حسناً صرتُ امرأة، لكنّني لم أعبر وحيدة. عبرت معي كل أشكال السخرية فوق هذا الكوكب.
أؤمن بأنني بقرة. ترسّخ إيماني هذا منذ انفجر ثدياي في غفلة منّي. كنت طفلة في السادسة عشر من عمرها تلعب عند الحدّ الفاصل ما بين عالميّ الأطفال والنساء وترافق صديقاتها اللواتي انفجرن باكرًا وانضممن رسميّا إلى مُعسكر الكبار، صديقاتها اللّواتي يسخرن منها باستمرار. صرت أسرق فوط أمي الصحيّة المخبّأة في صندوق كرتونيّ موضوع أعلى أحد رفوف الحمام. أتحسّس الفوطة، أمرّر يدي فوقها ثم أرفع سروالي إلى أعلى تاركة فرجي يتحسّسها بدوره. أظلّ هكذا لبعض الوقت ثم أنزعها وأطويها بعناية شديدة حتى يصغر حجمها. أخرج من الحمام نحو المطبخ لأثبّتها في قعر سلّة الزبالة. كنت بهذا أصير امرأة لدقائق، وكان هذا كفيلا ليزداد خوفي من تأخّر عبوري ما بين هذين العالمين.
في منتصف السادسة عشر، شعرتُ بوجع شديد في موضع الثديين. كان ألمًا شديدًا، ألمٌ مفزع، كأنّ الله قد نسي سكاكينه هناك. صرتُ أُمرّر ثديي عند حافة باب بيتنا الحديدي. أضغط طرف الباب الحديديّ فوق دائرتين صغيرتين نبتتا بخجل شديد، في محاولة لتحديد مصدر الوجع وفهمه.
بعد أشهر، أتتني الدورة الشهرية.
كنت أشمّ خوف أمي. في كل مرة كنت أخبرها بوجود نقاط من الدم في سروالي كانت تتجمّد مكانها، ثم تنظر إليّ مفزوعة لتسألني بعدها: "يعني وين الدم، بالنُص أو ورا؟"، ثم تلوّح لي بيدها مستهزئة ببواسيري ومتنفّسة بعمق. وفي اليوم الذي أخبرتها فيه بخروج الدم مباشرةً من منتصف فرجي ليحطّ ما بين فخذي، صمتت وجمدت حركة عينيها. يومها كشفت لي، بصوت منخفض، عن مكان الفوط الصحية السريّ. لم نحكِ شيئًا بعدها، فقد انفجر ثدياي بشكل غريب. صرت امرأة على غفلة من الجميع، لكن امرأة بثديين هائلين. عبرت، ولكن بحمولة زائدة.
حسناً صرتُ امرأة، لكنّني لم أعبر وحيدة. عبرت معي كل أشكال السخرية فوق هذا الكوكب. صارت تضاريسي نكتة أصحابي، جيران أمي وإخوتي. كيف أوقف سيل التعليقات والأسئلة عن توقيت ظهورهما؟ عن مكانهما السري لكل هذه السنوات؟ سبب تعويضي لهما بهذا الشكل الفجّ؟ يومياتي معهما... اختفيت خلفهما فصرتهما. لا أذكر يومًا نسيت فيه تحسّسهما أو التفكير فيهما كمصيبة يجب التخلّص منها.
ولم أنس بعدها شيرين صديقتي في الفصل التي كان لها ثديان كبيران. في مرحلتنا المتوسّطة لم نرحمها أنا ورفاقي بنظراتنا الفضوليّة المُتفحّصة وتعليقاتنا السخيفة. الآن وبما أنّني أعيش نفس الوضع، أعتذر منها بصدق.
خلال وجبات العشاء المشتركة، يطلب منّي أبي دائمًا أن أتوقفّ عن الأكل وأنتبه إلى شكلي ووزني. لم أكن أحمل وزنًا زائدًا، باستثناء صدري. كان يُلمّح وكنت أفهم، فهذا أبي كيف سيحكي مع ابنته عن صدرها، عن الفجور الذي حطّ في جسدها؟
بعد ليلة قضيتها في المطبخ محاولة تعويض ما منعتني عنه عيون أبي، اكتشفت شيئًا ما أفرح قلبي.
