يرتبط السؤال حول علاقة قضايا التعددية الجنسية والجندرية مع المؤسسة النفسية بأسئلة أكبر حول المؤسسة نفسها وطبيعتها.
يكشف الحديث عن التعددية الجنسية والجندرية في مجال الصحة النفسية في المجتمع الفلسطيني عن أزمة ليست بسيطة، كونه يخوض في موضوعين لدى كلٍّ منهما صعوباته وتحدّياته. فمجال الصحة النفسية في فلسطين ما زال قيد التطوّر، ولم يصل –نسبيًا- إلى المأسسة والاحترام الكافيين في المجتمع بعد. بشهادة المركز الفلسطيني للإرشاد فإن عددًا محدودًا من الناس في مجتمعنا يستفيدون من أو حتى يعرفون عن العلاج النفسي.
الأمر ذاته ينطبق على قضايا التعددية الجنسية والجندرية التي تكاد تكون موضوعًا مُحرّمًا في المجتمع الفلسطيني في بعض الأحيان، وتحظى بكمّ كبير من التجاهل والتهميش، بل والصد أيضًا، على الرغم من التقدم والتغيرات في الموضوعين المذكورين في السنوات الأخيرة.
يرتبط السؤال حول علاقة قضايا التعددية الجنسية والجندرية مع المؤسسة النفسية بأسئلة أكبر حول المؤسسة نفسها وطبيعتها. تُسائل المرشدة والمعالجة النفسية فداء عليّان بعد عامين من العمل الإرشادي والنفسي المنظومة العلمية النفسية بمجملها، باعتبارها منظومة قامعة، كمؤسسة العلم ككلّ.
تعتقد عليّان أنّ الدليل التشخيصي والإحصائي (DSM)، الذي تقوم عليه الغالبية العظمى من التوجهات الإرشادية والعلاجية قائمٌ بجوهره على التحكم والسيطرة، فالمُستَرشِد أو المنتفع يجب أن يُصنّف بفئة أو اضطراب أو خانة معيّنة، وهو ما تسمّيه "هوس التشخيص".
تشرح لنا عليّان هذه النقطة بالقول "لا شك أنّ التشخيص مهم في الممارسة العلاجية، فهو يحدد التداخلات الأفضل التي تناسب المسترشد/ة. ولكن هذا الهوس الزائد المتزايد الذي قد ينبع عن حاجة مؤسساتية أكثر منها علاجية، والذي يدعو للشك والريبة، ويحد من قدرة الطرفين، المرشد والمسترشد، على استبيان وفحص أسئلة المسترشد الأعمق والأهم والتي بإمكانها مساعدته/ا على الاستبصار الأقرب لذاته/ا".
مع ذلك، لا تُحمّل المسؤولية أو "الذنب" على المهنيين أو العاملين في المجال، بل على المنظومة الأكبر. "لا بد أنّ تخوّف المرشدين/ات من العمل الارشادي المتحرر من التشخيص شرعي وحقيقي، وليس مجرد تخوّف عشوائي فارغ، بل إن التأمل في الأنظمة التعليمية والمهنية السيكولوجية، المهملة في إجراءاتها وتطبيقاتها لجوهر الرغبة الإنسانية، وغير الحامية لدارسيها والعاملين بها، هو المشكلة الحقيقية"، تضيف عليّان.
يقودنا التتبّع للتشخيصات التي تحدثت عنها عليّان لقضايا المثليّة الجنسية أو الهوية الجندرية وغيرها من الموضوعات، لتحولات وتغيرات كبيرة في ميدان علم النفس منذ نشأته ومأسسته كعلم حديث. فبالحديث عن المثليّة الجنسية، فقد اعتُبرت اضطرابًا نفسيًا ولمدة 22 سنة (منذ سنة 1952 حتى سنة 1974)، ضمن تصنيف الاضطرابات النفسية التابع للجمعية الأمريكيّة للطب النفسي. أمّا فيما يتعلق بالهوية الجندرية، وبعد عقود من التعامل المتباين بين الأطباء وعلماء النفس مع العبور الجنسي، فقد أضافته الجمعية للنسخة الثالثة من لائحة تصنيف الاضطرابات النفسية تحت مُسمّى "اضطراب الهوية الجندرية" سنة 1980. وظلّ هذا التصنيف –على الرغم من مساهمته في مساعدة بعض الأشخاص العابرين- يدعو إلى التعامل مع العبور الجندري والجنسي كمرض نفسي، ما دفع لإزالته كليًا من اللائحة في سنة 2013.
