كيف نتخلّى عن تعاليم الرجولة في المهجر؟

بما أنّني ترعرعت وعشت في عدّة مدنٍ أوروبية، وتحديدًا تلك التي ينتمي غالبية سكّانها إلى أصولٍ غرب آسيوية، ألاحظ أنّ الرجولة التي أتحرّك في ظلّها يوميًا جزءٌ من ثقافتي الخاصّة، فأتساءل بطبيعة الحال عن كيفية تجذّر الرجولة في حياة الرجال في الشتات. 

ككاتب ترجع أصوله إلى منطقة غرب آسيا، وُلد ونشأ في المهجر، اعتدت على قراءة عشرات المقالات التي تغوص في "الصراع بين عالمَيْن"؛ تحديدًا "الشرق الأوسط"1 والغرب. على الرغم من أن هذه المقالات تعطي فكرةً عن التفاعلات بين العالمَيْن، إلا أن الكثير منها يقع في فخّ رؤية المنطقتين على أنّهما ساحتان منقسمتان كليًا، ويتجاهل إرث الاستعمار والتاريخ المعقّد للهجرة الذي لطالما ربط بينهما على مرّ القرون. لنسأل مثلًا: كيف أثّرت هذه التفاعلات في هوية الفرد والجماعة في بلاد الشتات؟ قد يضيء تحليل الرجولة في الشتات الغرب آسيوي على بعض هذه المسائل ويستكشفها بالتفصيل، وهذا ما أحاول إظهاره هنا من خلال تجاربي الخاصّة

كنت بعمر السادسة عشرة عندما تقبّلت هويتي الجنسية، واعتقدت حينها أنّني "انتهيت" من مهمّة تجريد نفسي في وجه تسميات المجتمع: شابٌ مثليٌّ متأنّث. لكنّني كنت مخطئًا، وأدركت لاحقًا أنّ ما فعلته لم يقترب حتى من سبر غور المسألة. حتى عمر الثامنة عشرة، كنت أعتقد أنّني رجل متوافق الجندر. كنت أمتثل لمعايير الرجولة التي كنت أراها بين رجال عائلتي، من دون تشكيك فيها، كابتًا الانزعاج الذي كان يخالجني حيال عدم قدرتي على تبنّي تلك القواعد السلوكية التي بدت صارمة. لعلّ المرّة الأولى التي بدأت فيها بالتساؤل عن هويتي الجندرية بشكلٍ نقدي كانت عندما تعرّفت على ثقافة "الدراغ" أو الرجال الذين يرتدون ملابس نسائية ويتصرّفون تصرّفات أنثوية. لكنّني هنا لا أتحدّث عن الدراغ التجاري المفرط الأنثوية، مثل ذلك الذي يتّبعه روبول RuPaul وقاعدته الجماهيرية السامّة، إنّما أعني ثقافة الدراغ الموجودة على أرض الواقع والجميلة بنقصها والتي تموّه التعريفات الجندرية كوسيلة لتحدّي ديناميات القوة القائمة بدلًا من خلق علامات تجارية مُربحة. كنت أشاهد المؤدّين الموهوبين يكسرون قواعد الرجولة التي كنت أضبط سلوكي باتّباعها، ويرقصون، ويطابقون شفاههم مع الأغاني بإيقاع وموهبة لا عيب فيهما على المسرح. 

بدأت أدرك أنّ تعبيري الشخصي عن جندري اقتصر على ارتدائي معطفًا وسروال جينز وجزمة، ولم تكُن تفارقني رغبةٌ ملحّةٌ بتوسيع آفاقي واستكشاف العالم الأبعد من هذا الأداء المحدود للرجولة. رُحت أقرأ مقالاتٍ وكتبًا ألّفها مفكّرون كوير راديكاليون لفهم البنية الجندرية والسياسات المحيطة بها، ما دفعني بالتالي إلى البحث عن مجتمعات أستطيع أن أعطي سياقًا لصراعي ضمنها وأن أفهم صراعات الآخرين فيها. فبدأت أخوض تجربتي الخاصّة مع الملابس والأنسجة التي تُصنّف على أنها "نسائية"، ورحت أتألّق بالمجوهرات وأضع الماكياج عندما أقصد المساحات الاجتماعية وأسمح لنفسي بالتعبير عن ليونة جندرية أكثر وضوحًا. جعلتني هذه التجارب أقوى، وابتعدت تدريجيًا عن الأشخاص الذين يعتبرون المغايرة الجنسية و/أو توافق الجندر المعيار في حياتهم من دون منازع، بمَن فيهم أصدقاءٌ من أيّام الجامعة ورفاق سكن سابقين، وغيرهم. كنت سعيدًا وأنا أختبر تجربتي الأولى الفعلية في الشعور بالارتياح لناحية ميولي الجندرية.

