كيف ساعدني العلاج بالرقص على استعادة علاقتي بجسدي؟

أتذكّر مشهدًا من الماضي البعيد، عندما سقطتُ في طابور الصباح مغشيًا عليّ في المدرسة الابتدائية لعدم تناولي الإفطار. يسألني الجميع: لماذا لا تأكلين إلّا القليل؟ ولماذا أنتِ نحيلةٌ إلى هذا الحدّ؟ أتعرّض للتنمّر، أو ما كنا نسمّيه حينها "الاستقصاد" لأني شديدة النحولة وأطوَل من أقراني. ينصحني البعض بتناول مأكولاتٍ سيّئة الطعم لتزيد من وزني، لكني كنتُ طفلةً "لمضة" وأردّ دائمًا: "هو شكلي كدا".

لديّ علاقةٌ ملتبسةٌ مع جسدي. لأصدق في القول، فإني كنتُ أكرهه لفترةٍ طويلةٍ من حياتي. إذا كنتِ امرأةً سوف تلاحقكِ التعليقات دائمًا أيًا كان وزنكِ أو شكلكِ. يقولون لكِ؛ صدركِ غير ممتلئٍ والرجال يحبّون الصدور الممتلئة، وجسدكِ غير مثير. ربّما لن تجِدي من يتزوجكِ، فهناك صورةٌ مفضّلةٌ للرجال عليكِ دائمًا السعي لاكتسابها. سوف تعانين دائمًا بسبب جسدكِ حتّى يصيبكِ الجنون، أو تصابين بهوس صورة الجسد. ربّما تلجأين إلى حمياتٍ غذائيةٍ قاسيةٍ حتى تنقصي من وزنك، أو تمارسين رياضةً عنيفةً لاكتساب صورةٍ معيّنةٍ للجمال، أو الجسد المقبول وفق البنية الذكوريّة التي قد تقودك إلى كره جسدكِ، أو الإصابة باضطراب الطعام، أو بلوغ حدّ إيذاء جسدكِ بتناول الكورتيزون لاكتساب بعض الوزن كما كنتُ أرى بعض الفتيات يفعلن.

بخلاف صورة الجسد، يأتي الخوف من التحرّش والاعتداء ليزيد الالتباس بعلاقتي بجسدي، أمشي طوال الوقت في الشارع في حالة تأهّب، خوفًا من التعرّض للتحرّش أو حتّى الضرب. غالبًا، تتعرّضين للضرب على أردافك حين تمشين في الشوارع من شخصٍ يقود دراجةً ناريّة، بحيث يشتمكِ ثمّ يجري مُطلقًا ضحكاتِه بطول الشارع. تلاحقني النظرات لأنّني غير مُحجبة، وهو أمرٌ غير مُعتادٍ في البلدة التي أعيش فيها. أتمنى ارتداء فستانٍ لكني أجده حلمًا بعيدًا. أسافر لمدّة تسع ساعاتٍ إلى جنوب سيناء لأتمكّن من المشي بحرّيةٍ مرتديةً فستانًا، قبل أن أعود إلى بلدتي وإلى الخوف القديم نفسه.

من أين يأتي الإحساس بالأمان حتى أشتريه؟ الخوف من التحرّش والاعتداء ليس هاجسًا أتى من فراغ

أتذكّر عندما كنتُ أسكن القاهرة لمدّة ثلاث سنواتٍ بمفردي، كنتُ أسند باب الشقّة بالسرير. أعرف أنّ عقلي يصنع سيناريوهاتٍ وهميّة، لكن هناك شيءٌ في الأعماق يُشعرني بالخوف على جسدي. اضطررتُ للعودة إلى القاهرة مرّةً أخرى للدراسة واستئجار غرفةٍ خاصةٍ بي، فعاد إليّ خوفي القديم من التحرّش أو الاغتصاب؛ من أين يأتي الإحساس بالأمان حتى أشتريه؟ الخوف من التحرّش والاعتداء ليس هاجسًا أتى من فراغ. فتبعًا لهيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، تتعرّض 99% من النساء في مصر للتحرّش. أحيانًا يُصاب جسدي بالتخشّب، فلا أقوى على مغادرة الفراش لأيّامٍ والنزول إلى الشارع. أصبح المشي في الشارع عبئًا ثقيلًا لا أتحمّله. التحرّش هو إحدى صور سيطرة الرجال في المجتمع الأبوي على أجساد النساء، يستخدمونه أحيانًا لطرد النساء من المجال العام، أو مكان العمل، أو لإحساسهم بأنّ الشارع ملكٌ للرجال فقط. يرفعون شعار "الشارع لنا" كما كانت تغنّي ماجدة الرومي، ولا ينبغي للنساء التواجد فيه. وفي أحيانٍ أخرى، يكون التحرّش من أجل السيطرة أو محض إيذاء.

