صورة نفسي الفقيرة*

يُشاع أن العيون هي نوافذ النفوس، والسّيلفي هي زاوية جديدة (كلّ مرّة) لمعاينة النفس وتقلّباتها الفزيولوجية والنفسية. "السّيلفي" صورة العصر.

 *عن عنوان نص هيتو شتايرل "دفاعًا عن الصّورة الفقيرة"، ترجمة: فريق مُدام.

في عصر قريب، قبل تطوير الهواتف مُزدوجة العدسات، التقط البشر الصّور الذاتية بواسطة ضبط عدّاد الوقت ثم المثول أمام العدسة، دون قراءة الصورة أو مراجعتها قبل مرور الضوء عبر غالق آلة التصوير (shutter). تعرّفت على هذه التقنيّة من والدي في طقس الصور العائلية في الرحلات ولم أقدم على فعلها باستخدام الكاميرا الأنالوغيّة لتفادي كوارث المجهول في حال لم تنجح الصورة، وما ردعني عن ذلك هو قيمة الصورة المادية وشعورٌ بالفشل أو الغربة مع هذا الوسيط الغامض. تعلّمتُ تجريب التقاط الصور الذاتية لاحقًا باستخدام هاتف محمول قديم من أختي الصغيرة، التي وثّقت تحوّلات ملامحها خلال سيرورة علاجها من السرطان. كانت تلك هي الصور الأخيرة التي تركتها، وعندما استلمتُ مهمّة تخزين هذه الصور كنتُ مبهورة بشيئين: الأوّل مهارتها التقنيّة والتمكّن من التقاط سيلفيّات بواسطة جهاز أحاديّ العدسة محدود الإمكانيّات من حيث زاوية الإمساك به. والثاني هو اتّباعها هذه العادة خلال مسار العلاج، مع رموش ومن غير رموش، لتوثيق اللحظة. قد يكون الأمر نابعًا عن ملل أو لعب، ولكن السّيلفي الأول الذي التقطته لنفسي حدث بفضل هذه الصور.

صورة 1: أيّهما أنا؟، حبر وباستيل على ورق، رسم: بكريّة صائب

صورة 1: أيّهما أنا؟، حبر وباستيل على ورق، رسم: بكريّة صائب

 

السّيلفي سلوك

يُشاع أن العيون هي نوافذ النفوس، والسّيلفي هي زاوية جديدة (كلّ مرّة) لمعاينة النفس وتقلّباتها الفزيولوجية والنفسية. "السّيلفي" صورة العصر. هو سلوكٌ فرادنيّ يعتمد على حركة تصوير الذّات باستخدام هاتف ذكي أو كاميرا أجهزة متنقّلة (حواسيب وتابلت)، يسيطر فيها مؤدّي السلوك على التقاط صورة لنفسه. نختار الزاوية الأفضل أو الزاوية الأسوأ. نستمرّ بالمحاولة. ننتهزُ فرص الإضاءة الجميلة التي تُظهر مفاتننا بوضوح، بينما نخضع إلى الرغبة بإخفاء عيوبنا حتى المجهريّة منها، أو نستغلّ هذا الطقس لصنع إيماءات بواسطة العيون والأفواه. ببساطة، هذه صورة تُحدّد رغباتنا بواسطة ما تتيحه جماليّات عدسات الكاميرا الأمامية. ننبذها ونزدريها ونعترف بتجربة حدوثها الخانعة للشعور بالوحدة، ونبالغ في هجائها، ونتسرّع بوصف الشفقة أو الغرابة التي تسري بنا عندما نراقب إحداهنّ أو أحدهم رافعين ذراعًا واحدة للفوز بلقطة لنفسه/ا، ونرتبك عندما يقتحم هذا السلوك لحظة جماعية أنيسة لالتقاط سيلفي جماعي، فالسّيلفي بالمقابل هي حاجة ملحّة للتواصل عبر وسائط جديدة تصمّم تفاعلنا مع العالم من حولنا ومع أنفسنا.