لكنّ حالة البهجة هذه لم تكُن حالتي الوحيدة ولا الدائمة، تمامًا كغيرها من أشكال المقاومة. تملّكني خوف متجذّر من التعرّض للمضايقة الجسدية أو الاعتداء، ولم يفارقني قطّ. أعيش حالة "كرّ وفرّ" مستمرّة. وحدّثوا ولا حرج عن الحاجة الدائمة إلى التكتّم لمواءمة توقعات عائلتي، والتي تشعرني بعدم أمانٍ دائم. لكنني إذ أقول هذا لا أعني أنّ هذا الشعور بعدم الأمان تتسبّبت به حصريًا عائلتي أو المجتمع في بلاد الشتات. 

عندما يشتدّ هذا الشعور بعدم الأمان لدرجةٍ لا تُحتمل، مثلًا عندما أتوجّه إلى المنزل وحيدًا في طريق عودتي من النادي الليلي، أو يخالجني خوف "فضح ميولي الجنسية" لأفراد أسرتي على الإنترنت أو لآخرين من مجتمعي، أحاول أن أتذكّر أنّ الخيارات التي أتّخذها للتعريف عن نفسي خارج إطار التوقعات المجتمعية للرجولة قد لا يتشاركها مَن حولي، لكنّها تستحقّ الاحترام من دون أيّ شك. 

لكنّ الاحترام تجربةٌ معقّدةٌ ومتضاربةٌ. عندما أشعر بالأمان، مثلًا، أتذكّر أنّ الأشخاص المحيطين بي هم الذين يبعثون هذا الشعور فيّ، وأحسّ أنّهم قادرون على محاولة سلبي هذا الأمان في أي لحظة. أعتقد أنّ الإحساس الفعليّ بالاحترام ينبع من التأكّد من أنّ لا أحد يستطيع سلبي الشعور بالأمان أو التشكيك فيه.

 

كيف تتشكّل الرجولة الغرب آسيوية في الشتات؟

يدفعني التوتر بين شعوري بالتمكين وقدرتي على التصرّف بحرية التي أحقّقها من خلال تعبيري الجندري، وبين شعوري اللاحق بعدم الأمان والانكشاف، يدفعني إلى محاولة تفسير ما تعنيه الرجولة بالنسبة للناس من حولي، سواء كانوا أفراد أسرتي أو غرباءً أختلط بهم في الحياة العامة.

بما أنّني ترعرعت وعشت في عدّة مدنٍ أوروبية، وتحديدًا تلك التي ينتمي غالبية سكّانها إلى أصولٍ غرب آسيوية، ألاحظ أنّ الرجولة التي أتحرّك في ظلّها يوميًا جزءٌ من ثقافتي الخاصّة، فأتساءل بطبيعة الحال عن كيفية تجذّر الرجولة في حياة الرجال في الشتات. 

تشمل طرق فهم الرجولة في بلاد الشتات استيعاب أشكال ظهورها في العنصرية ومن خلالها

على غرار مفاهيم اجتماعية أخرى كثيرة، تتداخل الرجولة مع الهوية العرقية والوطنية في بلاد الشتات، وترتبط جوهريًا بشعورنا المتخيّل بالانتماء (أو عدمه) وبروابطنا المعقّدة بـ"ديارنا". عندما نعيش في بيئاتٍ عنصرية ومتركّزة على المنظور الأوروبي، تكون المحطات المرجعية لكيفية بناء هويتنا مستمدّةً من تراثنا الثقافي لبلسمة الرفض الذي قد نواجهه في هذه البيئات. جوهريًا، يدفعنا تهميشنا إلى التركيز على القيم في منازلنا الأبوية للشعور بالتقبّل؛ وهي قيم توارثناها، بصفتنا أبناء وبنات المغتربين، في خضمّ شعورنا بالبُعد عن "ديارنا" ومحاولتنا اليائسة للتعويض عن هذا الفراغ. 