للتعرّف أكثر على وضعية قضايا التعددية الجنسية والجندرية والصعوبات التي تواجهها، يمكن إلقاء نظرة على حضورها في دوائر وأقسام علم النفس والصحة النفسية في الجامعات. نُلاحظ مثلًا تجاهل وتهميش الجوانب المتعلّقة بالجنسانية والتعددية الجنسية والجندرية في المساقات المختلفة، من برنامج علم النفس في جامعة بيرزيت، كما أوضحت لنا عضوة الهيئة التدريسية في البرنامج فردوس سلامة، باستثناء وحدة تتناول تطوّر الهوية الجنسية والجندرية ضمن مساق "علم النفس التطوري".
من تجربتها في تدريس المساق المذكور، ومحاولة إدخال هذه المضامين ضمن مساقات ومنهاج البرنامج، تقول سلامة أنّ التعاطي مع الموضوع وردّات الفعل عليه دائمًا ما تتراوح بين السلب والإيجاب، وذلك سواء على صعيد الطلبة، أو الهيئة التدريسية والمحاضرين حتّى. فبعض الطلبة المتخصصين في البرنامج يرفضون التعامل مع الموضوع ويصفون المادة العلمية المقدمة "بالكذب وتشويه الحقائق"، مستخدمين في بعض الأحيان ذرائع دينية أو حتى علمية مُختلقة، أمّا البعض الآخر –وإن يعبّرون عن بعض الصعوبات في التعامل مع الموضوع- يظهرون رغبة في التعلّم والمعرفة أكثر عنه.
"قبل خمس سنوات مثلًا كان من الصعب علينا عقد ورشة حول مفاهيم الجنسانية بشكل عام"
أمّا بالنسبة للكادر التدريسي فتوضح سلامة أنّ البعض وإن كان لا يتّفق مع المضمون التقدّمي –نسبيًا- الذي نحاول إدخاله في هذا الخصوص، لكنهم لا يعبّرون عن ذلك على الملأ، ولا يعني موقفهم إمكانية إقصاء أو حجب هذه المضامين.
وعلى الرغم من الصعوبات الكثيرة والحاجة لمضاعفة الجهود في الموضوع، تؤكد سلامة أنّ هناك تقدمًا ملموسًا وواضحًا، "فقبل خمس سنوات مثلًا كان من الصعب علينا عقد ورشة حول مفاهيم الجنسانية بشكل عام، وتمت مراجعتنا في الموضوع من بعض الجهات في الجامعة، أما اليوم فبإمكاننا الحديث عن مسائل كالهوية الجندرية والمثلية الجنسية وحتى عقد التدريبات في الموضوع بحرية نسبيّة".
أمّا من جهة الطلبة، اختارت زكيّة زيتة، طالبة ماجستير في برنامج الصحة النفسية في جامعة القدس- أبو ديس، أن يكون موضوع بحثها الخاص بمشروع التخرج عن "الصّعوبات التي يواجهها المثليّين في المجتمع الفلسطيني". سبب اختيار الموضوع، وفقًا لزكيّة، أنّه لم يتم التطرّق له من قبل في سياق المجتمع الفلسطيني، وهو السبب نفسه الذي شجع الأستاذة المشرفة على البحث في الجامعة لقبوله.
تقول زكيّة، إنّه من أكبر الصعوبات التي تواجه الباحثة أو الباحث في مجال علم النفس بموضوع المثلية الجنسية هي عدم توفر مراجع جدية وحديثة باللغة العربية، فمعظم المراجع عفى عليها الزمن، وتعتمد أصلًا على مراجع غربية قديمة أبطلتها الدراسات والأبحاث الحديثة. أمّا عن التطرق للموضوع ضمن المساقات والمناهج الرسمية للدراسة، فتقول زكيّة "كان التطرّق لهذا الموضوع يجري في العادة بشكل عابر، ولا يوجد مساق أو عالأقل وحدة تُعنى به، وشخصيًا كان انكشافي على هذا الموضوع لأوّل مرة من خلال دورة مع جمعية القوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني".