كان الطعام ملاذي الوحيد، هربت إليه ظنًّا منّي بأنّ تراكم اللحم في كل مكان من جسدي سيجعل حجم صدري مقبولا. وهكذا كان، انطلقت رحلتي التي لن أعود بعدها فتاةً بجرّافتين أسفل الرقبة، بل سأصير الجرّافة نفسها.
أيّ نقاش عن شعري، سمنتي، صدري الهائل، كيفية إزالة الشعر من جسمي بشكل أفضل، أو ثيابي، كان كلّه ينتهي بالجملة ذاتها "بكرا بس تتزوجي".
فاضت الشحوم وتكوّر جسمي ومعه صدري. كلّ يوم تزداد المساحة التي يحتلّها جسدي طولا وعرضًا فوق هذا الكوكب. كانت أمي سعيدة، وكان الجميع سعيدًا إلا أنا. لا أشعر بشبابي وبأنوثتي. لم أكتشف المرأة التي صرتها. لن أتحسّسها ولن أدعها تنفجر لا في الحيّ ولا خارجه. بقي حبل جسدي مربوطًا في مكان ما من بيت العائلة، فتاة مُروّضة عالقة في عقد كثيرة. كلب ينتظر من يفكّ له الحبل ليذهب به من بيت العائلة إلى بيت الزوج المصون. يُروّضه ويُطعمه ويستمتع به بعد عودته من العمل. كنت في حالة انتظارٍ دائمة. كنت في حالة انتظارٍ شجّعني عليها كل من حولي: لا تقلقي، سيأتي من يقبل بحمولتك، وستتفاهمان وستعرفين ما يريد، وهكذا ستصيرين له ما يريد.
لست امرأة ولا فتاة مراهقة، لا أعرف شيئًا عن جسدي الذي تغيّر في غفلة منّي. لهذا عندما كنت أحاول التذمّر، كانت تنتظرني كدْسَةٌ من الجمل "مش مهم هلق. بكرا بس تتزوجي بتصيري تهتمي بجسمك. هلق أصلا فش داعي، لمين بدك تزبّطي جسمك؟". أيّ نقاش عن شعري، سمنتي، صدري الهائل، كيفية إزالة الشعر من جسمي بشكل أفضل، أو ثيابي، كان كلّه ينتهي بالجملة ذاتها "بكرا بس تتزوجي".
صورتي السيئة عن ذاتي أعمتني. كنت عالقة هناك في بئر عميق، أتنهّد، أبكي، أتحسّس وأنتظر.
تعزّز شعوري بأنّني بقرة سمينة وصرت أشعر بثقلها، وحجمها، ورائحتها أكثر، وكذلك بالعفن المحيط بتفاصيلها. عندما وقفت وأنا في سنّ الثانية والعشرين لأوّل مرّة أمام المرآة عارية اكتشفت أن في جسدي أشياء شبيهة بتلك التي أراها في أجساد نساء أخريات. كنت مربوطة، أحاول التحرّك يمينًا وشمالا علّني أستطيع السيطرة على أي شيء في حياتي. فشلت وكان الأمر شبه مستحيل. كان الحبل مشدودًا بشكل لا يمكن معه الفكاك. كنت أكرهني بشكل يمنعني من الحركة، من معرفتي، من البحث عمّا أريده. صورتي السيئة عن ذاتي أعمتني. كنت عالقة هناك في بئر عميق، أتنهّد، أبكي، أتحسّس وأنتظر.
عندما رأيت ملامح ما أريد لي أن أكونه، عرفتُ أنّ بقرتي تمنعني عنه. أريد الفكاك، والعمل، والمرح، والمتعة، والحبّ. لم يكن أي شيء ممكنًا ما دامت تلك البقرة تشدّ الحبل بهذه القوة. أريد أن أستعيدني. كان لي جسدٌ ولكنه جسدٌ حبيس بآخر غريب عنّي ودفعني الناس كي أكونه. عرفت أنّه عليّ ترك البقرة لهم، والهرب بعيدًا بما يزال صالحًا من هذا الجسد.
عرفتُ أنه لا بدّ لي من أن أحرّر جسدي من صورته الحالية. كنت كمن يفتح عينيه لأول مرّة. كنت أنظر لجسدي، ثم أبكي، ثم أتحسّسه ثم أبكي، ثم أتأمل تلك المرأة الراكدة في أسفل الروح.
