نيويورك، أمريكا: عَيْنَاكَ أَعْلَنَتَا أنَّ الرَّبِيعَ صَحَا
3 مايو 2019
كنتُ في سيارة الأوبر حينما لمحتهُ من النافذة، جالسًا تحت شمسٍ هادئة، على أدراج المنزل الذي استأجرنا فيه غرفةً لقضاء أسبوعٍ كاملٍ معًا. ها هو يقتربُ مني مبتسمًا، ينظر إليَّ تارةً وإلى جانبه تارةً أخرى كما لو كان يحدق في عينيَّ خلسةً، مثل أول نظرة بين الشمس والزهرة لحظة تفتّحها. نزلتُ من السيارة وتعانقنا وكأننا التقينا في حياة سابقة، ربما، أو في مخيلتنا. أخذني جيري (Gary) إلى غرفتنا وتعانقنا هناك مرّةً أخرى لمدة أطول.
رحنا نتمشَّى في الحي، بعد أن قررنا أن نلازمه أول ليلة، نخطط بصوتٍ عالٍ ما سنفعله في عطلتنا. كان الحي يبعد عن وسط المدينة حوالي 25 دقيقة عبر المترو، وكان هادئًا ومتجانسًا عرقيًا: الكلّ يتكلم اليديشية ويرتدي نفس الزيّ اليهودي الحسيدي التقليدي، أكثر ما يميزه قبعاتٌ سوداء كبيرة من الفرو تُسمّى شتريمل يرتديها الرجال، وأوشحة أو باروكات تغطي رؤوس النساء. يستغرب الرجال مبتسمين لمقاطعتي أحاديثهم مستفسرًا عمّا إذا كان هناك أيّة مطاعم قريبة، أو لأدردش مع الغرباء كعادتي. لاحظتُ أن لجيري نفس العادة أيضًا. انتهى بنا الأمر بالذهاب إلى مطعمٍ مكسيكي وقمتُ أنا بدفع الفاتورة عن كلينا، رغم أنه عادة ما يدفع كلّ رجلٍ عن نفسه في المواعيد الغرامية الأولى كهذه.
عدنا بعد العشاء إلى المنزل واستلقينا على نفس السرير وبينما كنّا نتحدث عن حيواتنا المختلفة في كندا وأمريكا، غارقين في سواد أعيننا، تبادلنا القبلات. خلدنا للنوم بعدها دون أيّة ستائرٍ تحجبنا عن الملأ، دون أي حاجز يمنع الناس من رؤيتي أنا وجيري محتضنين بعضنا البعض، عاريي الصدر، نتبادل وضع رأسينا على صدرينا الأسمرين كثيفي الشعر تارةً ونضيع في القبلات تارةً أخرى. أدركتُ عندها أن هذا هو حبيبي، على الأقل لهذه الفترة من حياتي.
قرّرنا صباح اليوم التالي أن ندخل في علاقةٍ جديةٍ.
رجعت اليمامة زهّر التفاح
وأنا على بابي الندي والصباح
وبعيونك ربيعي نوّر وحِلي
فيكتوريا، كندا: يَا صَاحِبَ الْوَعدِ خَلِّ الْوَعْدَ نِسْيَانَا
31 يناير 2020
أجلسُ وحيدًا في محطة العبّارات، أعدُّ الطيور المحلّقة فوق المحيط الهادي، منتظرًا نزول جيري من العبّارة. قليلةٌ هي المرات الّتي أقفُ فيها حائرًا مثل سائحٍ عند منعطف طرق؛ كانت هذه إحداهن. لا مشاكل بيننا ولكن هناك محيطٌ، وحدودٌ، ومستقبلٌ لا يتضح وجهه. ها هو ينزل من العبّارة، ينظر إليَّ تارةً وإلى جانبه تارةً أخرى كما لو كان يحدق في عينيَّ خلسةً، مثل آخر نظرةٍ بين الزهرة والشمس حين غروبها. تعانقنا بشدّة (ما فتئتُ عاجزًا عن وصف ذلك العناق). كان قد أخبرني قبل مجيئه بأنه يفكر في إنهاء علاقتنا.