تعمل القوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني منذ ما يزيد عن عقدٍ ونصف في هذه القضايا، ساعية لإحداث تغيير في كيفية فهم المجتمع لها وتعاطيه معها خاصة في المجال النفسي؛ فإضافة إلى التدريبات المستمرة التي تقدمها القوس لمؤسسات نفسية وعلاجية لبناء قدراتها الداخلية، تقوم سنويًا بتشكيل مجموعات إرشادية لأخصائيين وأخصائيات يعملون في مجال العلاج النفسي المباشر بهدف تطوير معرفتهم/ن ووعيهم/ن لهذه القضايا في ممارستهم/ن العلاجية، وإيصالها لدوائر التأثير الخاصة بهم/ن، كما أفادتنا المؤسسة.
وكان أحد أبرز إنجازات القوس في هذا المجال، إصدار كتيّبٍ مهنيّ بعنوان "مدخل إلى قضايا التعددية الجنسية والجندرية للمهنيين في مجال الصحة النفسية والمجتمعية". يشكل الكتيّب الذي صدر في شهر شباط/فبراير الماضي، مرجعًا مهنيًا لتوجيه أخصائيي ومهنيّات الصحة النفسية والمجتمعية ؛ للتعامل مع قضايا التدخّل النفسي والخدمة الاجتماعية. ويتناول بين صفحاته التسعين مواضيعًا مختلفة ذات صلة، كتطور الهوية المثلية والهوية الجندرية، وتعامل العائلة مع هذه المسائل، والعنف الأسري والمجتمعي، وينهي بتقديم توصيات مهنية للتعامل مع هذه القضايا داخل الغرف العلاجية والإرشادية.
في حديثنا معه، رأى الدكتور فتحي فليفل مدير مركز المصادر للصحة النفسية في جمعية الهلال الأحمر الفلسطينية، وعضو اللجنة المهنية التي رافقت وتابعت إعداد الكتيّب، أنّ إنتاج كتيبًا كهذا هو خطوة هامة نحو خلق بيئة نقاش نقدية ومهنية في المجال النفسي فيما يتعلّق بهذه القضايا. فعلى صعيد سيرورة إعداد الكتيّب نفسها، رافقها أربعة من الأخصائيين المهنيين ذوي وذوات الخبرة في المجال في فلسطين، ومنحدرين من خلفيّات مهنية وعلاجية مختلفة، مثل العلاج بالفنون، والعلاج النفسي السريري، والاستشارة النفسية التربوية.
كان من المثير، حسب الدكتور فليفل، ملاحظة الاختلاف في التوجهات حول بعض القضايا المطروحة، وفقًا للمدرسة أو الخلفية النظرية والثقافية لهم، أو حتى نقاشات على أمور مرتبطة باللغة والتعبيرات المستخدمة، ما أغنى الكتيب بالنهاية وأضاف تنوعًا عليه. فمثلًا، اهتمام الأخصائية النفسية يعاد غنادري- حكيم بموضوع الفقدان أضاف فكرة مسار الفقدان ضمن سيرورة تطوّر الهوية المثلية.
ترتبط الكثير من هذه النقاشات بالسياق الأوسع لمجال الصحة النفسية والعلاج في فلسطين- بل والعالم العربي حتى. جزء كبير من النقص في هذه المعرفة هو نقص في المصطلحات أو المفاهيم، أو على الأقل في الاتفاق عليها وتوحيدها. ظهر ذلك في العمل على الكتيب –مثالًا لا حصرًا- في المصطلح النفسي “Gender Dysphoria”، ما بين "انزعاج جندري" أو "عدم تلاؤم جندري" أو "اغتراب جندري"، حتى وقع الاختيار على الأخيرة من قبل لجنة إعداد الكتيب كونها الأقرب على توصيف الحالة برأيهم.
ختامًا، وليس بعيدًا عمّا بدأنا به، لا شكّ أنّ التقدم والعمل في مواضيع التعددية الجنسية والجندرية في المجال النفسي ضرورة ملحّة، وعلى الرغم من كل ما يحويه من تحديات وصعوبات، فإنه يستلزم من العاملين والعاملات في المجال بذل الكثير من الجهود والطاقات للوصول نهايةً إلى مساحات علاجية وديّة وحساسة، وإلى أبحاث سيكولوجية نقدية وواعية، وبالمجمل مجال نفسي معرفي ومهني قادر على الإيفاء بمتطلباته ومسؤولياته.
إضافة تعليق جديد