عضلات مفتولة يعني... رَاجْلْ

يخطو خطواتٍ كلها اعتداد بالنفس نحو المرآة الكبيرة، يزيل قميصه الذي كان أصلًا رقيقًا بما فيه الكفاية ليُبرز كتفيه الضخمتين ومنعطفات ظهره البارزة وبطنه المسطحة. يضع هاتفه قُبالته ويُشغّل الكاميرا ليعود للوراء مقلدًا وضعية أحد أبطال كمال الأجسام الأمريكيين المشهورين، والمعلّقة صورته على الجدار. ظلّ يمعن في الصورة ويحاول فيفشل ويكرّر المحاولة لأنه لم يستطع اتخاذ الوضعية نفسها، ناسيًا أو متناسيًا أن المشكلة ليست في تكرار المحاولات وإنما في الفارق بين حجم عضلاته وحجم عضلات البطل.

المشهد مأخوذٌ من صالةٍ لكمال الأجسام، هذا المشهد ومشاهد مماثلة تحدث بشكل يومي في هذا النوع من الصالات حيث يأتي غالبية الشباب للحصول على عضلاتٍ أكبر ويحرصون على تناول أي مادةٍ قد تساعدهم على الوصول إلى مُبتغاهم حتى ولو على حساب صحتهم. كما يتطور الأمر عند الكثيرين إلى هوس التمرّن بشكل يومي وتناول الكثير من مسحوق البروتين، لكن ما يفتأ أن ينقلب السحر على الساحر.

يتحول الأمر إلى هوسٍ مرضي عندما يبدأ الرجل في البحث بشكلٍ هستيري عمّن يثق فيه ليُسلمه فخذه أو مؤخرته ليحقنه الحُقنة التي سينتقل بها من شكل رجلٍ عادي إلى شكل رجلٍ كاملٍ في لمح البصر. ومن ميزات هذه الحُقن أيضًا أنها تُعمي البصيرة عن رؤية المضاعفات السلبية التي قد تلحق بمن يتعاطاها، ونظرًا لأن الجودة تختلف باختلاف الثمن، تكون المواد الأجود من نصيب الأغنى أو المستعد لصرف كل ما يملك في سبيل الحصول على الجسد الأسطورة. هذا الاستعداد للمقامرة بكل شيء يتجاوز المادي إلى العُضوي في كثيرٍ من الأحيان، فيخسر الرجل قُدرة خصيتيه على إنتاج المني وقد يصاب باعتلال في الانتصاب ويتحوّل إلى جسدٍ مُبهر يختال به في النوادي لكنه في نفس الوقت غير قادر جنسيًا لا يقوى حتى على هزّ شعرةٍ من جسد شريكته أو شريكه. مزوق من برا، آش خبارك من الداخل؟!

يأتي الواحد منهم إلى صالة الأثقال وهو يتخيل نفسه يُقدم أفضل أداءٍ له في حلبة غُرفة النوم. أنا لا أتبلّى عليهم! تأكدت من ذلك لشدّة فضولي دفعني للبحث والسؤال، فوجدت عند المسؤول عن صالة الرياضة الإجابة. كان سؤالي عن سرّ الروتين الذي يتّبعه الشباب قبل البدء في التمرّن ولم يُفاجئني عندما قال لي بأن عددًا كبيرًا منهم يُحفّز نفسه من خلال الدخول إلى مواقع إباحية لمشاهدة لقطات بورنوغرافية في غرفة تغيير الملابس، فيختار بحرصٍ المقاطع التي تُصوّر البطلة لوحدها تتأوّه وكأنها تنادي عليه ليُهبّ ويطفئ نار رغبتها، فما إن يضع الواحد منهم رجله في الصالة خارجًا من غرفة التبديل حتى تكون الطاقة الليبيدية لديه صارت وقودًا. هذا الوقود يشتعل عندما يعمل الليبيدو عمله فيُصور له الآلة أُنثى جميلة وعارية، وكلما رفع الوزن كلما التصق بها وصار يصرخ بصوتٍ أعلى وكأنه يعيش المشاهد التي رآها للتو فيقوم من على الآلة منتصبًا يتلفت يمنة ويسرة إذا ما كان أحدهم قد انتبه لانتصابه!

لا يريد فتاةً تهتم بالشكل فقط وليس الأداء! هذا من رجلٍ يعبد صورته في المرآة!

ثم إن طالبي كمال الأجسام حسّاسون للغاية لأي تعليق يمسّ أجسادهم. حدث ذات صباح أن وجدت الصالة خاليةً إلا من شابٍ جميل الملامح، متفاخرٍ بجسده وشقاره ويبدو أنه كان ينتظر الصباح بفارغ الصبر لتُفتح أبواب الصالة. بعد أن توقّف عن مراقبة حركاتي، اجتمع بصديقٍ له يماثله في الحركة والنظرة أيضًا، يشاء برنامجي الرياضي لذلك اليوم أن أجلس إلى آلة تقوية الركبتين في نفس الوقت الذي يقرر فيه الصديقان تبادل أطراف الحديث للاطمئنان على السير السليم للعلاقات العاطفية بالقرب مني. يسأل الأول الثاني عن الفتاة التي حكى له عنها مؤخرًا وإلى أي أين وصلت علاقتهما، يُجيب الثاني: مبقيتش كنهدر معاها (لم أعد أكلّمها)، فيسأل الأول: وعلاش؟ (ولماذا؟) فيجيبه بأنها منذ أن ذهبت معه إلى البيت ونامت معه وقالت له بأن صدره صغير أنهى علاقته بها، لأنه، كما قال، لا يريد فتاةً تهتم بالشكل فقط وليس الأداء! هذا من رجلٍ يعبد صورته في المرآة!