كان كلّ شيء صعبًا. كيف أحب نفسي؟ كيف أتخلّص من أفكاري المريضة عن ذاتي؟ كيف أقبلني بعيدًا عن عيون من حولي، تعليقاتهم، نظراتهم. كيف يمكنني أن أصير ما أريده بعيدًا عن كل ما أحمله من تعقيدات في رأسي؟
في كل مرة جرّبت فيها الاهتمام بجسدي، شكلي، وجهي، تحسين مظهري كانت تلاحقني العيون والأسئلة: "مغرومة؟ لمين كل ها الشغل؟ لمين عم تضعفي؟ لا مش لابقلك، خليكي متل ما إنت…".
عندما أفكّر في احتمال أن أصير ما أحبّه، أكرهني أكثر من ذي قبل. أكرهني بشكل لا يُحتمل. أكره المرأة التي تصير تمدّ برأسها كلما استشعَرَتْ الحياة. تصير تتملّكني الرغبة لإفراغ كل ما في معدتي مرّات ومرّات. أحبّ لو أستفرغ النساء اللواتي تسكنّ هذه الروح، علّي أتخلّص منهنّ إلى الأبد. أضع إصبعي في حلقي لساعات. أصير أمدّه أكثر ولا أفلح. لا شيء يخرج من أحشاء هذه البقرة.
عندما أنتبه لتلك المرأة وهي تحاول السيطرة عليّ تتجدّد رغبتي في التقيؤ. امرأة جميلة ترفع قدمها مُحاولةً تجاوزي للخروج من باب البيت. امرأة تريد السير إلى الأمام، تريد أن تُحرق ذاك الحبل.
كان كلّ شيء مرتبطًا باستعادة ذكرياتي مع دينا أو نينا. لم أعد أذكر اسمها، ولكن تلك المرأة منذ عادت إلى مقدّمة رأسي، راح الحبل يتحلحل على مهل. مدرّسة اللغة الفرنسية في المرحلة الابتدائية. امرأة جميلة ومختلفة. كانت محطّ عيون الجميع واستغرابهم واستهزائهم أيضًا. لم أرها يومًا مُرتبكة أو خجولة أمام نظرات الطلاب والأستاذة المُتفحّصة. كانت تسير بثبات وثقة. تُغيّر تسريحتها ولون شعرها باستمرار، من البنفسجي إلى الأحمر في ظرف شهر. تضع الكثير من مساحيق التجميل وبشكل مبالغ فيه أحيانًا ولكنّها تظل جميلة. ما زالت رائحة عطرها عالقة في رأسي إلى اليوم. أتذكر جيدًا ملمس يدها وهي تضغط برفق على وجهي كي لا أشمّ رائحة المجارير التي فاحت يومًا من حمامات المدرسة. لم يحبّني أحد مثلها في هذه المدرسة. لم أكن تلميذة كسولة ولا مجتهدة، لا شديدة الذكاء ولا غبيّة. كنت البنت التي تدلدل قدميها في النهر لكنهما لا تلامسان الماء. كنت أقف عند الهامش، لكن دينا الذكية والجميلة اختارت أن تحبّني أنا. كنت أشعر بحبّها لي، كان يقينًا، تماما كحبّ جارتنا الذي لم أنسه في يوم. جاءها السرطان بعد سنوات من تخرّجي وماتت تاركةً طفلين خلفها.
أستعين بيديها ووجهها اليوم كي أتحرّر أكثر. أشدّ الحبّ الذي أغرقتني به إلى قلبي وأقول بأنني أستحقّ. لست بقرة. لا، لست بقرة. يعرف كلانا، ميسون وأنا، بأنّ البقرة المربوطة بخاصرتي هي الوهم. تُغرق كل منّا رأسها في ثديي تلك البقرة خوفًا من رغبتنا المشتركة بأن نكون على شاكلة دينا. لكن كيف سنحتمل حينها العيون؟ الاختلاف ثقيل ومتعب.
لكن في لحظة نقول بأنّ دينا ماتت سعيدة.
وهذا على الأرجح ما سيكون.
التعليقات
مقال رائع رائع و مساعد جداً
مذهلة
إضافة تعليق جديد