أشعر بأن جسدي عبءٌ عليّ طوال الوقت. تخبرني صديقتي بأنّ التروما تسكن الجسد. لا أرغب في أن أقدّم نفسي دائمًا بوصفي ناجيةً من التعنيف الجسدي، لكن سأذكر هذا التفصيل سريعًا، لعلّه يساعد أخرياتٍ في التخلّص من التروما التي يتركها العنف الجسدي: يرتبط العنف بشكلٍ وثيقٍ بالذكورية، وقد أصبح من المعتاد مؤخرًا أن يقتل زوجٌ زوجتَه ضربًا، أو أن يضربها يوم عرسها أمام الناس في الشارع. كلّ ذلك بسبب منظومةٍ أبويّةٍ تتحكّم بأجساد النساء، بالإضافة إلى غياب قانونٍ مخصّصٍ لردع العنف الأسري يحمي الزوجة من مصير النوم وعلى وجهها كدماتٌ زرقاء وبنفسجيّة. كلّ ذلك جعلني لا أشعر بالسيطرة على جسدي، وحرمَني من بناء علاقةٍ معه والتعرّف إليه.

كنتُ أتردّد إلى طبيبٍ نفسي لأنّي مُصابةٌ بنوبات غضبٍ واكتئاب. ليس الأمر سرًّا، بل أعتقد أنه من غير الطبيعي ألّا تشعر المرأةُ بالغضب في الآونة الأخيرة، كما أنّي مُصابةٌ بالأكل العاطفي. آكل كثيرًا عندما أشعر بالضيق، ثمّ أفرِغُ كلّ ما في بطني بعدها. أتحدّث كثيرًا في جلسة العلاج النفسي، وفي كلّ الاتجاهات، وأواظب عليها، لكني لا أشعر بأيّ تحسّن. بالرغم من ذلك، كنتُ أرفض أيّ مدارس أخرى من العلاج النفسي، فقد اعتدتُ رفض "العلوم الكاذبة" التي لا تستند إلى أدلّةٍ علميةٍ مثل العلاجات بالطاقة وما يماثلها… إلى أن تعرّفتُ بالصدفة إلى العلاج بالرقص والحركة (Dance Movement Therapy).

التحرّش هو إحدى صور سيطرة الرجال في المجتمع الأبوي على أجساد النساء، يستخدمونه أحيانًا لطرد النساء من المجال العام، أو مكان العمل، أو لإحساسهم بأنّ الشارع ملكٌ للرجال فقط

استهجنتُ الفكرة بداية؛ يا إلهي أنا لا أجيد الرقص، ولا أحبّه! كان مظهري الجادّ كفتاةٍ (nerd)1 يفرض عليّ الابتعاد عن الرقص، كما أنّي أكره حفظ حركاتٍ تقيّد جسدي. لكن شيئًا فشيئًا انفتحتُ على هذا العالم الرحب. بحثتُ على الإنترنت على طرق العلاج بالفنّ والسيكودراما، لأكتشف أنّ نظرتي الرافضة لهذه المدارس العلاجيّة كانت قاصرةً تمامًا. يستخدم العلاج بالرقص المشاعر والحركة لتحسين صورة الجسد، وزيادة الثقة بالنفس وعلاج الصدمات. ويُستخدم العلاج بالفنّ عمومًا لمن لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم شفهيًا، كما يُستخدم العلاج بالرقص أيضًا كعلاجٍ تكميلي لأمراضٍ مثل الألم المزمن، والتهاب المفاصل، والسمنة، والقلق، والاكتئاب، ولتحسين مرونة الجسد والعضلات.

أبحث عن العلاج بالرقص والحركة في مصر، فأجده في طور النموّ، خصوصًا أنّه بدأ في العام 2016. التحقتُ بإحدى ورش العمل التي كانت تضمّ النساء حصرًا. لا أعرف لماذا لا يُقبِل الرجال على ورشٍ مماثلةٍ ومبادراتٍ لتحسين الذات مثل النساء. هل يمتلك الرجال مخاوف بشأن أجسادهم مثل النساء؟ أم أنهم هم من صنعوا هذه المخاوف عندنا؟

