ثم يبقى الوصم، الضريبة الأقسى التي تتحملها كل واحدة فينا من أجل تحرير فضاء العيش المشترك من العنف.
إضافة تعليق جديد