في وقت من الأوقات عشتُ في شقّة يُوجد بها مرآة واحدة صغيرة الحجم، ولقِصَر قامتي كان النّظر في المرآة مشقّة. أحبّ صورة السّيلفي، دون حرج ودون تقديم الاعتذارات (وللتّأكيد على ذلك: أذيّل هذا النّص بـ #sorrynotsorry). فمن خلالها تعرّفتُ على ملامحي عن كثب، وانتبهت إلى تحولّات طرأت على وجهي في أيّام كرب أو مرح لم أكن لألحظها أثناء النّظر في المرآة.

نثبّت الشّاشة، نضبط الإعدادات، نحرّك القطعة مستطيلة الشكل بين أصابع يد واحدة: تك وتك وتك. تتالى السّيلفيات

 

عندما لا يُعجبنا كيف يصوّرنا ويرانا الآخرون من خلال آلاتهم أو في العيون المجرّدة، نروح إلى السّيلفي متحمّسين ومتحمّسات لضبط صورتنا بأنفسنا. نثبّت الشّاشة، نضبط الإعدادات، نحرّك القطعة مستطيلة الشكل بين أصابع يد واحدة: تك وتك وتك. تتالى السّيلفيات. نتمعّنها واحدة تلو الأخرى. نسأل سؤال الجوهر: من من بينها هي الأقرب إلى نفسي أو إلى صورتي عن نفسي في وابل هذه الصّور المتشابهة؟ وأيّها تصلح للمشاركة مع الآخرين؟ وأحيانًا قد نؤكّد حيرتنا حول "من أجل مَن نلتقط هذه الصّور؟" باستخدام هاشتاغات تبرّر التقاطنا لهذه اللحظة الحميميّة التي احتجناها "فِقت هيك wokeuplikethis#؛ سيلفي عديم الحياء shamelessseflie#؛ سيلفي عطلة الأحد sundayselfie#؛ دون ميك أب nomakeup#". ويكون أثر عرض هذه اللّحظة مؤقتًا.

السّيلفي هي صورة محدودة الدّلالات. موضوعها هو صانعها أو صانعتها ومشاركتها إفصاحٌ وقول. مرهونة بهاتف ذكيّ واتصال بالشبكة. هي صورة منسيّة بعد برهة، تفقد صلاحيتها بسرعة فائقة وكثيرًا ما تلقى مصيرها في سلّة المهملات. ولكن فعل التقاطها ولحظة مشاركتها حركة ملفتة دائمًا تعكس معطيات عديدة لو شهدنا عملية وقوعها مثل الجيل والجندر. قيمتها فردانيّة وممارسة التقاطها تشبه تمعّن وجوهنا في مرآة جَيب تُرافقنا ليلًا نهارًا.

