عندما نبحث عن "دول الجنوب العالمي" على الإنترنت، ماذا نجد؟ ربما نصادف قصصًا عن نقص الغذاء وإهمال الحكومات لشعوبها وانتشار التمييز والفقر والأزمات المناخية والحروب، لكن نادرًا ما نرى قصصًا عن الدروس التي تُعلّمنا إياها بلاد الجنوب دون سواها. قلّة قليلة تنقل ما نحمله من الجنوب أينما ذهبنا. يفتح الجنوب أعيننا على هيمنة المعرفة الغربية المكتوبة، فيما يُعلّمنا بدائلها عن طريق التوثيق الشفهي والجسدي بدلًا من الكتابة حصرًا. من ثم يصبح السؤال: ماذا نستقي من التقاليد الشفهية والأحلام والممارسات غير المكتوبة؟ العلاجات الطبيعية والروايات والتواصل الدافئ والصمود؛ مفاهيم غريبة عن المنطق الغربي الذي لا يزال يتحكّم بمسارات التوثيق والتأريخ، والتي أسعى إلى إبرازها في الصور التالية.
بدأت القصّة من مصر، حيث وُلدتُ وقضيتُ معظم حياتي. كان أبي يطعمني ملعقةَ من العسل يوميًّا على معدة فارغة على امتداد طفولتي. لم أكن متحمّسة لتلك العادة، لكنه كان دائمًا ما يخبرني بفائدتها لجهازي المناعي ويقول "عايزك قوية وواقفة على رجليكي"، ثم يناولني كوبًا من الماء أمام باب المنزل قبل التوجّه إلى المدرسة، وكان لدى أبي العديد من الوصفات العشبية السريعة التي تساعد في حلّ مشكلات صحية مختلفة، أبرزها ملعقة من الشاي الأسود مع كوب من الماء للوقاية من الإسهال. ينتمي أبي إلى أرياف مصر، وهو من محافظة الشرقية حيث ينتشر الطب البديل المتوارث شفهيًّا بين الأجيال بمن فيهم أبي.
أركز في ما يلي على مصر كفضاء يعجّ بالمعرفة المتداولة عبر الممارسات اليومية، تحديدًا على أدوات مثل: العلاج والسرد كمعرفة شعبية، والطعام كوسيلة تواصل، والسوق الشعبيّة كنظام مستقل، وموسيقى الشارع ومفهوم "الواجب" كمسؤولية اجتماعية، وأهمية الاستدامة كقيمة تحفظها الكثير من نساء مصر، وأخيرًا النَفَس الاشتراكي المُنبعث من "السَّبَت"، أي سلّة الحبل المتأرجحة بين الشرفة والرصيف. كلّها وسائل تقاوم هيمنة أدوات إنتاج المعرفة الغربية، أشاركُها في 11 صورة.
مثلما يتغذى الجسد بالعلاجات البديلة، يتغذى القلب بالقصص المتبادلة أثناء احتساء القهوة. تأخذ أمّي وقتها في تحضيرها فتستخدم "السبرتاية"؛ وهي موقد كحولي صغير لصنع القهوة على لهب بطىء وثابت وتُعتبر أداة أصيلة من تقاليد الشعب المصري الشعبية حيث يجتمع أفراد العائلة لتبادل أطراف الحديث بانتظار أن تجهز القهوة. تخبرني والدتي قصصًا عن طفولتها وتشاركني العِبر التي تعلّمتْها من أمّها، ثمّ تغطّي نميمة الجيران وآخر الأخبار المتُداولة، وبعض المخاوف والأحلام.
خلال فترة دراستي، كان يبدو عليّ في بعض الأحيان تعبٌ شديدٌ، وحينها تأتي أمّي بورقة وتقصّها على هيئة عروسة ثم تحضر إبرة وتسألني عن الشخص الذي أعتقد أنه يحسدني، كطريقة لرُقيّتي وحفظي من العيون الحاسدة. كنتُ حين أعدّد لها أسماء أصدقائي في المدرسة، ثم أراها تثقب "العروسة الورقية" بالإبرة حتى انتهائي، وأخيرًا تذكر اسمها واسم أبي وإخوتي قائلةً "ممكن إخواتك أو أنا أو أبوكي نحسدك من غير قصد فحتى من عينينا يا قلبي"، ثم تحرق الورقة، وتعتبر أن المساحات التي لم تحترق تخص الأشخاص الحاسدين، ثم تقرأ آيات من القرآن على رأسي. اليوم عندما يغمرني التعب، أشتاق إلى يد أمّي و"رقيتها" لي بالعروسة الورقية مع همهمة آيات قرآنية بصوتها الناعم.

