يمنيّاتٌ تحت عنف الشكّ: حين يتحوّل عجزُ الرجل الجنسي إلى طعنٍ في "عفّة" الزوجة

لم تتوقّع مروة1، الشابة اليمنية التي لم تتجاوز ربيعَها العشرين، أن زفافَها الذي خطّطت له طوال حياتها سينتهي بتهمةٍ كيديةٍ وجّهتها ضدها عائلةُ زوجها للتستّر على معاناة ابنهم مع العجز الجنسي. 

قصّة مروة ليست إلا واحدة من قصصٍ كثيرةٍ داخل المجتمع اليمني، تحوّل فيها العجز الجنسي الذي يختبره بعضُ الرجال إلى كارثةٍ يمكن أن تؤدّي إلى تدمير حياة الزوجة وسمعتها التي تكتسب أهميّة خاصّة في اليمن، في ظلّ صمتٍ مجتمعيٍّ ناتجٍ عن تفضيل الأكثريّة للتستّرَ على الحقيقة من خلال توجيه أصابع الاتّهام نحو المرأة، التي غالبًا ما تضطرّ إلى التزام الصمت.

تروي مروة قصّتها بمرارة وحسرة: "منذ ليلة الدخلة2، وعلى مدى أسبوعٍ كاملٍ، كان زوجي السابق كلّما يحاول ممارسة علاقة حميمة معي يفشل. لم أقل شيئًا في البداية، وفسّرتُ الأمر على أنه توتّر طبيعي، خاصة وأن زواجي كان تقليديًا ولم نكن نعرف بعضنا من قبل". 

تستعيد مروة تفاصيل تلك الأيام العصيبة التي قلبتْ حياتَها رأسًا على عقب: "على غير عادة، ذهبتُ حينَها إلى والدة زوجي وأخبرتُها أنّ جميع المتزوّجات حديثًا تُقام لهن حفلة صغيرة أو زيارة إلى منزل عائلتهن مع أخذ الحلويات، فلماذا لم تفعلوا ذلك معي؟ لتجيبَني والدةُ زوجي ببرودةٍ، ’يقيمون الحفلات لبنات الناس مش للي إجت مفتوحة‘". والمقصود بـ"بنات الناس" العذراوات اللواتي يُنظر إليهنّ كنساء عفيفات.

بعد تلقّي هذا الردّ القاسي، سارعت مروة إلى الاتصال بأخيها الذي توجّه فورًا إليها واصطحبها مع زوجها إلى طبيبةٍ من مكتب الطب الشرعي في صنعاء، مُخوَّلة بالكشف على جسمها وإثبات عذريّتها. وهذا تمامًا ما فعلته، إذ أثبتتْ الطبيبة أن مروة لم تزل عذراء. فما كان بها إلا أن رفعت دعوى قضائية على زوجها الذي اتّهمها زورًا بأنها بلا "شرف".

رغمَ إظهارها الحقيقة طبّيًا وقانونيًا، لم يشفع إثباتُ العدالة لمروة، وسط مجتمعٍ لا ينسى الشائعات، ذلك أن الإشاعات الكاذبة ظلّت -على حدّ قولها- تُتناقل وكأنّها حقيقةٌ مُسلّمٌ بها، وقد ألحقت بها وبأسرتها ضررًا لا يُمكن إصلاحه.

قصّةُ مروة واحدةٌ من بين قصص يمنيّات كثيرات مع أزواجٍ يعانون من العجز الجنسي، ويتحمّلنَ هنّ التداعيات. فرح، شابةٌ من صنعاء في العشرينات من عمرها، هي الأخرى واجهتْ مصيرًا مشابهًا لمصير مروة. تُخبر فرح أنه حين فشل زوجها في ممارسة العلاقة الجنسية معها للمرة الأولى، ذهبَ هو بها إلى أسرتها وقال لهم بكل وقاحة: "بنتكم مش بنت"، والمقصود أنها لم تكن عذراء. حينها، تعرّضت فرح للضرب المبرح والإهانة الشديدة على يد أهلها. وما أنقذها كان إصرار عمّها وإقناعه لوالدها الذي كاد أن يقتلها بداعي غسل "العار"3 بفحْصِها. وهذا ما حصل، تم فحص فرح، و بيّنت النتيجة الطبية أيضاً أنها لم تزل عذراء. 