كانت الضربة القاضية حين صمت الأول ثم قال له بحسّ دعابةٍ فيه كثيرٌ من السخرية، زاده حنقًا وقهرًا: خلينا نشوفو المعقول هنا لول وعاد مشي وريه فالناموسية (دعنا نرى الأداء هنا أولًا ولاحقًا اذهب لتُظهره في السرير!)، ربما لم يجد الثاني ما يردّ به على دعابة صديقه الساخرة لكن صدره انتفخ ووجهه انصبغ بحمرة الطماطم من شدة الغيظ.

وها هو الفوج الثاني من المراهقين ذوي التسريحات المصقولة يصلون إلى الصالة، يطلبون تغيير الموسيقى بأعلى صوت لأنها ليست من مستوى ذوقهم. بعد أن يُستجاب لهم يدخلون إلى قاعة تغيير الملابس ليخرجوا منها بشورتات قصيرة وقمصان بدون أكمام ويتوجهوا نحو المرآة المتواجدة في آخر الصالة ويُخرج أحدهم هاتفه ويلتقط صورة لهم في المرآة بعد أن يتخذ كلّ واحدٍ منهم وضعية محاولًا فيها إظهار عضلاته التي يبدو أنها لم تنمو بعد. بدأ الرجال الصغار القيام بحركات الإحماء من أجل تجهيز أكتافهم الهزيلة لحمل أوزان تفوق قدرة أجسادهم الرطبة فتصرخ حناجرهم من فرط الثقل، لكن المثير للانتباه في هذا المشهد هو الإغراء في الوقوف والنظرة والحركات، حتى أن أحدهم ربما التقط لذراعه أزيد من خمسين صورة دون أن ينتفخ حجم العضلة، وقام آخر بتسجيل فيديو لنفسه وكأنه يحمل مائة كيلوغرام بينما كان صديقاه يحملانها معه دون أن يظهرا في الفيديو، ففكرت لمَ لا نقول ''ثلاثة أشياءٍ لا حدود لها، الكون، وغباء الإنسان، وحركات المراهقة'' (عن مقولة لآينشتاين بتصرّف).

أما أن تكوني امرأةً في صالة رفع الأثقال فهذه فتنة أولاً وتعدٍ على الطبيعة ثانيًا! عند الزاوية التي تُصفّف فيها الأوزان وجدت أكثر من خمسة شبابٍ يرمون الأوزان على الأرض بشكل مبعثر ولأن السؤال من الأدب أحيانًا، سألت أحدهم إن كان يستخدم الأوزان لكنه لم ينظر إليّ حتى ولم يكلّف نفسه عناء إجابتي. فبقيت أنظر مستغربة إلى أن أجابني رفيقه: هزّيها، حنّا رجال كنخدمو بالثقيل (خذيها، نحن الرجال نستخدم الأوزان الثقيلة)، فتذكرت ذلك الذي كسر أصابع قدمه بسبب عناده وإصراره على حمل أربعين كيلوغرامًا في كلّ يد، فتخيلته يتعرض لنفس الحادثة وانتابتني نوبة ضحكٍ جعلته يأتي ليسألني، علاياش كضحكي؟ فقلت له أن عليه أن ينتبه لأصابع قدميه وضحكت أكثر.

وحدّث ولا حرج عن تنافسهم على المرايا!

ولأصحاب العضلات موعدٌ في نهاية الأسبوع مع المرآة، إذ يحرصون على فحص أجسادهم بمنتهى الدقة حتى لو أنهم انضموا للجيم قبل أسبوعٍ فقط! وحدّث ولا حرج عن تنافسهم على المرايا! في مرةٍ شاهدت أحدهم يقف أمام المرآة بعد أن عرّى عضلاته وبدأ يستدير غير فرحٍ بشكله قبل أن يلتحق به ثانٍ، انتظر الثاني قليلًا ثم بدأ يستفز الأول قائلًا: إذا كنت فبلاصتك نحشم نوقف حدا المراية (إذا كنت مكانك سأخجل من الوقوف أمام المرآة)، واحتدت المجادلة وكانت على وشك أن تتحول إلى عراك لولا تدخّل صاحب الصالة. بعد أن فرّقهما رمى عليهما نكتةً بأن قال أن المرآة التي على اليمين تنحّف الناظر والتي على الشمال تزيد وزنه! كانت هذه النكتة كفيلةً بأن تخرسهما معًا وتجبرهما على المغادرة برؤوسٍ مدلدلةٍ وغرورٍ مجروح. 

هكذا هي صالة رفع الأثقال: مرايا وأوزان ورجال منفوخون ومهووسون بأجسادهم. يدخلون إليها كما الداخل إلى حلبة-سرير ويخرجون منها معتقدين أنهم أساطير، أبطال، نجوم في أفلام الآكشن... 

لكن لحظة، انتبهوا إلى ما خلف العضلات، وألقوا نظرة على أصابع أقدامهم!

ميساء أجزناي

ميساء أجزناي كاتبة مستقلة من المغرب، مُهتمة بقضايا الجندر والنسوية والجنسانية.

التعليقات

بواسطة ش.حسن (لم يتم التحقق) في خميس, 13/08/2020 - 16:24

الفكر الذكوري بائس لا يفرخ غير المرضى والمهووسين. أتمنى لكل راغب في أن يعيش في تناغم مع طبيعته أن يفكك بوعي تلك المنظومة، يبدأ في تعرية التمثلات الخاطئة من أجل هدمها. مقال يصف بدقة وواقعية ما يجري في صالات الرياضة. شكرا للكاتبة وتحية لمنصة جيم جندر.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.