فقط في هذا الكوكب يقتل هؤلاء "الأوصياء" من يحبّون. كما أوجدوا سببًا يلجؤون إليه بعد كل جريمة، أطلقوا عليه اسم "الشرف".
في كوكبٍ منسيٍّ قريب، تتعدّد الأسبابُ فيه ولا يبقى الموتُ واحدًا، بل يأتي على شكل أشباحٍ عدّة. شبحٌ صامتٌ وشبحٌ مدوٍّ، شبحٌ كاسرٌ وشبحٌ خبيث، شبحٌ خاطفٌ وشبحٌ متعالٍ. أشباحٌ متوحّشةٌ.
جميعُها متوحّشة.
لا يبقى الموتُ في هذا الكوكب واحدًا، ولكنّه يبقى. يدومُ ويتمدّد، ينهشُ ويضربُ بأسنانه، يُضرم نيران حقده وتخلّفه في كل مكان. يخالِفُ ولا يتخالَف. وفي بعضٍ من زوايا هذا الكوكب الغامض، لا يختلف على هذا الموت اثنان.
كوكبٌ أخضر، فيه من المساحات الجغرافية والنفسيّة ما يكفي الجميع. جميع كائناته من المخلوقات المتحدّثة، لكنها لا تقوى على الحديث، فمعظم هذه المساحات الشاسعة يملؤها قنّاصو الحديث والصمت في آنٍ واحد.
الكثير منهم.
حسنًا، لنرتّب الأفكار بصورةٍ أوضح.
ليس من السهل الكتابة عن هذا الكوكب ووصف ما بداخله دون السقوط في دوامات عديدة. إنّه حقًّا مركّب حدّ الضياع. كما أنّه منسيٌّ، ما يزيد الأمر صعوبة، إذ يتوجب علينا نبش ذاكرة حيّة اعتمدت النسيان، والعبث في ضمائر اختارت العمى طريقًا لها.
لا عليكم، سنبصرُ سويّة، فقد أنعمت علينا التكنولوجيا بتطبيقٍ جديد، حيث استطاعت مجموعة من العلماء إطلاق قمرٍ اصطناعي جديد مُوجّهٍ نحو ذلك الكوكب، ومن خلال التطبيق يمكننا رصد أحداثه بالصوت والصورة، وبشكلٍ مجانيّ. يتيح هذا التطبيق إمكانية الاستعانة بعدسةٍ مكبّرة تساعدنا على تكبير الصورة والتركيز في أدق التفاصيل. ومن خلال الجودة العالية لتقنيّة الصوت، يمكننا الاستماع إلى الأصوات المنبعثة من داخل الكوكب.
دخلنا إلى حانوت التطبيقات، وفي خانة البحث كتبنا "الكوكب الأخضر"، لكن النتائج لم تُشِر إلا إلى عنوان تطبيق آخر: "الكوكب الأخطر". عاودنا التجربة مرارًا، فكانت النتيجة ذاتها.
استغرقنا بعض الوقت لتقبّل فكرة الواقع التكنولوجي الذي يقطع حبل أفكارنا في لحظة عدم إدراك، ويغيّر توجّهاتنا ونقاط انطلاقنا نحو الشيء، أيّ شيء، وبعد أن حصلنا على التطبيق وقرأنا التعليمات، بدأت اللعبة. أقصد محاولة رصد أحداث الكوكب.
عن قرب، يبدو الموضوع أقلّ تعقيدًا. ينقسم قاطنو هذا الكوكب إلى دائرتين: الدائرة الكبرى والدائرة الصغرى. تختلف الدائرتان في لون أظافر من يتبع لكلّ منهما، وامتلاك الدائرة الكبرى للقوة، وسلطتها على الدائرة الصغرى. بحيث أن الدائرة الكبرى تمنح تابعيها الهيمنة بالوراثة، ولدى أصغر أظفر فيها ما يكفي من الامتيازات ليقتنع بأن هذا الكوكب ملكٌ له. بيد أن الدائرة الصغرى عانت وتعاني من الظلم والاضطهاد على مدار سنوات ضوئيّة عدة، ولكن للمفاجأة، يختلف قاطنو هذه الدائرة عن بعضهم بحسب شكل أحد الأعضاء. فبعضهم يُعرفون بلقب "أصحاب الأعضاء الطويلة"، وهؤلاء يعتقدون أن لديهم سلطةً داخليّة على أبناء جلدتهم من "أصحاب الأعضاء المستديرة"، فهم يعيدون إنتاج المسار القمعيّ الذي يتعرّضون له من الدائرة الكبرى بأشكال مختلفة، ويحاولون بشتّى الطرق أن يخلقوا حدودًا وحواجز تجعل من "أصحاب الأعضاء المستديرة" عرضةً للاضطهاد من جهتين.
