تتناول آلاء عبد الوهاب في هذا المقال تجربتها الشخصية في علاقتها مع الموت وخوفها منه منذ الطفولة، مسلّطةً الضوء على اهتمام الدين والمجتمع بطول شعرها في الحياة وبعد الموت.
أقف مشدوهةً وأنا أرتدي منامةً حمراء تحمل صورة أرنبٍ أبيض، فوق هضبةٍ تُطل على نهرٍ صغيرٍ ترفرف فوقه يعاسيبُ كثيرة. كنتُ خفيفةً، ميتةً وسعيدةً في الحلم، إلى أن أبصرتُ طرف جديلةٍ تتدلّى بجانبي. جزعتُ وقررتُ البحث عن مقصّ. كان شعري في الحلم أسود طويلًا، كما هو في الحقيقة، إنّما أملس. لم يزعجني الأمر، فقد كنتُ واقعةً في مصيبةٍ أكبر؛ هذه الجديلة يجب أن تزول وتنزلق عن رأسي، فإن لم يهِبنا الموتُ حرية اختيار مظهرنا، ولاسيما تسريحة شعرنا، فلماذا نموت إذًا؟
قد يحلم البعض منّا بموته، وأزعم أن كثيرين وكثيراتٍ يخشين أشياء عديدةً في أحلامهِمن أو كوابيسهِمن، لكن قلّةً مثلي، أكثر ما يخشونه هي الجدائل لارتباطها في المخيال الشعبيّ بالموت.
ماطلتُ كثيرًا في كتابة هذا النص. تخبرني معدتي أن محاولتي تجاهل أفكاري ومخاوفي لا تُجدي نفعًا. ألوم نفسي وأتساءل عن جدوى النّبش في هذا الركن الغائم من عقلي، وكيفية الكتابة عن الموت بخفةٍ من دون أن تحاصرني أوجاع البطن وذكريات الماضي والخوف من حياة البرزخ. لكن كما سيحفّز هذا قلقي، لربّما يُحرّرني منه.
عندما قصّت أمي شعرها، نصحَتها صديقتُها المُقرّبة بألّا تُكرّر فعلتها لأنّ مُنكرًا ونكيرًا1 سيشدّانها من ثديَيها عوضًا عن شعرها قبل سؤالها عن ربّها ودينها ونبيّها. كان لهذا الكلام الغريب تأثيرٌ حادٌّ على أمي، فارتعبَت وبكَت كثيرًا. باءت كلّ محاولتي للتخفيف عنها بالفشل، وأعتقد أنّي كنتُ أحاول إسكات مخاوفي التي بدأَت تكبر منذ ذلك الوقت. كيف لا وأنا أعيش في مجتمعٍ مُتشدّدٍ يحتفي بالموت وينبذ الفرح؟
يُعتبر شَعر النساء من المسائل الإشكالية في طقوس غُسل الميت، وكثيرًا ما يُطرح السؤال ذاته: كيف نتعامل مع الشَعر؟ معظم شيوخ الإسلام يُوصون بضرورة تجديل شَعر المرأة المُتوفّاة في ثلاث ضفائر قبل أن يُلفّ جسمُها في الكفن خمس مرّاتٍ من باب الستر. سمعتُ هذا الكلام مرارًا من المُعلّمين في المدرسة. كانت الضفيرة مُرتبطةً في ذهني بالبساطة وبنساء القرية الجميلات اللّاتي يحمِلن على أكتافهنّ جرار الماء. لكن عندما دخلتُ المدرسة، صارت الضفائر مُرتبطةً بالالتزام والصرامة، فهي التسريحة الوحيدة المسموح بها داخل أسوار مؤسّسةٍ قائمةٍ على الحشو والتلقين والترهيب.
