الحقيقة أكثر تعقيداً من أن تكون هذه الاغتيالات هي مجرد عمليات تصفية لأسباب دينية أو لخروج القتيل/القتيلة عن العُرف المجتمعي.
قد يبدو للوهلة الأولى أن الاغتيالات الأخيرة في العراق هي حربٌ ذات طابع ديني تُشنُّ على النساء ومجتمع الميم. ففي غضون شهرين فقط توفيت دكتورة التجميل رفيف الياسري، ومن بعدها خبيرة التجميل رشا الحسن في ظروف غامضة في بغداد، تَلتهم الناشطة الحقوقية سعاد العلي في البصرة، والتي اغتيلَت بطلق ناري في الرأس أمام كاميرات المراقبة. لم ينتهِ مسلسل الاغتيالات التي قُيّدت جميعها ضد مجهول إلى هذا الحد، فجاء دور عارضة الأزياء العراقية ووصيفة ملكة جمال العراق السابقة تارة فارس، لتُقتل في وضح النهار بعدة إطلاقات نارية مباشرة نحو الرأس والصدر. بعدها بأيام قليلة وبينما العراقيون مشغولون بالحديث عن أسباب وظروف مقتل تارة فارس، يأتي خبر مقتل الفتى ذو الخمسة عشر ربيعًا، حمودي المطيري، بحجة الاشتباه بميوله الجنسية المثلية، حيث قام قاتله - الذي ما زال مجهولاً - بتصويره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في فيديو أوقعَ صدمة كبيرة في الشارع العراقي الذي كان قد بدأ يتنفس الصعداء لتناقص عمليات القتل العشوائية والترويع والمفخخات، وعودة الاستقرار النسبي للبلاد.
غير أن الحقيقة أكثر تعقيدًا من أن تكون هذه الاغتيالات هي مجرد عمليات تصفية لأسباب دينية أو لخروج القتيل أو القتيلة عن العُرف المجتمعي. فلو نظرنا إلى ظروف ومميزات الشخصيات المُغتالة سنجد عاملاً مشتركاً بينها وهو كثرة المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، وتأثير تلك الشخصيات في الرأي العام بين مؤيد ومنتقِد. فعلى مَر السنين وصولاً إلى 2018 قامت المليشيات بتصفية حساباتها على طريقة "إجاك الواوي (ابن آوى).. إجاك الذيب (الذئب)" كما يردد العراقيون، بحيث حرصت على أن يبقى الفرد العراقي في وضعيّة هشّة، خائفًا من أن يكون هو التالي في قائمة التصفيات، مستخدمة أجساد النساء ومجتمع الميم كوسيلة ترهيب، لأن تلك الأجساد هي الأقل حصانة والأسهل استهدافاً وعادةً ما يثير "التخلص" منها ضجة ومناقشات بين مؤيد ومعارِض، فتكون الحجة الحفاظ على الدين و"عفة" المجتمع. لكننا لو راقبنا حملات التصفيات تلك منذ عام 2011، سنلاحظ أنها عادة ما تكون متزامنة مع حدث أو مأزق سياسي معين، تقع فيه الحكومة مع الشارع العراقي. ولفهم ذلك علينا أولاً أن ننظر إلى طريقة تعامل مراكز القوى، السياسية تحديداً، مع الشارع والرأي العام العراقي.
الانفصال
منذ الأحداث الطائفية 2006-2008 بدأ الشارع العراقي ينفصل شيئًا فشيئًا عمن يَدَّعون تمثيله من الأحزاب الحاكمة، المتحصنين بأمان في المنطقة الخضراء، بينما تعبث ميليشياتهم المسلحة بأمن العراقيين خارج حدودها. بدأ هذا الانفصال واضحًا جدًا مع بدايات حركات التحرر في أكثر من دولة عربية. ففي فبراير/شباط 2011 خرجت تظاهرات ضد الفساد وسوء الخدمات وتردي الوضع الأمني وسيطرة الأحزاب الدينية، وانطلقت من ساحة التحرير في بغداد بدعوة من تيار مدني جديد، معظم المنتمين له هم من شبان وشابات نشأوا تحت ثقل الاحتلال الأمريكي والأحداث الطائفية التي تلته. أدت هذه المظاهرات إلى حملات اعتقال للناشطين كان أبرزهم الصحفي هادي المهدي، الذي اغتيل في شقته في سبتمبر/أيلول 2011 بعد إطلاق سراحه بعدة أشهر. لم تتوقف حملات التخويف والتهديد والملاحقة لنشطاء التيار المدني، بينما اختَطَفت التيارات الدينية المظاهرات وحولتها إلى صراعات بين الأحزاب الحاكمة المختلفة، مرتديةً زيّ الاحتجاجات الشعبية. وبالرغم من انسحاب التيار المدني من الساحات، إلا أن إعلان وجوده للمجتمع خلق مجالاً جديدًا وممكنًا هذه المرة على صفحات التواصل الاجتماعي، استغله النشطاء المدنيين نساءً ورجالاً للتعبير عن انفصالهم الواضح عن الأحزاب الدينية المتشددة، وعن كل ما تمثله من معتقدات لا علاقة لها بالمدنية. وبطبيعة الحال لم يقتصر المجال الإلكتروني على النشطاء المهتمين بالسياسة فقط بل أصبحت صفحات التواصل الاجتماعي هي المنفذ، الوحيد ربما، للأجيال الفتية والشابة ومن ضمنها النسوية ومجتمعات الميم، لتبادل الأفكار وخلق مجالات واقعية للتعرف على من يشبههم ويتفق مع آرائهن، في وقت كان المسدس كاتم الصوت في أيدي عناصر المليشيات ما زال يحكم الشارع.
