ما زال الجدل قائمًا بشأن قانون الأحوال الشخصيّة المصري، وأتت حادثة استدعاء الممثلة هالة صدقي في شهر أيار/مايو 2021 إلى "بيت الطاعة" من قبل زوجها، لتؤجّج النقاشات بشأن هذا القانون الذي تُعاني بسببه نساء مصر، لاسيما المسيحيّات منهنّ والمُجبرات على الخضوع لبنوده المُستمدّة من الشريعة الإسلاميّة.
وكان من المقرّر طرح قانون الأحوال الشخصية أمام البرلمان المصري فور انعقاده في دورته الجديدة بداية عام 2021، قبل أن تُثار حوله الخلافات وتُوجه له انتقاداتٌ عنيفةٌ من منظماتٍ حقوقيةٍ مصريةٍ ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، مطلع شهر مارس الماضي، بعد أن نشرَت الصحف المصرية المسوّدة، ما جعل الحكومة تتبرأ منها قبل أن تُسحَب من البرلمان لتعديلها، لاسيما المواد المتعلّقة بالنساء المسيحيّات. وأعادت وزارة العدل المسوّدة إلى الكنائس الثلاث (الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت) للتوافق في ما بينها على صيغةٍ جديدةٍ لملاحظات الوزارة، ليُعاد إرسال القانون إلى مجلس النواب. لكن أحدًا لم يعرف طبيعة تلك الملاحظات قبل تصريحات منصف سليمان، المستشار القانوني للكنيسة القبطية وعضو مجلس الشعب، الذي قال إن الكنائس المصرية الثلاث استقرّت على المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، استنادًا للتعاليم المسيحية، وأحقّية احتكام المسيحيّين لشرائعهم في تنظيم أمورهم الشخصية واختيار قياداتهم الروحية، بحسب نص المادة الثالثة من الدستور المصري، مشيرًا إلى تحويل القانون لمجلس النواب المصري لإقراره في دورته هذا العام، فور انتهاء وزارة العدل منه. لكن سليمان لم يتطرق إلى المواد التي تخصّ الطلاق في المسيحية، وكذلك الزواج الثاني، وحق التبني والزواج المدني، وهي القوانين التي ينتظرها عددٌ كبيرٌ من المسيحيّين والمسيحيّات في مصر منذ عقود، لرغبتهم الاحتكام إلى شرائعهم في قضاياهم الشخصية، لا الشريعة الإسلامية التي احتكموا إليها لعقود، ما تسبب بمشاكل ونزاعاتٍ كثيرة.
لماذا تتكتّم الكنيسة والحكومة على قانون الأحوال الشخصية؟
ترى المحامية والحقوقية مريم شحاته، من المفوضية المصرية للحقوق والحريات، أن الكنائس المصرية الثلاث والحكومة المصرية تتعامل مع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيّين والمسيحيّات كأنه سرّ حربي لا يُراد مشاركة أحدٍ في مناقشته، حتى المعنيّات والمعنيّين به، مثل المؤسّسات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني.
وتقول شحاته في تصريحٍ لـ"جيم": "هناك تكتمٌ شديدٌ على القانون الجديد، وما تم تسريبه منذ أشهرٍ عدّةٍ كان مسوّدة قانون الأحوال الشخصية العام. تتشاور الحكومة المصرية والكنيسة في ما بينهما فقط، دون إطلاع أحدٍ على مسوّدة القانون الخاص بغير المسلمين، رغم انتظار الملايين في مصر توافقَ الكنائس الثلاث على القانون الموحّد للمسيحيّات والمسيحيّين". وتضيف المحامية والحقوقية: "يبدو أننا سنُفاجأ في النهاية بظهور القانون لنصبح أمام أمرٍ واقع"، متابعةً القول إنّ "توافق الكنائس المصرية على قانون المساواة في الميراث يُعتبر خطوةً جيدة، لكنه لا يمثل سوى عودة لتطبيق لائحة "38" التي تساوي في الميراث بين الرجل والمرأة".