يُعتبر شَعر النساء من المسائل الإشكالية في طقوس غُسل الميت، وكثيرًا ما يُطرح السؤال ذاته: كيف نتعامل مع الشَعر؟
ليسَت المدرسة وحدها ما علّمني الانضباط وزرَع في نفسي الخوف من جسدي ومن الآخر، بل المُجتمع أيضًا. ولم يكن المُجتمع بالنسبة لي سوى أمي وصديقاتها اللّاتي كنّ يقضين أيامهنّ في الحديث عن الآخرة وعذاب القبر وترديد سرديّات ترهيب النساء من شعورهنّ، فروجهنّ، أردافهنّ، سيقانهنّ وكلّ قطعةٍ من أجسادهن.
كلّ ما سمعتُه من المُعلّمين ومن أمي وصديقاتها، وكلّ ما قرأتُه بسذاجةٍ على صفحات بعض المدوّنات الإسلامية، أثّر في علاقتي بشَعري رغم محاولاتي الكثيرة لترميمها. ثمّة حاجزٌ كبيرٌ يفصل بيننا. أصبح شَعري حبيس الضفيرة الآتية، كأنّه مجدلٌ دومًا حتى قبل مماتي، وكأنّي أنصاع لقوانين غير مرئيةٍ في عقلي، مثل "الحريم غير المرئي" في كتاب ’نساءٌ على أجنحة الحلم‘2 للكاتبة النسوية فاطمة المرنيسي. ما زلتُ أخشى مُنكرًا ونكيرًا والجديلة، وأتجوّل - أينما ارتحلتُ - بثلاث جدائل غير مرئيةٍ فوق رأسي.
كان بيّنًا لي أن الموت هو رحلةٌ أخرى من الهيمنة. ببساطة، بدا لي شَعري مُستعمَرًا ومعزولًا عني، رغم التصاقه بي. أفكّر كيف يُجرّدنا هذا الاستعمارُ من هويّتنا كنساء، وهو عقابٌ عسيرٌ يقطع صِلتنا بذواتنا ويجعلنا نسير مُتراصّاتٍ نحو هاويةٍ لا نعرفها ولا تعرفنا، فلكلٍ منّا هاويته/ا، أو هكذا أتمنى.
أتخيّل ما سيحدثُ إن لم يُجدّل شَعري بعد موتي؟ قد ينكرُني باقي الموتى لأنّي لا أشبههُمن. سأجلسُ وحيدةً على طرف مدينة الراحلين. حتى الموتى يتنمّرون. كثرٌ منهُمن يحتاجون إلى التخلص من إرث الحياة القاسي عبر زيارة عيادةٍ نفسية. أنا أيضًا سأحتاج إلى زيارةٍ للتعافي من نبذهِمن. لكنّي لا أهتم، فقد انتصرتُ، وتُرك شَعري كما هو. لعلّ مثلما تقول الأساطير، سأعود إلى الحياة مجددًا وشَعري على حاله.
بدأتُ أقصّ شَعري منذ سنواتٍ حتى يسهل تمشيطه. كنتُ أمرّ في مرحلةٍ سيئةٍ من حياتي وأشعر أنّي "مبهدِلة"، كما نقول في مصر، إذ قلّما كنتُ أعتني به. أكتب في مُفكّرتي كافة مهامي اليومية ومن بينها تمشيط شَعري. قد يبدو الأمر تافهًا ولا يحتاج إلى هذا الترتيب والتنبيه، لكنّ رفاقي ورفيقاتي مرضى القلق والاكتئاب يفهمون ويفهَمن ما أتحدّث عنه. الاهتمام بالجسد كالاهتمام بالذات، يحتاج طاقةً وجهدًا، وكلاهما ينفدان بسرعةٍ في ظل ما تعانيه نفوسنا. لحُسن حظي، تحسّنَت حالُ شَعري وخفتَت في عقلي مخاوفُ تجديله، وظهرَت عليه علاماتُ محبّتي له.