بالتالي، تشمل طرق فهم الرجولة في بلاد الشتات استيعاب أشكال ظهورها في العنصرية ومن خلالها. أتذكّر قراءة نصٍّ من تأليف ويليام صفران يزعم فيه أنّ العرب غير قادرين على الاندماج في المجتمع الفرنسي بسبب "الفروقات في نظرتهم إلى العالم"2 . لكنّني أخالفه الرأي، وأعتقد أنّ عدم اندماج العرب ناجمٌ عن طريقة استعمال الهويّات كسلاح في السياقات الغربية لتصويرها بأنّها غير متوافقة مع تجارب الهجرة والشتات. يتّضح ذلك من خلال الصورة التي ترسمها الدول الغربية عن نفسها، مدّعية بأنّها الفهيمة بالتنوّع الجندري والجنسي في محاولة لتعريف "الآخر" ثمّ إقصائه. تُجيّر هذه الدول خطاب التقبّل وتسلّعه، مصنّفةً العرب في خانة "الآخر" في هذا التقبّل أو التسامح. إذًا، تستحوذ الكيانات الغربية على خطاب التنوّع والتسامح الذي تشير إليه جاسبر بوار بـ"القومية المثلية"3 ، رابطةً تقبّل طيف الجنسانية والهوية الجندرية بنجاحات الدولة القومية. بذلك، تحاول التعريف عن نفسها ككيانات أسمى من الدول الأخرى التي لم تحذُ حذوَها، بينما تتستّر على العنف والتمييز ضدّ مجتمع الميم (المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية) في كنفها.

تروّج الكيانات الغربية أيضًا للجنسانية والهوية الجندرية في مساعيها لاستقطاب "المال الوردي" أي القدرة الشرائية لمجتمع الميم من خلال سلع تهمّه. هنا، تتحوّل هوية المنتمين والمنتميات إلى مجتمع الميم إلى سوق يمكن استغلالها ومصلحة تجارية تدّعي عبرها علامات تجارية وشركات عديدة تقبّل التنوّع لزيادة أرباحها. لكن، تزامنًا مع هذه العمليات، وضمن تعامل الغرب مع العرب ومجموعات أخرى متنوّعة من منطلق "الآخر"، يجري تجاهل التاريخ الطويل من الاحتلال، والعنف، والاستغلال الذي يطبع تفاعلاتها مع غرب آسيا وغيرها من المناطق التي تعيش مرحلة ما بعد الاستعمار. لا إشارةٌ أيضًا إلى مبادرات المناصرة والمساءلة اللاتي تقودها منظمات حقوق المرأة ومجتمع الميم المحلية داخل غرب آسيا. عوضًا عن ذلك، يُترك لنا الافتراض بأنّ الغرب دولٌ مستنيرة ومتسامحة، وأنّ منطقة غرب آسيا وجالياتها أيضًا في الشتات مقموعة وبالتالي غير متسامحة.

يتّخذ عدد كبير من الرجال الغرب آسيويين في المهجر قرار رفض التعليب الغربي للتنوّع الجندري والجنسي إذ يمنحهم هذا القرار الفرصة لترسيخ استقلاليتهم

بالتالي، تُضطرّ الرجولة في مجتمعات الشتات في غرب آسيا إلى التعايش مع هذه الثنائيات المنشأة ومواجهة معضلة الميل إلى جانب أو آخر؛ أي "صراع العالَمين" الذي ذكرته في المقدّمة. لهذا السبب، يتّخذ عدد كبير من الرجال الغرب آسيويين في المهجر قرار رفض التعليب الغربي للتنوّع الجندري والجنسي إذ يمنحهم هذا القرار الفرصة لترسيخ استقلاليتهم وقدرتهم على التصرّف في ظلّ نظام يرفضهم هو الآخر.