"مازلتُ أحبكَ، نوفل. أنت الرجل الوحيد الذي أحببت، ولكنني لا أستطيع تحمّل المسافة. لا أستطيع أن أكون في قمة السعادة لبضعة أيام عندما تكون معي وأن أكون حزينًا لأيامٍ عديدة عندما نفترق." أخبرني بهذا الكلام وهو يتمددُ عاريًا في حضني في غرفتي.
"حتى وإن كان هناك الكثير من السمك في البحر، فأنا أريدُ هذه السمكة، أنتَ. ولكن إذا كانت هذه السمكة لا تستطيع أن تبقى معي لمدةٍ أطول، فليس هنالك من شيءٍ أقدر على فعله. أحترم قرارك. أحبك أيضًا." أجبتهُ ومن ثم حرّكتُ رأسه من على صدري لأضع رأسي على صدره.
قضينا تلك الليلة وطوال اليوم التالي معًا. كانت هذه آخر كلماتٍ نطقنا بها ونحن نتبادل القبلات حين رحيله:
"أحبكَ، جيري."
"أحبكَ، نوفل."
ترجع، أحق الناس نحنا فيك
...
ما دام إنك هون
يا حلم ملوِ الكون
شو همّ ليل وطار
وينقص العمر نهار
بس سهار
بس سهار
سهار
علاقتنا: ولاَ بَدِّي شِي بَعدْ إلَّا دَارِيكْ
تعرفتُ على جيري عن طريق تطبيق إنستغرام قبل سنة من لقائنا، وعندما انتهت علاقتي بصديقٍ مقرب كنت قد خططتُ معه رحلة إلى نيويورك، قررتُ أن أقترح على جيري أن نلتقي في نيويورك. تحمّس لهذه الفكرة خاصة أنه لم يسبق له زيارة نيويورك، إحدى أهم مدن بلاده. قررنا أن ننزل في نفس الغرفة وألا نتبادل القبلات أو نمارس الجنس إلا إذا وقعنا في الحب؛ هذا لأنّنا أصدقاء بالدرجة الأولى. كان يبلغ الثالثة والعشرين من العمر، يكبرني بسنة واحدة. الرجل الوحيد الذي ظننتُ، صائبًا أم خاطئًا، أنه أكثر وسامةً مني، ذو ملامحٍ لا يمكن لبلد أو ثقافة واحدة احتوائها: عينان سوداوان مثل رغوة القهوة العربية، وبشرةٌ سمراء كالقرفة. كان النظر إلى جسده عاريًا كما النظر إلى نفسي في المرآة، باستثناء الوحمة أسفل ظهره.
رغم اختلاف نظرتنا إلى الحياة، ما جذبني في جيري منذُ البداية هو نبله وطيبة قلبه: كان يدعم الكثير من القضايا الإنسانية التي تهمني، دون معرفته الكافية بخصوصياتها، مثل حقوق السكان الأصليين في كندا وأمريكا والقضية الفلسطينية. وكانت نظرته لثقافته اللاتينية كجزءٍ متناغم مع هويته الأمريكية مماثلةً لنظرتي لثقافتي العربية وعلاقتها بهويّتي الكندية. بقينا معًا قرابة التسعة أشهر، زرنا فيها مدنًا كثيرة بين كندا وأمريكا، محاولين أن نلتقي مرةً كلّ شهر أو شهرين. كان كلّ منا مشغولًا بالدراسة والعمل أيضًا، لذلك لم يتوفّر لنا لا الوقت ولا المال الكافي لنرى بعضنا بشكلٍ أكثر تواترًا. عندما نكون معًا، نُلبس بعضنا البعض، نتحممُ سويًا، وننامُ سويًا أيضًا. كانت لقاءاتنا مفعمةً بالمرح والضحك، القليل من الجدال أحيانًا، والكثير الكثير من الأحاديث والشِّعر والجنس.