ليسَت المدرسة وحدها ما علّمني الانضباط وزرَع في نفسي الخوف من جسدي ومن الآخر، بل المُجتمع أيضًا
تجلّى اهتمامي بشَعري في قصِّه، متمردةً على مقاييس الجمال في عقلي، إذ كنتُ أعتقد أنّي سأبدو جميلةً فقط إن كان شَعري طويلًا، فـ"زينة المرأة شَعرها" كما يُقال. لكن بالنسبة لي، الجمال هو الراحة، وراحتي هي في التخلّص من هذا الثقل الجاثم فوق رأسي وتقبّل طبيعة شَعري. لن أملّسه بعد الآن ولن أخفي تموّجاته. انضممتُ إلى مجموعة Curly Girls Egypt للاهتمام بالشّعر المموّج والمجعّد على موقع فيسبوك، وتعلّمتُ الكثير من الأشياء. صرتُ أغسل شَعري بشامبو خالٍ من الكبريت والسليكون، وأغطّيه عند النوم بقماشٍ من الساتان لأحميَ خُصلاته من التلف.
عندما قرأتُ كتاب ’في أثر عِنايات الزيّات‘ للكاتبة إيمان مرسال، لفتَني أن عِنايات قصّت شعرها تهيئًا للانتحار. بدا الأمر غريبًا، فأنا أقصّه دومًا في محاولةٍ للنجاة. أذكر أنّ صديقةً فيسبوكيةً نشرَت سابقًا على حسابها الشخصي أنها كعِنايات، قصّت شعرَها قبل أن تبتلع حبوبًا منوّمةً وتحاول الاختفاء من هذا العالم.
تبدو عِنايات شجاعةً لأنّها لم تُفكّر في المُغسّلة التي لن تستطيع تجديل شعرها. ينتشلني عقلي من انبهاري بها منبّهًا إيّاي: "أكيد ما تعرَفش". ها هي الأبوية ترتطم بعقلي مجددًا، تجعلني أنفي الشجاعة عن امرأةٍ لا أعرفها، وأخمّن أنها بهذه القوة، لأن تلك الصيغة الغرائبية من القهر لم تصِلها.
قرأتُ ذات مرّةٍ سؤالًا لفتاةٍ في أحد المواقع المُخصّصة للفتاوى، مفاده أنها لم تجدّل شَعر أمها في ثلاث جدائل، وبقي على حاله مثلما جدّلَته هي قبل موتها في ضفيرتَين فقط، سائلةً ما إذا كان ذلك جائزًا أم لا؟ ابتسمتُ في وجه حاسوبي بسذاجة. أهلًا بكِ يا أختَ القلق! أنتِ رفيقتي رغم أنّنا لا نعرف بعضنا البعض. ثمّة جدائل سرمديةٌ تزوركِ في أحلامكِ وتشغل أركان عقلكِ أيضًا. لعلّكِ أقرب إليّ من عِنايات التي ظننتُ أنّي أتشارك معها الاكتئاب والكتابة والتمرّد. يجمعُني بكِ الخوف، والجهل وفقد الأم أيضًا.
حين كانت أمي مسجّاةً أمامي على طاولة الغُسل، وقررتُ أنا وأختي المشاركة في هذا الطقس لنؤنسَها، أمسكَت قريبتُنا بشعرها وشرعَت تجدّله. عندها، نظرتُ إلى وجه أختي وكنتُ متأكّدةً من أنّنا نفكّر في الأمر ذاته: ما نقوم به الآن بحُلُمٍ، ودَعةٍ وحب، سيسبّب ألمًا شديدًا لأمّي حين تمسك بشعرها يدان خارقتان للطبيعة وهي ملقاةً تحت التراب. كان من الممكن تدارك كل ما عشتُه أنا وأختي، والتمرّد على كلّ تلك السرديّات المرعبة برفض تجديل شعر أمّنا.
انتقلَت عِنايات إلى عالم البرزخ بقَصّة شَعرٍ جديدة. أحزن لأجل عِنايات، ويُحزنني أنّنا نعيش الأوجاع ذاتها ونتبادلها مهما اختلفَت السنون، بناءً على كلامٍ يتناقله الناس، سنكتشف حقيقته عاجلًا أم آجلًا.
إضافة تعليق جديد