لفترةٍ طويلةٍ جدًّا من عمرها، شعرت أميرة الدسوقي بأنّها لا تستحق الجنس بسبب وزنها، وأنّ هذا الوزن ذنبٌ يجب أن تدفع ثمنه بالحرمان من المتعة. لكن مع الوقت، أدركت أنّ الجنس هو حقٌ أساسيّ يجب أن يتمتّع به الجميع أيًا كان شكل أجسادهن/م أو ظروفهن/م.
كنتُ طفلةً نحيلةً لا يُمكن أن يُخيّل لأيّ شخصٍ عرفني أنّ وزني سيزداد بهذا القدر عندما أكبر. غيّرَت الهرمونات مصير جسدي إلى الأبد. هو إرثٌ حزينٌ من عائلة أبي؛ جميع عمّاتي يُعانين من السمنة والاضطرابات الهرمونية. ورثَت بناتهنّ تلك الجينات كما ورثتُها أنا.
في عائلة أبي، لم تُرزق أيّ امرأةٍ بالأطفال بطريقةٍ سلسةٍ وطبيعية، بل تطلّب الأمر الكثير من العلاج الهرموني وفقدان الوزن حتى تُشفى أجسادهنّ من تكيّسات المبيض التي تمنع القدرة على الحمل، وهو المرض الذي أعاني منه أيضًا. لعلّ الأمر لا يشكّل أزمةً بالنسبة لي لأنّي قرّرتُ عدم الإنجاب، لكن له مضاعفاتٌ سلبيةٌ أخرى على الجسد وصحّته، مثل الشعور الدائم بالإرهاق، وظهور الشعر في أماكن متفرقةٍ من الجسم، إلى جانب عدم انتظام الدورة الشهرية، وتساقط الشعر والتقلبات المزاجية.
بدأت قصّتي مع زيادة الوزن عند البلوغ، كأنّ روحي الخفيفة المرحة حلّت داخل جسدٍ جديدٍ لا يُشبهها، فأحسستُ بنفسي عالقةً في سجنٍ مؤبّدٍ لجرمٍ لم أقترفه.
اضطررتُ إلى ارتداء حمّالة الصدر في سنٍ مبكرةٍٍ بسبب التعليقات المحرجة التي كنت أسمعها في الشارع بشأن حجم ثدييّ واهتزازهما عندما أمشي. بدأتُ بالتفكير في فقدان الوزن والحميات الغذائية في الوقت الذي كان فيه جميع أقراني يتناولون ما لذّ وطاب من الطعام. لكن أمي الرشيقة - حتى بعد تقدّمها في السّن - كانت تخشى عليّ من مصير نساء عائلتي اللواتي دمّرت السمنة صحّتهن، حتى تحوّل خوفها من دون وعيٍ منها إلى تنمّرٍ خفي.
"لحدّ ما تخسّي": الصخرة الجاثمة على صدري
في المرحلة الإعدادية، عندما كنت أبلغ من العمر 12 عامًا، شاركتُ طيلة شهورٍ في تمرينات رقص ٍ مع إحدى فرق الفنون الشعبية التابعة لمركز الشباب الذي تعمل فيه أمي؛ لكني حُرمتُ وقتذاك من تقديم العرض لأنّ الملابس وصلت قبل العرض بيومٍ واحدٍ ولم يكن مقاسها مناسبًا لي.
ما زلت أذكر بكائي في الكواليس وأنا أشاهد باقي أعضاء وعضوات الفرقة على خشبة المسرح. في تلك اللحظة، وُلد في داخلي شعورٌ بعدم الاستحقاق. كنت صغيرةً على التفكير في الحب أو الجنس، لكنّ شعوري بعدم الاستحقاق تحوّل إلى وحشٍ صغيرٍ يتغذّى يوميًا على ثقتي بنفسي، حتى وصلتُ إلى المرحلة الثانوية، أو الفترة الأقسى في حياتي، فترة ثورة الهرمونات وأحلام الحب والجنس والرومانسية.