تقول فرح بحسرة تكاد تخنقها: "سكتَ عندما لم يستطع أن يفعل شيئًا... ولم أفضحه خوفًا من العار الذي قد يلحق بأسرتي. لكن بسببه، كنتُ سأُقتل ظلمًا على يد والدي. صحيحٌ أنه وأسرته أقرّوا بخطأهم، وأعربوا عن اعتذارهم بذبح ثلاثة ثيران (وهي فدية عرفية لردّ الاعتبار)، لكنّ ما أصابني من أذًى نفسي وجسدي لا يكفيه مجرّد اعتذار، ويصعب على أي امرأة في العالم تحمّله". 

ثمن الصمت الباهظ

تتجاوز آثار مسألة العجز الجنسي لدى الرجال النواحي الجسدية والجنسية المباشرة على النساء اللواتي يعانين من تداعياتها، إذ تُخلّف ندوبًا عميقة في النفْس يصعب محوها. في مقابل مروة وفرح، هناك نساء كثيرات صبرنَ وعانَيْن لسنواتٍ بصمت. لم تُرمَ عليهنّ التُّهمُ الجائرة، لكنهنّ بقيْن عالقات داخل زيجات كانت أشبه بالعلاقات الأخويّة منها إلى العلاقات الزوجية. هؤلاء النساء فضّلن السكوت والتعايش مع واقعهنّ المرير على أن يذهبنَ ويطالبنَ بحقهنّ في فسخ الزواج، خوفًا من أحكام المجتمع القاسية ومن النميمة، على الرغم من أن طلبهنّ فسخ الزواج في حالة عجز الزوج الجنسي هو حقّ يكفله لهنّ القانون في اليمن.    

تحكي جميلة، وهي امرأة تبلغ 39 عامًا من العمر من محافظة حجّة شمالي غرب اليمن، قصّةَ معاناتها التي امتدّت لسنوات طويلة سادَها التستّر والحرمان. تقول جميلة: "عشتُ سبعَ سنوات شعرتُ فيها أنني أعيش مع أخي لا مع زوجي. لم يكن يستطيع إقامة علاقة جنسية معي إطلاقًا، وذلك بسبب عدم قدرته على الانتصاب. لكنني لم أتجرّأ أبدًا على البوح لأحد، خاصة أنه لم يكن يسيء معاملتي. عشتُ معه سنواتٍ جعلتني أفضّل الصمت والتعايش مع الحرمان الجنسي والعاطفي، ومع قمعي لرغبتي الفطرية بالأمومة. إلا أن تقدّمي في العمر وحلمي بأن أصبح أمًّا الذي كان يراودني بقوّة، جعلاني أتّخذ قرار الخلع. أي لم يكن سبب الخلع أمرًا يمسّ برجولته بشكلٍ مباشر أو يفضحه بين الناس، تجنّبًا للمزيد من المشاكل والوصم الاجتماعي". 

في هذا الإطار، تُوْضِح الطبيبة النفسية الدكتورة صباح الدروبي، أن المرأة التي تُجبَر على العيش مع زوجٍ يعاني من العجز الجنسي، وسط صمتٍ مجتمعيٍّ يجرّم شكواها، تعيش حالةً من القهر النفسي العميق واليأس والقلق الشديد وأحيانًا اضطرابات في النوم والشهية. 

وتشرح الدروبي: "حين يُستخدَم جسد الزوجة كأداة اتّهام لتبرير عجز الطرف الآخر، تتحوّل حياتُها النفسية إلى سجنٍ داخليٍّ مظلمٍ، تعيش فيه وحيدةً مع آلامها، إذ إن هذا الألم الصامت، إن تُرِك من دون احتواء أو دعم نفسي متخصّص، يُهدّد استقرارها النفسي والاجتماعي على المدى الطويل، وقد يدفعها إلى حافّة الانهيار".

في مجتمعٍ محافظٍ كالمجتمع اليمني، تُعَدُّ "العذرية" وسمعة النساء والفتيات من الخطوط الحمراء والمقدّسات التي لا يمكن المساس بها. من هنا، إنّ أيَّ اتهامٍ يمسّ بما يُسمّى بـ"الشرف"، أو أيّ اتهامٍ آخر حتّى ولو كان افتراءً، بإمكانه تدمير حياة الشابة وعائلتها بأكملها، وقد يقضي على مستقبلها وحياتها الاجتماعية. لذا، تلجأ بعض العائلات المتضرّرة، في محاولةٍ يائسة لاستعادة ما لوّثته الشائعات، إلى حلولٍ قاسيةٍ ومُدانةٍ كاقتراف العنف الجسدي ضد المرأة المعنيّة، أو حتى قتلها بحجّة "غسل العار" نتيجة الضغوط المجتمعية الهائلة والموروثات الذكورية البالية. أمّا النساء اللواتي يواجهنَ الكذب ويذهبنَ إلى الطبيبات ويُثبتنَ عذريتهنّ، فلن يسلمن بالضرورة من أحكام المجتمع وتهم "العار" التي تظل تلاحقهنّ وتحوّل حياتهنّ إلى جحيمٍ وتقلّل من فرص ارتباطهنّ من جديد في المستقبل. 