الكنائس المصرية الثلاث والحكومة المصرية تتعامل مع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيّين والمسيحيّات كأنه سرّ حربي لا يُراد مشاركة أحدٍ في مناقشته
في وقتٍ سابق، كشف الأنبا بولا، مطران طنطا وتوابعها للأقباط الأرثوذكس، تفاصيل جديدةً بشأن القانون المزمع إصداره، نشرتها الصحافة المحلية، قائلًا "إن مسوّدة القانون الجديد تتكوّن من عشرة أبواب: أوّلها الزواج ويحتوي على ستّة فصولٍ بواقع 44 مادةً تتمحور أساسًا حول الخطبة والزواج وشروطه وموانعه والإجراءات المتبعة فيها، وفصلٍ عن موانع الزواج وآخر عن حقوق الزوجَين. أما الباب الثاني فيتألّف من ثلاثة فصولٍ عن النفقات، وجاء الباب الثالث عن حقوق الوالدَين والأبناء في فصلَين كاملين. وخُصّص الباب الرابع لقضايا ثبوت النسَب، وجاء في فصلَين، ويحتكم فيه المسيحيّون إلى نفس القوانين الموجودة في الدستور، فيما جاء الباب الخامس حول بطلان أو انحلال الزواج، وأهم مواده المادة 113 عن حالات الزنا الحكمي، والمادة 114 عن البطلان المدني للزواج بالفرقة. وللمرة الأولى، يشمل القانون في بابه الثامن موضوع الإرث، ويتكوّن من ثلاثة فصولٍ بواقع 20 مادة، أهمّها النص بشأن تركات الآباء البطاركة".
وتعلّق مريم شحاته على ما صرّح به مطران طنطا قائلة: "لا يوجد جديدٌ سوى في المواد التي تخصّ الطلاق والزواج الثاني، لتصِل إلى أسبابٍ عدّةٍ منها الغياب لمدةٍ طويلة، أو استحالة المعيشة أو الغش في الزواج وغيرها، كما أعطَت حقّ النظر في تلك القضايا إلى "الأبرشيات" التي يتبع لها المواطنات والمواطنون لسرعة الفصل فيها. وهناك أيضًا عدولٌ عن قرارات البابا الراحل شنودة الثالث التي صدرَت عام 2008 لناحية إلغاء لائحة "38" المعمول بها منذ أقرّها المجلس الملّي القبطي عام 1938، والتي كانت تتيح الطلاق بين الزوجَين المسيحيّين لأكثر من سببٍ وتسمح بالزواج الثاني للمطلّق (والمطلّقة)".
وكان البابا شنودة قرّر وقتها التطبيق الحرفي للكتاب المقدس بعدم الطلاق سوى لـ"علّة الزنا"، وهو القرار الذي أحدث جدلًا واسعًا بين المسيحيّين، لاسيما في ظلّ تضرّر أكثر من 150 ألف أسرةٍ مسيحيةٍ من قرار البابا الراحل.
وتضيف شحاته: "تنتظر المرأة المصرية (مسلمةً ومسيحية) مصير قوانين الحضانة والرؤية وحق الولاية، وهي القوانين التي تسري على المسلمين والمسيحيّين على حدٍ سواء في قانون الأحوال الشخصية العام للمصريّين، الذي أثار إعلان مسوّدته النهائية جدلًا واسعًا، وقرّرت الحكومة المصرية إعادة النظر في بعض مواده".
يوافق الباحث المصري ومسؤول الملف القبطي في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إسحق إبراهيم المحامية شحاته في مسألة تكتم الحكومة والكنائس على تفاصيل القانون الجديد، ويؤكد أن تعليمات الوزارة كانت صارمةً بهذا الشأن. لكنه يعتقد أن المواد التي وضعت وزارة العدل ملاحظاتٍ عليها تخصّ قوانين الطلاق والزواج الثاني والتبني. ويقول في تصريحٍ لـ"جيم": "لا القانون ولا الملاحظات نُشرت بشكلٍ رسمي، رغم تصريحات الكنيسة بشأن مواده سابقًا، لكنها ليسَت وحدها صاحبة الشأن. وفي النهاية، المسيحيّون يريدون تطبيق شرائعهم في مسألة الطلاق والميراث وحق تكوين أسرة، في ظل كفالةٍ قانونيةٍ تضمن لهم التمتع بكامل حقوقهم الدستورية. المسيحيّون يريدون التبني وإجراءاتٍ واضحةً تتيح لهم الطلاق والزواج الثاني، يريدون حقوقًا متساويةً لطرفَي الزواج، الزوج والزوجة".
ويكشف مُحدّثنا عن وجود فقرةٍ للتبني في قانون الأحوال الشخصية للمسيحيّين تُتيح لهم تبني الأطفال بشروط، منها أن يكون الطفل المتبنى غير مجهول النسب، معروف الأبوَين ومسيحي الديانة، وفق تصريحاتٍ سابقةٍ للأنبا بولا، مطران طنطا للأقباط، والمستشار يوسف طلعت، ممثل الكنيسة الإنجيلية في مصر.
القانون لا يعرِف المرأة المسيحية في الصعيد!
في الصعيد، يختلف الأمر لجهة أهمية مواد القانون الرسمي. فالصعيد له قوانينه الخاصة، لاسيما في ما يتعلق بالمرأة الصعيدية. وحتى لو شرّعَت القوانينُ الطلاقَ بين المسيحيّين والمسيحيّات، من العار أن يحدث، ولا يفكّر فيه أحدٌ أساسًا، فالزواج أبدي حتى لو استحالَت المعيشة. شبح الوصم الاجتماعي يلاحق نساء الصعيد المسيحيّات اللاتي معظمهنّ لا يسعَين إلى الطلاق ولا يفكّرن به، وإن أتاح القانون ذلك.