تصوير الذّات 

أحتاج إلى نظّاراتي دائمًا كي أرى انكسارات الضوء على الأشياء. وبالرغم من رفقتي الطويلة لهذا الحاجز الزجاجيّ، تفوتني حدّة الأشياء فوق اليابسة (على عكس النظر في حوض سباحة) على جميع الأحوال، حتى عند استخدامي للعدسات اللاصقة. "تراجع في الرؤية وانحراف بسيط للعين". هذه هي نتائج الفحوصات عادةً. أتساءل أحيانًا عن حجم الأشياء الحقيقي. لا يمنعني قلقي المتصاعد من تراجع نظري عن استكشاف العالم من جديد كل يوم، فالنظر هو مَنجاتي اليومية بسبب حبّي للأشكال والألوان ومحور التلاقي بينهما. إنّ مسألة الوصول إلى الوضوح تحتاج إلى بذل مجهود شخصي حتمًا على الصعيدين المرئي والذهني، وهذا ينطبق على تصوير الذّات. الوضوح وحدّة المشهد هما شيئان نسعى إليهما حتى لو قرّرنا أن نمرّر الفكرة على نحو رمزي. أنا أرى، وهذا يكلفني الكثير؛ فبالإضافة إلى انتقاء إطارٍ يليق بوجهي وتثبيت عدسات جديدة كل مرّة، هناك ثمن الصورة أمام النفس وأمام الآخرين الذي يُدفع إثر هذا الخيار من أجل رؤية العالم بحدّة أفضل. سُئلت مرّة: لماذا ترسمين نفسك بأسلوب لا يشبهكِ في الواقع بل تقومين "بتبشيعها" أحيانًا؟ من بين 80 رسمة تُمثّلني، وجدتُ رسمًا واحدًا واقعيًّا. ليس عندي جواب لهذا السّؤال، إذا كانت الكاميرا تنسخ الواقع، فأنا أحبّ نفسي بكلّ عيوبها، حتى عيوب تلك الشخصيّات التي أعتقد أنّها تشبهني أو تمثّلني ولو جزئيًا. مع الوقت، باتت النظّارة قطعة من هويّتي ومن حبّي لذاتي، وكما تعوّدتُ عليها منذ سنّ صغيرة، سأتعلّم أن أتعوّد على ما أراه من خلالها. هناك أيضًا ثمن اقتناء هواتف نقّالة صورها كثيفة العنصورات (pixels) تعطيني شعورًا لحظيًا بالاكتفاء عند التقاط صورة سيلفي مع الغروب، فهي بمثابة بطاقة بريديّة أشاركها مع الأكفّاء بمعاينة وجهي والمنظر خلفي في لحظة جميلة، أو سيلفي مرآة لتوثيق انعكاسي الخاطف أمام سطح عاكس.

صورة 2: تصوير ذاتيّ، ألوان مائيّة ورصاص على ورق، رسم: بكريّة صائب

صورة 2: تصوير ذاتيّ، ألوان مائيّة ورصاص على ورق، رسم: بكريّة صائب

"أقدّم لكم نفسي، أنا سيّدة لا تعرفون هويّتها الحقيقية في الحياة اليومية، ولكن ليس عندي مانع أن أكشف لكم حالي وتجاعيدي على الملأ"

 

تُصوّر الفنانة الأمريكية سيندي شيرمان نفسها في وضعيّات مختلفة منذ 40 عامًا، التقطت خلالها ما يزيد عن 500 صورة لعبت فيها سيندي أدوارًا عديدة؛ تنكّرت بالملابس ومساحيق الوجه والباروكات، توازي ما نراه في فلاتر سناب تشات أو إنستغرام، كانت فتاة وامرأة وشخصيّة خياليّة بمراحل عمريّة مختلفة، بالأبيض والأسود وأيضًا بالألوان: ممثلّات مزجّجات بالبوتوكس، عارضات أزياء، شخصيّات خيالية من أفلام ذائعة الصّيت. تموت شخصيّات شيرمان مع كلّ صورة، وتعود هي نفسها بالظّهور بهيئة جديدة. سيندي هنا هي صانعة الصورة وهي أيضًا الوسيط. هل هذه الصور بمثابة صورة ذاتية أم مجاز؟ وهل يموت الغرض من صورها بعد إتمام عملية التصوير، أو بعد إزالة باروكات الشعر والزينة، أم بعد مشاركتها للفرجة؟ بينما يُدرَجُ اسم شيرمان في قوائم فنانات الحركة النّسوية، نلاحظ أنّها كتومة، لا تريد شرح ماهيّة أعمالها وترفض الانصياع إلى أيّ تصنيف. صورها تحمل عنوانًا ثابتًا لا يُصرّح بأيّة دلالات من شأنها أن توجّه المتفرّج(ة) سوى فحوى الصورة: "دون عنوان - #(رقم متغيّر)". في 2017، أزالت سيندي قفل الخصوصية عن حسابها الشخصي على إنستغرام وفيه تعرض صورًا لوجهها باستخدام فلاتر تمسخ ملامحها بشكلٍ مسلٍّ وساخر وصاعق في آن. في خطوتها هذه، تتجاوز شيرمان كلّ الكلام المتداول حول نرجسيّة السّيلفي أو دونيّتها وابتذالها، وتأخذنا إلى مكان آخر في مسرح هويّاتها كأنّها تقول: "أقدّم لكم ولكنّ سيلًا من السّيلفيات المجنونة متاحة للفرجة بالمجّان". صورة تُعبّر عن مزاج الربيع، وصورة عن يومها الجميل، صورة عن وعثاء السفر؛ "أقدّم لكم نفسي، أنا سيّدة لا تعرفون هويّتها الحقيقية في الحياة اليومية، ولكن ليس عندي مانع أن أكشف لكم حالي وتجاعيدي على الملأ"1 .