لعبة الخوف
مع تصاعد الاحتجاجات في الشارع العراقي وازدياد السخط على المتنفذين في الحكومة، خصوصًا بعد مقتل الناشط الصحفي هادي المهدي، عادت التظاهرات الشعبية والمدنية إلى ساحة التحرير في بغداد في فبراير/ شباط 2012 لتحيِ الذكرى الأولى لانطلاق الاحتجاجات. وسرعان ما امتدت إلى باقي محافظات العراق ضد إهمال الحكومة وفسادها وسرقتها للمال العام. وما هي إلا أيام حتى تناقلت وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي أخبار حملات قتل وتنكيل بشباب
كان القتل الجماعي وبطرق درامية مبتكرة وبشعة يحدث بين فترة وأخرى لإشاعة الرعب وتذكير الناس بمن يملك السلاح والقوة
وظلت الاغتيالات بكواتم الصوت تطال المعارضين وتُرعِب الشارع. لكن ما عدا القتل الفردي، كان القتل الجماعي وبطرق درامية مبتكرة وبشعة يحدث بين فترة وأخرى لإشاعة الرعب وتذكير الناس بمن يملك السلاح والقوة، وفي ذات الوقت ليسّهل عمليات تصفية المعارضين دون ضجة تذكر. وعادةً ما يطال العنف الجماعي النساء بحجة ممارستهن للبغاء، فيعثر على مجموعة جثث في شقة هنا وبيت هناك مع رسالة من مجهول بأن "هذا جزاء العاملات في الدعارة"، كما حدث في منطقة زيونة في بغداد في 2013 و2014، وتزامنت الحادثتان مرة أخرى، مع تزايد موجات الاحتجاج الشعبية على سوء أداء الحكومة وتردي الأوضاع الأمنية، بعد أن شبعت بغداد وعدة محافظات عراقية من المفخخات والتفجيرات المتكررة.
الصراعات السياسية
مع سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش الإرهابي في صيف 2014، بدأ الانقسام والصراع بين الفصائل السياسية واضحًا مع تسارع الأحداث. ولم يعد أسلوب الترهيب بالاغتيالات نافعًا، فما يقوم به تنظيم داعش بدءًا من مذبحة معسكر سبايكر والتي راح ضحيتها أكثر من 1700 من طلاب الكلية العسكرية قتلاً بأكثر الطرق دموية، حتى طرد المسيحيين من مدينة الموصل والاستيلاء على ممتلكاتهم وصولاً إلى قتل المثليين برميهم من البنايات العالية في المدينة وأخيرًا التنكيل والقتل وسبي النساء وبيعهن - الذي مارسه التنظيم الإرهابي ضد الأزيدين والأزيديات في الموصل. كان هذا كله كافيًا لترهيب الجميع بمن فيهم السياسيين الذين بدأت صراعاتهم تكشف أوراق الفساد والخيانات التي وضعت الموصل بين يدي داعش، ووصول التنظيم إلى مشارف العاصمة. عاد العراق إلى حالة الحرب، التي لم تنته فعليًا منذ عشرات السنين بل مرت فقط بفترات سُبات. وأصبح التركيز على التحشيد الشعبي وتكوين فصائل جديدة مسلحة وإدماج القديم منها لمساعدة الجيش العراقي لطرد داعش من الأراضي العراقية. حاولت الأطراف السياسية، كلٌ حسب طائفته، أن تزجّ الشعب في اقتتال طائفي، إلا أن حرب الموصل أثبتت مرة أخرى أن العراقيين لا رغبة لديهم في المضي بلعبة الطائفية الدينية، بل أدى ذلك إلى ازدياد التوجه المدني والعلماني، خصوصًا بين أوساط الشباب.