أما في المدن، فهناك من يطبق المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى لدى المسيحيّين، ما لم يلجأ الرجل إلى المحكمة لتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية ليحصل على نصيبٍ أكبر من الميراث، وهو ما كان متبعًا أساسًا بين المسيحيّين في مصر، بخلاف الصعيد، قبل أن تأتي المادة الثالثة من الدستور المصري الجديد عام 2014 لتُتيح احتكام المسيحيّين إلى شرائعهم في الأمور الشخصية، مؤكدةً مبدأ المساواة في الميراث بين الأشقاء والشقيقات.
شبح الوصم الاجتماعي يلاحق نساء الصعيد المسيحيّات اللاتي معظمهنّ لا يسعَين إلى الطلاق ولا يفكّرن به، وإن أتاح القانون ذلك
لكنّ الأمر في الصعيد يتخذ أشكالًا أخرى في مسائل تقسيم الميراث بين الأشقاء الذكور والإناث، لاسيما بالنسبة للأراضي والمنازل. هذا الواقع دفع بإحدى النساء المسيحيّات إلى رفع دعوى قضائية تطالب فيها بتقاسم ميراث والدها بالتساوي مع أشقائها الذكور، وتم الحكم لصالحها في القضية التي تبعها عددٌ آخر من القضايا المُشابهة، إلى أن صدر قانون الأحوال الشخصية الجديد للمسيحيّين الذي ينصّ على المساواة في الميراث من دون اللجوء إلى شرائع أخرى.
استمرّت القطيعة لأكثر من 15 عامًا بين أم عاطف (اسم مستعار) من محافظة المنيا بصعيد مصر، وشقيقها الذي ربّته حتى كبر واستولى على ميراثها وأخواتها الثلاث بعد وفاة الوالد. لكن المثير للدهشة أن أم عاطف سمحَت بتقسيم ميراث زوجها وفق الطريقة ذاتها التي دفعتها إلى مقاطعة أخيها! هنا، البنات لا يرِثن الأراضي أو البيوت، بل يجري إرضاؤهنّ بالمال فقط، فهنّ لا يعرفن قوانين غير قوانين الآباء والأزواج.
جورج ويليام (48 عامًا)، مدرّس فلسفة من قرية دير البرشا بالمنيا، يقول لـ"جيم": "العادات والتقاليد في مجتمعنا أقوى بكثير من القانون. الوضع إن لم يصاحبه تغييرٌ فكري وأيديولوجي، فاعتبر القانون كأنه لم يكن. وفي تراثنا يُقال "يا مخلّفة البنات يا شايلة الهمّ للممات" و"لما قالولي ولد حيلي اتفرد". لا تندهش إن رأيتَ النساء هنا يستبطنّ قيمًا ذكورية ويُشجّعن أبناءهنّ الذكور على الاستيلاء على حقوق أخواتهم البنات بطرقٍ مختلفة، فليسَت أم عاطف أو غيرها سوى نماذج عن الأغلبية الساحقة هنا".
ويضيف ويليام: "الأفكار القبلية وربط الأرض بالعرض وعدم إشراك رجلٍ غريبٍ كزوج الإبنة في "الطين" والبيوت، لا علاقة له بالديانة المسيحية في الأساس، لكنها أحكام الأعراف وما وجَدنا عليه آباءنا، سواء مسلمين أو مسيحيّين".
أما جرجس بولس (22 عامًا)، خريج كلية الآثار، من مركز ملوي بمحافظة المنيا، فيحكي عن عمّته التي ماتت كمدًا بعد أن توفّي زوجها وورث شقيقُه وأبناء شقيقه أراضيه وبيوته، فيما لم تحصل بناتها على شيءٍ لأنها لم تنجب ذكرًا ليَرِث! ولم تجد بنات العمّة ما يسدّدن به تكاليف علاج أمّهنّ فرحَلت مقهورة. لا ينسى بولس مأساة عمّته وبناتها، ويقول: "أبي يؤمن بتقسيم ميراثه بالتساوي بيني وبين شقيقاتي البنات، وأنا وأمي نوافقه الرأي، ولن نكرّر المأساة مرةً أخرى. وسواء تمّ تعديل القانون أم لا، لن يُحدِث فرقًا لدى الناس هنا إلا الوعظ المستمرّ من رجال الدين وحثّهم على التزام العدل بين الأبناء والبنات من دون تفرقة".
إضافة تعليق جديد