وشو تأخر بكرا
قولك مش جايي حبيبي
عم شوفك بالساعة
بتكّات الساعة
من المدى جايي حبيبي
أنا وفيروز بعد الفراق: ضَحْكَاتْ عُيُونُو ثَابْتِينْ مَا بِيِنْقَصُوا
فيروز، صوتُ اللهِّ يحادثنا، مصحوبًا بأنين الناي بعد أن يفنى الوجود في حقول الزهر الذابلة، لطالما صاحبتِني منذُ طفولتي. فيروز الصوت الوحيد الذي عاهدته عندما كنتُ طفلًا إثر هوس والديَّ بها، وهي من رافقتني حينما كنت أستيقظُ أواخر الليل لأبكي وحيدًا خلال علاج أمي من السرطان. لصحبة فيروز قدسيّةٌ تفوق تلك التي للمعابد، وقد صلّيتُ في معابد لأديان مختلفة. ها هي الآن تشدُّ بيدي وأنا أتجولُ في شوارع موطني، أرنو لأشجار أزهار الكرز المتلألئة، متسائلًا لمَ لا أشعرُ بالحزن رغم أن حبيبي قد تركني.
صوتٌ كونيٌّ كهذا، يحادث الإنسانية بهويّاتها المختلفة بأغانٍ متعددة الأنماط وذو حساسيةٍ شِعريةٍ عالية تُمكِّنني من تفسير هذه الأغنيات على كونها رسائل لي، مدركًا، ورافضًا التصديق، بأنها كُتبت عن ولأشخاص آخرين. رافقتنا فيروز أنا وجيري طوال علاقتنا ومنذُ بدايتها في نيويورك؛ فقد غنيتُ له أغنية أنا لحبيبي وحبيبي إلي في يومنا الخامس، وترجمتُ له كلمات الأغنية إلى الإنجليزية. خاطبت تلك الأغنية حُبّنا آنذاك لتؤكد لنا بأن حبّنا حقيقةٌ تدركها حتى العصفورة: "أنا لحبيبي وحبيبي إلي/ يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي." ولكن لم تتركنا فيروز عندها، فكلّ أغنية ذُكرت في نصي هذا حادثت شيئًا ما في حُبّنا: أولُ لقاء، صعوبةُ المسافة والبعد، رغبتنا بتأجيل الفراق ولو بليلة، والكثير الكثير. لطالما تبادلتُ أنا وجيري القبلات والصمت على أغاني فيروز.
بعد فراقنا، شعرتُ بكثيرٍ من الشوق، ولا شيء يُذكر من الحزن. استغربتُ كثيرًا من غياب الأخير، ولا سيّما أننّا كنا ما نزال متيَّمين ببعضنا البعض. كان موعدي مع الأخصائي النفسي بعد شهرٍ ونصف من حينها ولم أجد سببًا لأراه قبل ذلك، كانت صحتي النفسية على ما يرام. في تلك الفترة، قبل حديثي عن الموضوع مع الأخصائي النفسي، وجدتُ فيروز تخاطبني:"أمس انتهينا" تؤكد لي بأنه يمكنني أن أُغرم بشخص وألّا أنهار لرحيله، بأنّ الوعود قد تكون أجمل حين تُنسى؛ "سلّملي عليه" تذكّرني بأنه يمكنني أن أستمر في حبه عن بعد، أن أفكر في عينيه السوداوين دونما أرغب بالعودة إلى علاقتنا على الرغم من روعتها؛ و"اشتقتلك" جَعَلتنِي أتصلُ بجيري لأنه حتى وإذ أنهينا الفصل الرومانسي من علاقتنا، فلا مانع بأن نكون أصدقاء لأنني كنتُ قد اشتقتُ له وعلى علمٍ بأنه اشتاق إليَّ كذلك، ولو مش رح بِقلّي.
حكم الهوى يا هوانا واتفارقنا
ويا أهل السهر يلّي نطرونا
بكرا إذا، انذكروا العشاق، ضلّوا تذكرونا1
- 1 الأغاني حسب ترتيب الظهور: حبّوا بعضن - يا زائري في الضحى - أنا لحبيبي وحبيبي إلي - أمس انتهينا - سهار بعد سهار - بقطفلك بس - سألتك حبيبي - سلّملي عليه - اشتقتلك - الله معك يا هوانا. تنويه: الروابط الظاهرة في المقال للأغاني قد لا تعمل في بعض الدول الأوروبيّة لذلك وضعنا قائمة الأغاني حسب ترتيب ظهورها.
إضافة تعليق جديد