يتحدّثون كثيرًا عن الفقر والجوع في العالم الجنوبي، لكن نادرًا ما يركزون على أهمية مشاركة الطعام لدى أبناء المجتمعات المهمّشة وفي الثقافة المصرية بشكل عام. كم مرّة زرت صديقًا أو قريبًا من مصر وغادرت ملؤك الامتنان لأن هذا الصديق أو القريب أخرج كلّ ما يملك من البراد ليتشاركه معك؟ يحتل الطعام مكانة عاطفية كبيرة جعلته وسيلةً للتواصل بعناصره المتنوعة، كونه طريقة للتعارف والحب، أو تحوله لطقس في الجنازات والأفراح والأعياد، وحتى في صورة ذلك الطبق الذي ظل على امتداد طفولتي، يتنقل ذهابًا وإيابًا بين أمي وجارتها حاملًا طعامًا وحلويات من دون أي حاجة لحمل الكلمات. بقيت أحمل هذا الطبق صعودًا ونزولًا حتى سألتُ أمي ذات يوم "لمن هذا الطبق في الأصل؟" فأجابت أنها لم تعد تتذكر، كحال جميع الأمهات.
في سياق يغيب فيه دعم الحكومة للناس، لا يحدّثنا أحد عن أهمية المجتمعات غير الرسمية التي تثبت أنها أكثر فاعلية من الهيئات الرسمية؛ ما تعرفه الأسواق دون سواها يتجلى في السيدة العجوز التي تجلس على الرصيف حيث تبيع أشهى جبنة وخضار طازَج وتتمنى لك يومًا سعيدًا، وفي صاحب المحل الصغير في منطقتك الذي يعرف اسمك ويحفظ قائمة مشترواتك أكثر منك ويلاحظ قصة شعري في العيد أعجبته أكثر من القديمة، وفي سوق الجمعة والأحد وأسواق المنتجات المستعملة التي تشجّع إعادة التدوير والاستخدام. قد يبدو أن محرّك هذه الأسواق هو الفقر، لكنها في جوهرها تعبر عن قوة المجتمعات غير الرسمية المنبثقة من النفوس واهتمام بعضها ببعض. في ظل اقتصاد منهار، تبقى دكاكين الشارع والأسواق شريان الحياة ويصمد المجتمع بما يمتلك من علاقات إنسانية، لا بما تفرضه الأنظمة.
تحمل الشوارع الحياة كما تحملها موسيقانا وشعائرنا العامة، ولهذا في قلب القاهرة الخفي حيث تميل العمارات على بعضها كأكتاف مرهقة، انفجرت المهرجانات دون استئذان. لم تأتِ مرتديةً عقودًا ولا حظت بمباركات القطاع الموسيقي بل شقت طريقها من شقوق الأرصفة، فمهندسو هذا الصوت هم الأقرب إلى الأرض؛ شبّان بلا وظائف ثابتة ولا استوديوهات، فقط غرف مبطّنة لتخفيف الصدى وسمّاعات مستعملة مشدودة بأشرطة. ومع ذلك كانت الرغبة في الكلام أثقل من كل نقص في الموارد، إذ كانت كل أغنية يؤدّونها تحمل حرارة المدينة من: رائحة الديزل في الهواء، نميمة السوق، جدال السلم، صدى شجار على بُعد شارعين، ورائحة الفلافل المقلية وهي تتسلل عبر نافذة مكسورة. هذه الألحان منسوجة من لحظات معاشة ونوع من الفكاهة الذي يزهر في قلب الندرة.

فِرْقَة "مَزاهر" في القاهرة مثال حيّ على امتداد طقس "الزار" كما عرفته مصر ومناطق مختلفة من إفريقيا والشرق الأوسط، والذي هو ممارسة جماعية عادةً ما تقودها مجموعة من النساء وتحمل بين أنغامها وإيقاعاتها ذاكرة الشعوب وطرقها الخاصة في مواجهة الحزن والألم وحتى الاضطراب النفسي. نقلت "مزاهر" إرث الزار الشعبي بما يحمله من طاقة جماعية وقدرة على الشفاء الرمزي إلى مسرح موسيقي معاصر يواكب إيقاع المدينة اليوم، كما أنه صار أكثر من مجرد عرض إذ بقي جسرًا يربطنا بتاريخ غير مُدوَّن وصوتًا يذكّرنا بأن قصتنا لا يمكن حصرها في إطار الرؤية الغربية وحدها؛ فالصورة الحقيقية بما تحمله من جمال وتعقيد، أكبر من أن تُختزل بمنظور خارجي، بل هي ممتدة في تفاصيل حياتنا اليومية، وفي الأصوات التي نحملها، والإيقاعات التي تجمعنا.