في جلسة العلاج بالرقص، لا نتحدّث كثيرًا، نتواصل بالنظرات، تصبح الحركات لغةً في حدّ ذاتها، لا داعي لسرد كثيرٍ من الحكايات المؤلمة التي تجعلني مُنهكةً نفسيًا. نبدأ بالتعريف بأسمائنا ونحكي كيف تعرّفنا إلى العلاج بالرقص. نبدأ بالتحرّك في المساحة. في البداية، كنتُ أسأل ما المنطق في هذه الحركات، لكن مع الوقت بدأتُ أكتشف أنّ من الأفضل أن أدعَ جسدي ينساب مع الموسيقى أو يطير في الفراغ. المنطق لا يهمّ. عرفتُ لاحقًا أن الرقص الحركي ليس حركاتٍ معيّنة نحاكيها، إنّما هو القيام بما يشعر به جسدُنا، حتّى لو قرّر الانزواء لدقائق بعيدًا من المجموعة.

نختار شريكةً لنرقصَ مقابلها. أصغي لصوت جسدي؛ هل يريد الطيران أم الانكماش؟ هل أشعر بالقرب من زميلتي لأرقص على مقربةٍ منها، أم أريد الابتعاد عنها؟ أحيانًا أحاكي الحركات التي تقوم بها شريكتي في الرقص، فأفتح يديّ مثلها أو أؤدّي عكس حركاتها. تنكمش على جسدها مثلي فتُشعرني بالتعاطف والقرب، ثمّ نتبادل الآراء عمّا شعرنا به خلال الرقصة في دقيقتين. نتفق على أنّ جلسة الرقص مساحةٌ آمنة، كيوتوبيا صغيرة، لا نحكم فيها على أجساد الأخريات أو نصِمهنّ. نستمع إلى شعورهنّ بلا أحكام.

في جلسة العلاج بالرقص، لا نتحدّث كثيرًا، نتواصل بالنظرات، تصبح الحركات لغةً في حدّ ذاتها، لا داعي لسرد كثيرٍ من الحكايات المؤلمة التي تجعلني مُنهكةً نفسيًا

أتمنّى أن أجمّد الحالة الشعورية التي أحسّ بها في ورشة الرقص حيث تنساب أجسادنا على إيقاع المزيكا. يختفي الخوف من حكم الآخرين على جسدي بأنه نحيلٌ أو غير أنوثي بما يكفي. يتلاشى خوفي من التحرّش أو الاعتداء، المكان نفسه مساحةٌ آمنةٌ لمشاركة شعورٍ أو تجربةٍ ما. غالبًا، لا يسألني أحدٌ عمّا يشعر به جسدي، لكن المعالجة تسألنا في كلّ جلسةٍ عمّا يشعر به جسدنا في ذلك اليوم.

أظنّ أنّني مارستُ هذه الحركة من قبل، ربّما في المدرسة الابتدائية أثناء حصة التمارين الرياضية. تذكّرني رقصةٌ أخرى بالحضرة وحلقات الذكر التي كان يحضرها أبي في الموالد، وهي طقسٌ معروفٌ عند الصوفيّين. لكنّي أبعد ما يكون عن التصوّف، ولم أفكّر من قبل أنهم كانوا فعلًا سعداء بهذا الطقس من الدوران والرقص والتحليق، وهو ما تدلّ عليه وجوههم المنتشية.

أتمنى أن تستمر الورشة للأبد كي أستريح من عناء الأسبوع. في الجلسة الأخيرة من الورشة، يتحرّر جسدي تمامًا وينطلق، يصبح أكثر خفّة. أصبح أكثر ثقةً بنفسي. لكن دعيني أخبركِ أنّ الطريق طويلٌ للتخلّص من التروما التي تحتلّ الجسد، والخوف الذي يحتلّ الرأس من الشوارع التي مارسَت ضدّنا الأذى، ولتطوير ميكانيزم "الهرب أو القتال" بدلًا من التجمّد عند التعرّض لخطرٍ ما.

يستلزم الأمر بعض الوقت أيضًا حتى تعرفي أنكِ لستِ وحدكِ، وأنّ معظمنا يمتلك مخاوف بشأن جسده/ا وصورة جسده/ا، وأنّ التروما هي إحدى حقائق الحياة، وأنّ ردود فعلكِ الحادّة هي من تأثيرات التروما وليست ردود فعلٍ طبيعيّة. لكنّ الخبر الجيّد أنّ التعافي منها ممكنٌ عبر الدعم، ومعرفة طريقة عمل التروما ذاتها، وتغيير طريقة تفكيرنا ورؤيتنا لجسدنا وللعالم.

• 1مَن تتّسم بجدّيةٍ بالغةٍ وتهتم جدًا بأمور العلم والثقافة.