حاولتُ مرارًا أن أخسر الوزن بطرقٍ قد تبدو ساذجة، لكنّها كانت تُعطيني الأمل بجسدٍ أفضل. كنت أستيقظ باكرًا كي أشرب كوبًا من الماء الساخن قبل فطور الصباح، إذ سمعتُ أنه يساعد على فقدان الوزن. طعمه الفاتر المائع كان يشعرني بالغثيان أحيانًا، لكنّي كنت أشربه دفعةً واحدةً كأنه دواءٌ لمرضٍ مزمن.
كنت صغيرةً على التفكير في الحب أو الجنس، لكنّ شعوري بعدم الاستحقاق تحوّل إلى وحشٍ صغيرٍ يتغذّى يوميًا على ثقتي بنفسي
في المدرسة الثانوية، كنت أخجل من تناول الطعام أمام صديقاتي حتى لا أسمع تعليقاتهنّ السخيفة. ازدادت جهودي لفقدان الوزن عندما انجذبتُ للمرة الأولى في حياتي إلى شابٍ يسكن بجوار إحدى صديقاتي. كنت أمتنع عن تناول الطعام في اليوم الذي يسبق زيارتي لها كي أشعر بالرشاقة في حال صادفتُه.
سرعان ما تحوّل هذا الإعجاب إلى ارتباطٍ رسمي، وانتظرتُ - من دون وعيٍ مني - أن يردّ لي شريكي الأول بعضًا من الثقة في النفس. لكنّ تلك العلاقة جاءت لتدقّ المزيد من المسامير في نعش شعوري بالاستحقاق. كان زوجي يُطالبني بوضوحٍ بأن أخسر الوزن حتى يكون شكلي لائقًا في المناسبات التي نظهر فيها معًا أمام المجتمع.
أصبحَت تلك المطالبات حجر الأساس في كل العلاقات العاطفية التي خُضتها. أحيانًا تأتي بشكلٍ ساخر، وأحيانًا أخرى عن طريق المقايضة: لن نظهر في الأماكن العامة "لحدّ ما تخسّي"، لن يكون هناك تواصلٌ جسدي بيننا "لحدّ ما تخسّي". أصبحَت عبارة "لحدّ ما تخسّي" صخرةً جاثمةً على صدري، تمنعني من الاستمرار في الحياة.
كنت أشعر أنه إذا لم يتقبّلني شريكي، فكيف سيتقبّلني زملاء وزميلات العمل؟ وبسبب هذا الإحساس، عرّضتُ نفسي لخطر الموت في السنة الأخيرة من دراستي الإعلام، عندما علمتُ بالتحاقي بالتدريب في جريدةٍ مهمةٍ بعد شهر، فاتبعتُ الحمية الغذائية الكيميائية بشكلٍ خاطئ. على مدى 14 يومًا لم آكل سوى الموز أو الخيار، حتى فقدتُ قرابة 20 كيلوغرامًا من الشحوم ومعها مناعتي، فصارت نزلة بردٍ بسيطةٍ تُلزمني الفراش لمدّة شهرٍ أصارع خلاله لأتنفّس، إلى جانب دوارٍ مستمرٍ جعل ذهابي إلى دورة المياه مهمّةً صعبةً تستدعي طلب المساعدة. الغريب في كل هذا أنّي كنت سعيدة، فللمرّة الأولى في حياتي كنت رشيقة!
"أنا لا أشبه بطلات الأفلام الرومانسية"
عبارات الاستحسان ونظرات الإعجاب والانبهار التي رأيتها في عيون الآخرين بعد فقداني الوزن، عززَت في داخلي نظرية العلاقة الطردية بين الرشاقة والاستحقاق، وجاء حبّي للسينما والتمثيل ليرسّخ تلك القناعة. فكلّ بطلات الأفلام المحبوبات والناجحات والواثقات يجب أن يكنّ رشيقات، بينما تؤدّي الفتاة الممتلئة دورَ صديقة البطلة خفيفة الظل، لكن ليس الحبيبة أو المتحققة. لم أشاهد في مراهقتي على شاشة التلفاز امرأةً ممتلئة الجسد يحارب البطل للحصول عليها أو حتى يغازلها. بل على العكس، كانت المرأة البدينة محطّ سخرية البطل الوسيم ونفوره في بعض الأحيان. ثم جاءت الأغاني المصوّرة التي يظهر فيها المغنّي المحبوب وهو يغازل فتاةً نحيفةً أو يعيش معها قصة حبٍ رومانسية، لترسّخ هذه الصور النمطيّة في ذهني.