سعى الاستعمار إلى التقليل من شأن ثقافاتنا المحلية وإقصاء ممارساتنا الأصيلة، رغم محاولاته تقديم نفسه بصفته صاحب حضارة وحامل للمهمّات التثقيفية مثل: "الاستدامة" و"إعادة التدوير" و"الشراء من الأسواق المستعملة"، ولكنها في الحقيقة جزء من حياتنا اليومية منذ أجيال، فقد كبرنا ونحن نشاهد أمهاتنا وجداتنا يٌعدن الحياة للأشياء نفسها مرارًا وتكرارًا، دون الحاجة إلى تسميات معقّدة أو شعارات بيئية. أتذكّر عدد المرات الذي أصلحت فيه ثقبًا في قميصي أو قامت أمي بخياطته لأنه ببساطة "لسه فيه عمر"، كما تقول. هذه الفلسفة كانت متجسدة في تفاصيل حياتنا مثل: زجاجة عصير يُعاد ملؤها بالماء، علبة حلاوة طحينية تتحوّل إلى وعاء للجبن أو الحَساء، وعلبة بسكويت لم تعرف البسكويت يومًا.
في شوارع كثيرة في مصر، السَّبت، أي سلّة الحبل المتأرجحة بين الشرفة والرصيف، ليس مجرد وسيلة لإنزال النقود أو رفع أكياس الخضار، بل هي نبضة في جسد العمارة، وخيط ليّن يربط الشرفات بالأرصفة. من خلالها تسمع نداء جار، وتتلقى الطماطم من المرأة التي تبيع الخضار في البقعة نفسها منذ ثلاثين عامًا، وتتبادل ابتسامة وربما مزحة سريعة عن الطقس مع عابر/ة سبيل. تتحرك السلّة ومعها الهواء بين الناس. إنها اشتراكية بلا خُطَب، رقصة يومية لمساحة وأدوات وثقة مشتركة. لا تطبيقات، ولا أرقام تتبّع، ولا إشعارات "تم تأكيد الطلب". فقط أيادٍ تعرف أين تسلّم الثقل وأصوات تلتقي في منتصف المسافة بين الأرض والسماء. حين جاءت تطبيقات التوصيل، لم تجلب معها فقط أكياس بلاستيكية على دراجات نارية، ولكنها أحضرت إيقاعًا مختلفًا، سريعًا، محكم الإغلاق. تصل الخضروات إلى بابك بلا كلمة، بلا نَظْرَة في عين أحد. تنتهي المعاملة نظيفة ولكنها فارغة. السَّبَت الذي صقلته الأيدي من كثرة الاستعمال، بات ينتظر بصمت.
هذه التبادلات رغم صغرها، إلا أنها الخيوط غير المرئية التي تربط المجتمعات بعضها ببعض. الإبقاء على السَّبَت في الخدمة، وإعادة إستخدام تلك العلبة هما بمثابة إعلان أن: طريقتنا ليست بدائية، وليست في انتظار التصحيح على يد أنظمة مستوردة. إنها حلول بحد ذاتها، وهي أقدم، وأرق، وأكثر تجذّرًا من الرؤى اللامعة لأساليب العيش المفترضة.
ما وددتُ قوله من خلال هذه الصور هو أن المعرفة والثقافة لا تنسابان ممّا يُسمّى بـ"مراكز" العالم، بل هي متجذّرة في التربة تحت أقدامنا، وفي الأيادي التي تُصلح، والأصوات التي تتذكّر. هنا لا يُقاس التقدّم بسرعة ما نتخلّى عنه بل بعمق ما نحافظ عليه. في مواجهة تيّار تفوّق الغرب نتمسّك بما هو لنا: السَّبَت الذي ما زال يحمل رائحة الخبز، والقماش المُرقّع للمرّة الثالثة، والجار الذي يأاتي دون أن يُطلَب منه. هذا ليس حنينًا بل مقاومة. إنّها الحقيقة الصامتة والعنيدة بأن طرقنا في المعرفة والعيش ليست بقايا زمن مضى، بل هي مستقبل يتحرّك بالفعل. في الغرب النظام يعمل وحده، لذلك لا يتوقع من الناس أن يتواجدوا بعضهم لبعض.
في مصر، نحافظ على بقاء مساحات واسعة من الذاكرة والثقافة القائمتين على ما هو غير مكتوب، أي على ما يُختبر ويُمارَس ويُشعر لا على ما يُسجَّل. وهذا ما يجعل تلك الممارسات جزءًا من هويّة المجتمع المصري وذاكرته الحية، حتى إن تغيّرت أشكالها.
إضافة تعليق جديد