تتنوّع أغراض التصويرات الذاتيّة وتتراوح ما بين الشخصي والجماهيري، بين التوثيقي وبين المُعدّ للعرض

 

تصوير الذّات هو إرثٌ قديم متوارث في مدارس الفنّ الحديث. كثيرًا ما صوّر الفنّانون والفنّانات أنفسهم في وضعيّات ممسرحة ينظرون فيها نحو المتفرّج(ة) أثناء انشغالهم بالرّسم: أنا هنا وهذه أدواتي. في عودة إلى الحقبة الرومانسية في فرنسا، نرى غوستاف كوربيه، الواقعي الوفيّ، قد رسم نفسه في حالات متناقضة: في لوحة "الرّجل اليائس" (1845)، نرى الفنّان في حالة ذهول مطلق، العيون مبحلقة أمام الأبد قابضًا رأسه بين يديه، يبدو لوهلة شخصيّة مأخوذة عن فيلم أكشن هوليوودي. وفي لوحة أخرى "الفنان في مرسمه" (1855) نراه محاطًا من كلّ صوب بالناس العاديين، وبقطّة بيضاء وكلب، ونبلاء وشعراء، وشخصيّات أخرى، يمنحه حضورهم هالة، ويُبرز من خلالهم مكانته وأهميّته. تتنوّع أغراض التصويرات الذاتيّة وتتراوح ما بين الشخصي والجماهيري، بين التوثيقي وبين المُعدّ للعرض، تسرد بعض هذه التصويرات الحكايا (مثال: بورتريهات فريدا كالو)، والبعض منها تقتصر تجربة تمعّنها على تمرير شعور لحظيّ (مثال: بورتريهات فرانسيس بيكون). وتلفّها جميعًا، هذه التصويرات الحميميّة، شرنقةٌ واحدة وهي الحاجة النرجسيّة (وفق نظرية التحليل النفسي وليس بمعناها المتداول الذي يُقصد به ذمّ الشخص إثر أداء اجتماعي يتّسم بالأنانية).

في العادة، يُنظر إلى الصور بدورها نسخةً طبق الأصل عن الواقع بالمعنى الميكانيكي، وهذا ما يفرّقها عن اللوحة الفنية التي يتلقّاها المتفرّج. فهل للشخصي حدودٌ أو معالم خاصة في عصر الإنتاج المتوحش؟ للصورة عند رولان بارت وقعٌ خادع حتى وإن نقلتْ طبيعة الشّخص أو المشهد، فهي خيار واعٍ اتّخذه المصوّر عن قصد، وقد مرّ في إدراكه قبل التّنفيذ. يقول بارت عن لحظة الوقوف أمام العدسة: "أقوم ببناء نفسي أثناء اتّخاذ موضعي أمام الكاميرا، أخترع لنفسي جسدًا آخر، وأستبق اللحظة محوّلًا إيّاها إلى صورة"2 . لحظة السّيلفي هي سلوكٌ مشابه يحتفي فيه الفرد بقوة بذاتيّته، فمن نزدري إذًا، حبّنا لذواتنا أو محاولاتنا في مبادلة النظر مع عيوننا في الشاشة أم تكاثر الوسائط التي أتاحت لنا النظر إلى أنفسنا؟ 

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.