وددتُ وقتها لو يُحبّني الرجال. وددتُ لو أكون مكان كلّ امرأةٍ نحيفةٍ تحت الأضواء، لكنّ وزني كان يقف دائمًا عائقًا أمام محاولتي التصالح مع جسدي ومشاعري. ومثّل اكتشافي المبكر لعالم أفلام البورنو الإباحية عاملًا معزّزًا لتلك الصور النمطيّة. فنجمات البورنو رشيقاتٌ، نحيفاتٌ وقادراتٌ على إتمام الكثير من الأوضاع الجنسية التي لا أحلم بالتفكير فيها بسبب وزني.
نظرات الإعجاب والانبهار التي رأيتها في عيون الآخرين بعد فقداني الوزن، عززَت في داخلي نظرية العلاقة الطردية بين الرشاقة والاستحقاق
تحوّلت حياتي إلى فتراتٍ من الرشاقة والسمنة، تترافق كلٌ منها مع معاناةٍ نفسيةٍ مستقلة. فعندما أكون رشيقة، أنتظر أن تُفتح لي كلّ الأبواب وأن تتحقّق كلّ الأحلام التي حُرمت منها، قبل أن أصطدم بصخرة الواقع: فالرشاقة قد تمنحني نظرات الإعجاب، لكنها لن تمنحني النجاح في عملي أو في العثور على حبٍ حقيقي.
كان الإحباط ينهش جسدي ظنًا مني أنّي حققتُ المطلوب لأشعر بالسعادة مثل الآخرين. لكن السعادة لم تأتِ مع خسارة الوزن، وثقتي بنفسي التي فقدتُها على مدى أعوامٍ طويلة، لم تستطع بضع كيلوغراماتٍ مفقودةٍ أن تمنحني إياها. لذلك، كنتُ أعود إلى الأكل بشهيةٍ مرَضيّة، فيزداد وزني ويزيد معه الاكتئاب كلما سمعتُ تعليقًا عن جسدي.
أنتِ بدينة... هل جسمكِ "بور"؟
عندما علمتُ بأنّي مُصابةٌ بتكيّسات المبيض التي تمنعني من الحمل، قرّر زوجي ألّا يخبر أسرته. فعلى الرغم من اتفاقنا على عدم الإنجاب، اختار الطريق الأسلم، لاسيما أنّه سبق لأحد أفراد أسرته أن علّق على وزني الزائد سائلًا بوضوحٍ مُستفزّ: "إنتِ كام كيلو؟"
عندما سمعتُ هذا السؤال للمرة الأولى من أقارب زوجي، شعرتُ بأن خصوصيّة جسدي تُنتهك، وأدركتُ أن ما يُقال وراء ظهري أكثر مما يُقال لي. جرحَتني تعليقاتهم. حتى أمي كانت تساند المنتقدين دومًا، فتخبرني أنّي إذا لم أخسر الوزن الزائد سيخونني زوجي أو سيصبح جسدي "بور"، أي أنّي كأرضٍ لا تصلح للزراعة، لن أكون صالحةً للحمل والولادة.
كانت أمي تستخدم السمنة التي تعاني منها عمّاتي كفزاعةٍ تلوّح بها في وجهي، محذرةً إيّاي من أن أكون نسخةً عنهن، فينتهي بي الحال طريحة الفراش غير قادرةٍ على الحركة بسبب الوزن الزائد. وعندما كنت أبكي، كانت تردّ بأنها "خايفة على مصلحتي" وبأنّي لا يجب أن أكون حساسةً تجاه الأمر.
