دائمًا ما تذكّر نوفل العربية بوالده. لكنه غريبٌ على الحب بلغته الأم. فهل يأخذ الحب حيّزًا مختلفًا في وجدانه إذا ما أحبّ بالعربية؟
قضيتُ طفولتي متعطّشًا للحبّ من دون جدوى. أما الآن، فيتدفّق الحب حولي بوفرةٍ ويحيطني بفيضٍ من العواطف الرومانسية والأفلاطونية. تلك النقلة صاحبَتها تغيّراتٌ جغرافيةٌ، اجتماعيةٌ، سياسيةٌ ولغويةٌ عدّة في حياتي.
تمثّل اللغة محور اهتمامٍ أساسي بالنسبة إليّ، وبالرغم من أنّي كنتُ أتكلّم العربية فقط في طفولتي، صارت الإنجليزية لغتي الأساسية منذ انتقلتُ إلى كندا مراهقًا مع أمي وأخوَيّ. شيءٌ ما في داخلي يتساءل عن احتمال اختلاف تجربتي مع الحب باختلاف اللغة التي أعبّر بها عن مشاعري. ولعلّ السؤال الممكن طرحه هنا: هل يأخذ الحب حيّزًا مختلفًا في وجداني إذا ما أحببتُ بالعربية؟
أنا غريبٌ على الحب بالعربية. لم تتردّد كلمات الحب الأفلاطوني والرومانسي على مسمعي إلا بالإنجليزية، وما زلتُ عاجزًا عن الإفصاح عن الحب بلُغتي الأم، حتى تجاه أصدقائي العرب. اللّغتان غاليتان بالنسبة لي، لكن تبقى الإنجليزية اللغة الوحيدة التي تعلّمتُ أن أتلقى الحب وأمنحه عبرها، ما يجعل العربية لغةً ذات أبعادٍ تجريبيّةٍ بالنسبة لي: ففي داخلي توقٌ لأتحدّث عن الحب بالعربية وأتفوّه بكلمات الحب التي تعلّمتُها من الشّعر العربي والأغاني العربية، ولأقول جُملًا عن الحب تسمح لقواعد اللّغة بوداع آخر أمنيةٍ لم تتحقّق للطفل غير المحبوب الذي كنتُه يومًا.
دائمًا ما تذكّرني العربية بأبي، فقد كان شديد التباهي بمعرفة قواعد اللغة. كنتُ كلّما جلستُ في الكرسي الأمامي بجانبه وهو يقود السيارة، يشرع يحدّثني عن الأخطاء النحوية الشائعة. كما كان يشتري لي الكتب ويحرص على اصطحابي معه إلى حفلات توقيع الكتب، ومعرض طرابلس الدولي للكتاب والنّدوات الأدبية التي كان يشارك فيها بصفته كاتب قصص. لكنه لم يجلس معي يومًا لنقرأ سويًا، ولم يساعدني حتى على تحسين نصوصي الأدبية عندما بدأتُ بالكتابة، بالرّغم من إلحَاحي عليه ليفعل. ومع أنّي قضيتُ معظم طفولتي برفقة أبي، إلا أنّي لا أعرفُ الكثير عنه. لا تربطني به الكثير من الذكريات، لا الجميلة منها ولا المؤلمة، ولا تجمعنا حتى صورةٌ واحدة. لا أذكر أنّه حضر أيًا من حفلات عيد ميلادي، أو حرص على مشارَكتي تفصيلًا واحدًا عن حياته، لدرجة أنّي أشعر بألفةٍ أكبر مع بعض الشخصيّات في الكتب. لم تجمعني به كذلك أيّ لحظاتٍ حميمة، فقد كان عنيفًا، سريع الغضب وكثير التوبيخ. لم يسبق له أن لاعبني أو عانقني. أذكر مرّةً وأنا في سنّ السابعة، وبينما كنّا نتناول الطعام، سألتُه سؤالًا أزعجه فرمى ملعقته في وجهي. لا أذكر السؤال، لكن منذ ذلك الحين صرتُ أخشى التكلّم معه. أحاديثنا القصيرة والقليلة عن اللغة والكتب كانت الأمر الوحيد الأقرب إلى الحميمية في علاقتنا المُرتبكة.
شيءٌ ما في داخلي يتساءل عن احتمال اختلاف تجربتي مع الحب باختلاف اللغة التي أعبّر بها عن مشاعري
وقع الطلاقُ بين أمي وأبي وأنا في سنّ الثانية عشر، وانتقلتُ للعيش مع أمي التي كنتُ أخاف رفقتها ولا أحتمل قسوتها. ذات يوم، حضر أبي إلى عمارتنا على حين غرّةٍ بقصد التحدّث إليّ. أصابني الرعب لمجرّد التفكير في البقاء معه على انفراد، لاسيّما أنّه لم يكن هناك سببٌ مقنعٌ لتلك الزيارة الثقيلة على قلبي. جلستُ إلى جانبه داخل السيارة، ومن دون مقدّمات، قال لي محاولًا التغلّب على تأتأتِه المزمنة: "اسمع، نوفل، عندي واجبات نحوك كأب، حنستمر في تلبية هاذي الالتزامات، لكن نبّيك تعرف إن أني ما عادش نحبك".
ثم أشار لي بيده كي أترجّل من السيارة.