بدأت منظمات المجتمع المدني محاولة سد الفراغ الذي خلفه ضعف الحكومة وفسادها الرهيب. فكانت تلك المنظمات، والتي كانت معظمها تعمل بكوادر نسائية محلية، تحاول التخفيف من معاناة النازحين، والقيام بأعمال خيرية سواء داخل المدن أو في المخيمات. وبدا كأن الشعب يعتني بأفراده، فتأسست الكثير من الجمعيات التي بدأت بأعمال خيرية فردية معظمها قائمة على النساء، ربما كان السبب أيضًا أن أغلب الضحايا كن من النساء. فكان مثلاً أن تبرعت دكتورة التجميل رفيف الياسري بمعالجة ضحايا الحروق من الحرب والانفجارات مجانًا، مما صنع لها شعبية واسعة، وجعل استهدافها لاحقًا خبرًا ذو وقع كبير على الشارع العراقي. كما وبرزت العديد من الشخصيات النسائية على صفحات التواصل الاجتماعي؛ إعلاميات، وكاتبات، وفنانات، وشابات يعملن في مجالات مختلفة ويشاركن هموم جيلهن وجنسهن مع متابعيهن. نظم بعضهن نشاطات فنية ومعارض وحملات توعية بحقوق الإنسان والمرأة. كما كُنَّ في الصف الأول لمعارضة ومنع تمرير "قانون الأحوال الشخصية الجعفري"1 عام 2014، والذي أُعيد طرحه على البرلمان العراقي مرة أخرى في عام 2017 كمقترح لتعديل قانون الأحوال الشخصية العراقية. وكان سيؤدي إلى أن يصبح زواج الفتيات القاصرات قانونيًا ووفقًا لفقه المذاهب الإسلامية المختلفة.
أحداث البصرة وتداعياتها
ما إن اشتدت حرارة الصيف فوصلت إلى 50 درجة مئوية في مدينة البصرة الواقعة على شط العرب، ومع انقطاع التيار الكهربائي المستمر وازدياد ملوحة المياه، وتردي خدمات تحلية المياه في المدينة، حتى خرجت تظاهرات احتجاجية عفوية سرعان ما انضمت إليها منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية في البصرة. لم تقتصر مطالب المحتجين على تحسين الخدمات فقط، وإنما امتدت إلى محاربة الفساد الحكومي الذي أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة وسوء الوضع الأمني وسيطرة الميليشيات المسلحة على الشارع ودوائر الدولة في هذه المدينة الغنية بالنفط. ومع تصاعد حدة الاحتجاجات وتحوّل بعضها إلى اعتصامات أمام مركز المحافظة والدوائر الحكومية، تصاعدت أيضًا شدة القمع والاعتقالات التي مارستها القوات الأمنية ضد المتظاهرين. بينما بدأت المليشيات المسلحة أيضًا بسلسلة من عمليات الخطف والاغتيال بين صفوف الناشطين والحقوقيات المشاركين والمساندات للمظاهرات. فكان من أوائل ضحاياها المحامي جبار كرم البهادلي، أو "محامي المتظاهرين" كما اصطلح على تسميته في البصرة، ولم يكن آخرها الناشطة الحقوقية البصرية سعاد العلي، والتي كانت أيضًا تترأس منظمة "الوِد العالمي" لحقوق الإنسان.