مع مرور السنوات الضوئية، استطاعت الدائرة الكبرى أن تصبح مؤسسة تنعم بقوانين تخصّها، وكما هي العادة، تسعى أي مؤسسة كبيرة لسنّ القوانين من أجل الرّدع، وليس من أجل النظام، وخصوصًا، إذا كان من شأنها السيطرة على ما ينشط ضدّ معاييرها. ومن هذا المنطلق، أسست تلك الدائرة جسمًا أطلقت عليه اسم "عصابة الرداء الأزرق"، وقد نسبت إليه صلاحيّتا المراقبة والعقاب، واللتان تتضمنان بداخلهما بالضرورة نشاطًا قمعيًا.
بسبب قرب الكواكب من بعضها، هناك بعض المصطلحات المشتركة والمتعارف عليها، وأحد هذه المصطلحات هو "الجريمة"، وفي عودتنا إلى الدائرة الصغرى، رأينا أن عدد "أصحاب الأعضاء المستديرة" آخذٌ بالنقصان، وبعد البحث وراء السبب، أودت بنا كل الطرق إلى ذات المصطلح المشترك: الجريمة.
في الدائرة الصغرى، يعتقد "أصحاب الأعضاء الطويلة" أنهم أوصياء على كيانهم وكيان الآخرين؛ أوصياء على التطوّر، وأوصياء على التصرفات، وأوصياء على التعبير واتخاذ القرارات، وأوصياء على الجسد. والقائمة تطول. لا أدري لما لا يكرّس هؤلاء طاقاتهم في مقاومتهم للظلم الواقع عليهم من قبل الدائرة الكبرى، ولماذا يتركون وصاية المقاومة لمخلوقات فضائية أخرى، لا أدري ما معنى الشعور بالقوة، وليس لديّ أدنى فكرة لما يسعى كلّ منهم إلى امتلاكه للسيطرة. ما هو الشيء الذي يُكتَسب عند التمتّع بالسلطة؟
تسعى أي مؤسسة كبيرة لسنّ القوانين من أجل الرّدع، وليس من أجل النظام
يقوم هؤلاء "الأوصياء"، في كل سنة ضوئية، بجرائم عدة بحق "أصحاب الأعضاء المستديرة"، منهم من يقتل أمه، ومنهم من يقتل أخته، ومنهم من يقتل زوجته أو خطيبته أو حتى من يحب. منهم من يتخذ من إطلاق النيران وسيلة له، ومنهم من يطعن، ومنهم من يذبح ومنهم من يفجّر أيضًا.
فقط في هذا الكوكب يقتل هؤلاء "الأوصياء" من يحبّون. كما أوجدوا سببًا يلجؤون إليه بعد كل جريمة، أطلقوا عليه اسم "الشرف". يقتلون ويقتلون ولا حراك. فبالنسبة لهم، من لا يقتصر وجوده من "أصحاب الأعضاء المستديرة" على الشكل الذي يرونه مناسبًا، لا يستحق الحياة. فهم أيضًا أوصياء على الحياة.
ولأن الدائرة الكبرى من شأنها أن يفتك الإجرام بالدائرة الصغرى إلى أبعد الحدود، فهي لا تدعو "عصابة الرداء الأزرق" إلى القيام بعمل المراقبة والعقاب المنسوب إليها، بل إلى المساهمة في تفشّي الفوضى أكثر فأكثر.
في التطبيق، يمكنك الدخول لاستقاء بعض المعلومات عن الكوكب، وفيما يخص قسم الجرائم في الدائرة الصغرى، وجدنا أن معدل عدد "أصحاب الأعضاء المستديرة" الذين يُقتلون في كل سنة ضوئية هو 15، وفي إحدى السنوات فاق عدد الضحايا هذا الرقم ليصل إلى 30، ولكن المعلومات لا تأتي على شكل أسماء الضحايا، بل على شكل جثثٍ تكاد تنفجر تحت التراب لما قاسته قبل رقودها تحته. أمّا المجرمون، فجميعهم من "أصحاب الأعضاء الطويلة". وفي خانة سبب القتل كُتب: "كانت من صاحبات الأعضاء المستديرة".
أما في خانة العوامل المساعدة كُتب: "مساهمة –عصابة الرداء الأزرق- في عدم توفير الأمن والأمان واجتثاث الإجرام، وتبين من إحصائيات ومعطيات أخرى، أن نسبة فك لغز الجرائم لا تتعدى 11% خلال 20 سنة ضوئية مضت.
تركتُ التطبيق مفتوحًا على هذا الكوكب الأخضر، الذي فيه من المساحات الجغرافية والنفسية ما يكفي للجميع، تتعالى منه أصوات صرخاتٍ تدوي في كل مكان، وصورة مجرمٍ لا يزال حرًّا طليقًا دون عقاب، يجعل من الكوكب الأخضر، كوكبًا أخطر.
إضافة تعليق جديد