لم أُفكّر في تلك المحادثة المُقتضبة والغريبة لسنواتٍ طويلة. أولًا، لأنّي كنتُ أعتقد أساسًا بأنّ أبي لا يُحبّني؛ وثانيًا، لأنّ جزءًا منّي استوعب أن بوحًا بهذا الثِّقل لن أستطيع فهمه إلا بعد أن أخوض تجربة الحب مع الآخرين ومع نفسي.
الآن، وقد أحببتُ وتوقفتُ عن حب أشخاصٍ كثُر، رومانسيًا وأفلاطونيًا، بتّ أفكّرُ في تلك المحادثة بحميميّةٍ خاصة: إذ من بين كلّ أحاديث الحب التي شهدتُها، وحده ذاك الحديث مع أبي كان إفصاحًا عن وجود الحب وانعدامه في آن، فتصريحه آنذاك بأنّه لم يعُد يُحبّني هو في حدّ ذاته بوحٌ بالحبّ. لا أعتقد أن ذلك الاعتراف كان سهلًا على الإطلاق، لاسيّما أنّه رجلٌ صارمٌ لا يُشهر مشاعرَه مهما حصل.
صارحتهُ مرّةً، بعد إفصاحه عن عدم حبّه لي، بأنّي كنتُ أحتاج انتباهه وعطفه، وبأنّ صحّتي النفسية لم تعُد تقوى على مواصلة العيش مع أبٍ وأمٍ عنيفَين جسديًا ومعنويًا. لم يستوعب بَوحي يومها، واعتقد بأنّي كنتُ أردّد كلامًا لقّنني إيّاه أحدٌ ما أو أكرّر حوارًا شاهدتُه في أحد الأفلام. أدركتُ وقتها أنّه غير قادرٍ على أن يكون أبًا لي، وأنّي غير راغبٍ في أن أكون ابنًا له. انقلع يومها الأملُ في علاقةٍ أفضل بيننا كما تقتلع الريحُ غصنًا هزيلًا.
علاقتي بأبي (وانعدامها) حرّرتني من كل الضغوطات التي تفرضها الثقافات الإنسانية للحفاظ على صلة الدم. ما من فائدةٍ في الإبقاء على شخصٍ لا أنسجم معه لمجرّد رابط القرابة بيننا. هكذا، قرّرتُ البحث عن العناية والحب في صداقاتي بدلًا من عائلتي، لاسيّما أنّ أمي كانت مهمِلةً وعنيفةً مثل أبي. تعلّمتُ أيضًا أهمية الاعتناء بنفسي في غياب أبٍ مسؤول، كما تعلّمتُ ألّا أكونه يومًا لا مع نفسي ولا مع أطفالي في المستقبل. لكن بالرغم من كلّ هذا، ولسببٍ لا أفهمه تمامًا، لم يكن لأبي تأثيرٌ يُذكر في حياتي، ونادرًا ما أتحدّث عنه خارج جلسات العلاج النفسي الذي خضعتُ له في السنوات الأخيرة كي أتعافى من تروما طفولتي.
علاقتي بأبي (وانعدامها) حرّرتني من كل الضغوطات التي تفرضها الثقافات الإنسانية للحفاظ على صلة الدم
أذكرُ أبي منعدم العاطفة مثلما أذكرُ لوحةً قديمةً أمعنتُ النظر فيها في المتحف، محاولًا العثور على معنًى ما. لا أشتاقه ولا أحتاجه الآن على الإطلاق، لكنّي أفكّر فيه بين فينةٍ وأخرى، عندما أتحدّثُ عن الأدب والشِّعر العربي مع مهاجرٍ عربي في سنّه مثلًا، أو حين أتناول القهوة بصحبة أستاذٍ جامعي تربطني به صداقةٌ وطيدة. أفكّر في أبي أحيانًا لأنّي أشفق عليه: كان حريًا به أن ينعم برفقة أبناءٍ مثلي وأخوَيّ بدل أن يكون أبًا غائبًا لأسبابٍ ما زالت مبهَمة. كان من الممكن أن يربطه بي ودٌّ كالذي يربطني بآباءٍ كثرٍ في سنّه.
لم أحبّ أبي يومًا بالرغم من أنّي كنتُ أوهم نفسي بذلك في طفولتي. أنا الآن على يقينٍ بأنّي لم أكن قادرًا على حبّه لأنّه ببساطةٍ لا يستحقّ حبّي، وإِنْ كنتُ متأكدًا وآملًا في أن يكون استحقّ حب أناسٍ آخرين.
لم ألتقِ بأبي منذ سنوات، ولا أرغب في التواصل معه.
عندما رأيتُه آخر مرةٍ وأنا في السادسة عشر من العمر، أي منذ سبع سنوات، أنبأَني حَدْسي بأنّي لن أراه مجددًا، فطلبتُ إليه أن يعطيني أحد كتبه ليذكّرني به. كان أبي يملك أكثر من ألفِ كتابٍ لم يقرأ معظمها، لكنه رفض طلبي يومها، فتسلّلتُ إلى مكتبته وسرقتُ كتابًا باللّغة العربية.
مؤخرًا، ضاع مني الكتاب. أظنُّه يقبع في صندوقٍ ما، مغطًّى بسنين من الغبار، ينتظرُ أن يمسك به أحدٌ ما ليقرأ فيه جُملاً عربيةً غزيرةً تحنُّ إلى تجربةٍ جديدة، إلى شاعرية الحرية والحب.
إضافة تعليق جديد