كانت الحجة الرسمية لتبرير الاغتيالات تأتي حسب جنس الضحية
العلي كانت إحدى المنظمات لمسيرة نسائية في البصرة انضمت للمظاهرات وتناقلتها وسائل الإعلام، مع محاولات تشهير ضد النساء المنظمات للمسيرة واتهامهن بالتعاون مع القنصلية الأمريكية في البصرة. كانت الحجة الرسمية لتبرير الاغتيالات تأتي حسب جنس الضحية، فإن كان رجلاً يكون الرد الرسمي بأنه قُتل بسبب مشاكل عشائرية وإن كانت امرأة كان المتهم هو الزوج، الطليق أو أحد افراد العائلة قبل أن تُسجّل ضد مجهول بحجّة أنّ "سلوكها" كان السبب في اغتيالها، محملة الضحية ذنب قتلها. وذلك ما حدث، خصوصًا بعد حادثة اغتيال عارضة الأزياء تارة فارس، والتي جاءت بعد أيام قليلة من مقتل الناشطة سعاد العلي. فلم يكن اختيار تارة فارس بالصدفة، حيث كانت صفحات التواصل الاجتماعي قد بدأت تربط أحداث الاعتقالات والاختطافات والاغتيالات ببعضها، خصوصًا بعد ازدياد أعداد المختفين من النشطاء واستمرار ظهور جثث لآخرين منهم، وتوجهت أصابع الاتهام للمليشيات المسلحة المرتبطة بالحكومة، فوجدت مراكز القوى نفسها في مأزق حقيقي أمام سخط الشارع ووعيه بكل ما يحدث من تلاعب وفساد في الحكومة وتحت قبة البرلمان، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، والصراع على المناصب بعد انتهاء المدة المحددة لحيدر العبادي في منصب رئيس الوزراء.
تارة فارس كانت الضحية المثالية لتكملة سلسلة الاغتيالات ضد مجهول. فهي إلى جانب كونها شخصية "مثيرة للجدل" لتحرر مظهرها، هي أيضًا لديها أكثر من مليوني متابع على حسابها في الإنستجرام، إضافة إلى حضورها المتكرر في وسائل الإعلام. لذلك أثار مقتلها وتضارب الأقوال والإشاعات حوله، ضجة كبيرة نجحت في تشكيل غطاء لاغتيالات ناشطين وناشطات سياسيات ربما لا يملكون شهرة فارس. وقد كان قتلها أيضًا تهديدًا واضحًا للشباب المدنيين المعروفين على صفحات التواصل الاجتماعي، الذين كانوا قد بدأوا بتأييد المظاهرات. إلا إن هؤلاء الشباب والشابات انشغلوا بعد مقتلها بتكهنات مَن منهم ومنهن ستكون الضحية القادمة. فجاء الرد بإلقاء القبض على "دي جي عيوش"، وهي شخصية نسائية ذات شعبية كبيرة بين أوساط الشباب، حيث سُجنَت لمدة أسبوعين بتهمة تورطها بمقتل تارة فارس. وما إن أُطلق سراح "دي جي عيوش" بعد إثبات براءتها، حتى جاءت جريمة قتل الفتى حمودي المطيري، والذي أراد القتلة الإمعان في التهديد، بإثبات الفيديو المصور له وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وصوت قاتله يستهزئ به كأنه يستهزئ بجميع من يعارضهم.
ويظلّ السؤال المطروح: هل سينجح الإجرام مرة أخرى ويعلو صوت السلاح على أي صوت آخر كما حدث في الأحداث الطائفية 2006-2008، أم أن المدنيين وبالذات النساء منهم، قد أدركن أن عليهن إثبات وجودهم وأنهم لم يعد لديهم الكثير ليخسروه؟ وهل كانت التظاهرات الأخيرة ضد العنف الأسري وجرائم الشرف في تشرين الأول/ نوفمبر 2018 هي جزء من هذا التحدي؟
- 1القانون الجعفري هو قانون اقترحه عام 2014 وزير العدل العراقي آنذاك حسن الشمري. ويستند القانون إلى فقه المذهب الجعفري، حيث يسمح للمنتمين لهذا المذهب بحل مسائل الأسرة والأحوال الشخصية استنادًا اليه. وقد أثار هذا القانون معارضة كبيرة ومخاوفًا في الشارع العراقي بشكل عام، خاصّة في صفوف المنتمين إلى التيار المدني. ومن بين هذه المخاوف أن القانون يعزز التفرقة بين المذاهب في العراق، وأنّ فيه الكثير من الإجحاف بحق المرأة. فعلى سبيل المثال، وبالإضافة إلى أنه يبيح زواج القاصرات ابتداءً من سن التاسعة في حال وافق موكلها، فهو أيضًا لا يسمح للزوجة أن ترث زوجها المتوفى إلا بممتلكاته المنقولة، أي غير العقارية. أما فيما يتعلق بالطلاق فإنه يحصر حق قرار الطلاق كليًا بيد الزوج، مما يسلب حق المرأة طلب الطلاق لأي سبب كان. جدير بالذكر أن ضغط الشارع منع تمرير هذا القانون رسميًا، سواء بنسخته الأولى عام 2014 أو النسخة المشابهة والتي طُرحت عام 2017 تحت اسم "تعديل قانون الأحوال الشخصية".
إضافة تعليق جديد