لستُ وعاءً لأحلامكم
عدم شعوري باستحقاق الجنس استمرّ حتى بعد زواجي. كنت أخجل من أن أخبر زوجي بأنّي أريده جنسيًا، وأخجل من أن أظهر مُثارةً أمامه لأنّ جسدي لم يكن مثيرًا أساسًا. شعرتُ بأنّ هذا الجسد سيكون مقززًا في كل الأوضاع الجنسية ومنفرًا لمن يمارس معه الجنس، لذلك لم أشعر أن من حقي طلب الجنس من زوجي، بل عليّ الانتظار حتى يُبادر هو، ما جعل الإمتاع الذاتي جزءًا لا يتجزّأ من حياتي ودفع بزوجي للاعتقاد بأنّي امرأة باردة لا تُحب الجنس.
لم يكن جسدي مرنًا، كما لم يكن باستطاعتي القيام بكثيرٍ من الأوضاع التي تمنح شريكي بعض الاسترخاء. ولأنّ طبيعة جسدي تفرض على شريكي أن يقوم بكلّ المجهود في العلاقة، لم أكن أعبّر عن فانتازماتي ورغباتي، بل أظلّ في انتظار إشارةٍ منه.
لفترةٍ طويلةٍ جدًّا من عمري، شعرتُ بأنّي لا أستحق الجنس بسبب وزني، وأنّ هذا الوزن ذنبٌ يجب أن أدفع ثمنه بالحرمان من المتعة. لم أكن أدرك أن الجنس هو حقٌ أساسيّ يجب أن يتمتّع به الجميع أيًا كان شكل أجسادهن/م أو ظروفهن/م، وأنه لا ينبغي للجنس أن يبقى معلّقًا حتى تُحل مشكلات الجسم هذه، إذا ما اعتبرناها مشكلةً في الأساس.
قسوتي على ذاتي كانت أكبر وأكثر إجحافًا من قسوة الآخرين عليّ. كان مهمًا أن أسامحهم، لكن كان الأهم أن أسامح نفسي
هذه الأفكار المُقولبة كانت أقسى من نظرات العتاب والشفقة والسخرية التي هزّت كياني. أدركتُ وقتها أنّ قسوتي على ذاتي كانت أكبر وأكثر إجحافًا من قسوة الآخرين عليّ. كان مهمًا أن أسامحهم، لكن كان الأهم أن أسامح نفسي على كلّ تلك الأفكار المغلوطة عن استحقاق الجنس والحب.
جسدي - ممتلئًا أو نحيفًا - ليس وعاءً لتحقيق أحلام الآخرين، سواء كانوا أفراد أسرتي أو أسرة زوجي الذين يحلمون برؤية الأحفاد، أو رجالًا يجذبهم تفكيري وأحيانًا جسدي لكنهم يريدون ضبط مقاساته وفقًا للمعايير التي تناسبهم.
احتجتُ إلى أكثر من 25 عامًا لأدرك أن الفترات التي كنت أخسر فيها الوزن من أجل الآخرين كانت تسلبني صحّتي، وشعري ونضارة بشرتي.
كلّ هذا تغيّر الآن.
لمدّة عامَين كاملَين لم أقف على الميزان، بل أخذتُ أركّز على سلامة صحّتي ونوعية الطعام الذي أتناوله.
ما زال وزني زائدًا، لكنّي أشعر بالخفّة. لم يعُد هذا الجسد الثقيل يحمل روحًا ثقيلة، بل تركتُ روحي تحلّق في رحاب حب الذات من خلال مجموعة سلوكياتٍ كتناول الطعام الشهي والصحّي، وتعلّم الموسيقى والتلوين، وممارسة جلسات التأمل الطويلة واليوغا في بيتي بشكلٍ شبه يومي.
اليوم، لو تسنّى لي توجيه رسالةٍ واحدةٍ لكل امرأةٍ زائدة الوزن كنتُ لأقول: ليس من جسدٍ لا يستحق الجنس والحب.
إضافة تعليق جديد