أستعيد سنين المراهقة، عندما خاض أحد أبناء عمومتي وأصدقاؤه تجربةً تندرج في إطار تجارب تفاعل عديدة مع حارس ملهى عنصري في وسط إحدى المدن الأوروبية. قيل لهم عندها أنّ "الملهى ليس لأمثالهم". عندما سألت قريبي عن اسم المكان، ردّ أنّ ذلك لا يهمّ، إذ أنّ جميع الملاهي تعجّ بـ"نفس الأشخاص المتصنّعين، والرجال الثملين، والمهرّجين المخنّثين، على أي حال". لا أستغرب أنّ هذا الرفض منعهم من العودة إلى تلك الأحياء للسهر مرّة أخرى، واستعاضوا عن ذلك بارتياد أحياء أكثر هامشية وقليلة الاختلاط، تحديدًا التي يغلب عليها السكان من أصول غرب آسيوية، والأفارقة، وسكّان الكاريبي. أنتج الرفض رغبة في العودة ليكونوا بين "شعبهم وأناسهم"، حيث لا يمكن للـ"مهرّجين المخنّثين" أن يرفضوهم لأنّهم ليسوا موجودين هناك أصلًا.

لكن، يقتضي التوضيح هنا أنّه على الرغم من اختبار الرجال من غرب آسيا في المهجر المعاملة العنصرية التي بدورها تثير تلك الرجولة الانفعالية، فإن ذلك لا يبرّر بأيّ شكل سوء معاملة النساء وأفراد مجتمع الميم الذين يتحمّلون أيضًا الترتيبات الهرمية السامّة واستعمال الهويّات كأسلحة. أجسادنا ليست ساحات للرجال ليمارسوا من خلالها سلطةً مبنية على الهشاشة وانعدام الأمان الذي يشعرون به، وعليهم العمل على إدراك القدرة المدمّرة لانفعالهم الشخصي، وبسرعة.

ما أصفه في هذا المقال حلقةٌ مفرغةٌ ومستمرّة من الإقصاء العنصري. لكن، بالطبع، هناك مقاومة في أوساط الكوير والعابرين والعابرات جنسيًا من جاليات غرب آسيا، سواء كانت أصواتًا حديثة النشأة أو من الجيل الثاني من المغتربين. وكأننا نشكّل ائتلافًا من التجارب الأولية ونجد مكاننا، لكن ليس في التحرّر الجنسي المُنتدب الذي نشهد على تحويله إلى سلاح في الغرب، ولا في الرجولة الانفعالية التي نشهد على انتشارها في مجتمعاتنا في الشتات. كما أنّنا لا نجد مكاننا على الهامش بين الاثنين، إنّما نتجاوزهما إلى ما هو أبعد. يتحدّى وجودنا الحرب الباردة للإيديولوجيات التي تعزّزها القومية والهيمنة الذكورية الغيرية والرأسمالية. نخلق مساحاتنا الخاصّة الخالية بأغلبها من هذه المشاعر القومية والعقد الذكورية، ونقرّر عوضًا عن ذلك أن نقبل هويتنا كما هي: فعلٌ غير محدّد بدلًا من ردّ فعلٍ جامد. 

بذلك، نجد أنفسنا غالبًا وبسهولة عرضةً للنبذ وسوء التمثيل من فئات متنوّعة من المجتمع لرفضنا تقبّل راية التحرّر الجنسي الأبيض أو قيود الذكورية الغرب آسيوية.

  • 1وضعت مصطلح "الشرق الأوسط" ضمن علامات اقتباس هنا للإشارة إلى ماضي المنطقة الاستعماري المركّب - للأسف - من أجزاء تعكس واقع حاضرنا اليوم. لكن يجب ألّا ننسى أن نطرح دائمًا السؤال التالي: "نحن في وسط شرق مَن؟" في باقي المقال، ارتأيت استعمال "غرب الآسيوي"، بهدف إفساد هذا الإرث الاستعماري ببعض الحقائق الجغرافية.
  • 2 Safran, W., 1991. ‘Diasporas in Modern Societies: Myths of Homeland and Return’. Diaspora: A Journal of Transnational Studies Vol. 1, No. 1, 83-99.
  • 3 Puar, J., 2017. ‘Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times’. Duke University Press: North Carolina.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.