الزواج في اليمن… حلفٌ بين أسرتَين

لا تتوقف تداعيات عجز الرجل الجنسي وطريقة حلّها الظالمة والمؤذية عند المرأة فقط، إذ إنها تطال الرجل أيضًا الذي غالبًا ما يجد نفسَه أسيرَ صورةٍ نمطيّة تُقاس فيها قيمتُه تبْعًا لمستوى أدائه الجنسي، ما يجعل أيَّ خللٍ صحي أو نفسي على هذا الصعيد يُفسَّر كفشلٍ في امتحان "الرجولة" ويُقابَل بنظرة ازدراء بدلًا من الاحتواء أو المعالجة. فلو لم يكن العجز الجنسي موصومًا بهذا الشكل، لربّما وجد الكثير من الرجال مساحةً للاعتراف بما يمرّون به وطلب الدعم، من دون الحاجة إلى توجيه "العار" المُلقَى عليهم نحو زوجاتهم أو الاتّفاق مع عائلاتهم على وجوب التضحية بسمعة الزوجات وسلامتهنّ أو حتى حياتهنّ، إخفاءً للنقص الذي يخجلون به بدلًا من مواجهته بصدق وشجاعة.

في هذا الإطار، يتبدّى كيف يُنظر إلى الزواج في اليمن كحدثٍ جلل تبني عليه عائلاتُ الطرفَين آمالًا وطموحاتٍ كبيرةً، فيتجاوز كونه عقدًا بين شخصَين ليصبحَ أقرب إلى حلفٍ بين أسرتَين. لذا، عندما تفشل العلاقة الزوجية لأسبابٍ تتعلّق بعجز الزوج الجنسي، يصبح ضغط التصرّف هائلاً على كلتا الأسرتَيْن. ولكن على أرض الواقع، غالبًا ما تتحمّل الزوجة العبء الأكبر من الضغوط، ذلك أنّها تُجبَر عمليًّا على الاختيار بين التضحية بسمعتها ومواجهة المجتمع القاسي، أو الصمت والعيش ضمن علاقة يُحكَم عليها فيها بالحرمان والألم.

من ناحية أخرى، ما يُفاقم المشكلة وآثارها على النساء المتألّمات، هو غيابُ آليّاتٍ واضحةٍ للدعم النفسي والاجتماعي لهنّ، الأمر الذي يدفعهنّ إلى العزلة التامّة أو الانصياع للضغوط والتوقّعات العائلية وأحيانًا إلى اللّجوء إلى حلولٍ جذريّةٍ كطلب الخلع، مع ما سيرافق خيارًا كهذا من وصمةٍ وعواقب اجتماعية وخيمة في السياق اليمني. من هنا، تبرز ضرورة إجراء مراجعةٍ شاملةٍ للمفاهيم الاجتماعية والثقافية السائدة والبالية التي تبرّر وتكرّس هذه المعاناة التي يمكن إيقافها.

حماية قانونية… على الورق؟

يمنح القانون اليمني، وفق ما تؤكّده المحامية هبة العيدروس المتخصّصة في قضايا الأسرة، الحقَّ الواضح والصريح للزوجة في طلب فسخ عقد الزواج إذا ثَبُتَ أن الزوجَ يعاني من مشكلاتٍ جنسيةٍ دائمة تمنعه من أداء واجباته الزوجية، بما في ذلك العنانة -أي العجز الجنسي الكامل- أو من الأمراض المعدية التي تُعيق الانخراط بالعلاقات الزوجية الحميمة، مثل الزهري أو الإيدز -أي فيروس نقص المناعة المكتسب- سواء أوُجدت تلك العوامل قبل عقد الزواج أو طرأتْ بعده ولم يتمكّن الزوج من معالجتها خلال فترة معيّنة يحدّدُها القضاء.

وتشرح العيدروس: "يُقبَل طلبُ الفسخ إذا توافرت شروطٌ معينةٌ، أهمّها وجود تقرير طبّي معتمَد وموثوق من جهة رسمية (طبيب/ة متخصّص/ة أو لجنة طبية قضائية)، يُثبت وجودَ العيب بشكلٍ قاطعٍ. أمّا إذا كانت المشكلة قابلة للعلاج، قد تُمهل المحكمة الزوج فترةً محدّدةً للعلاج تصل إلى سنة، ويُشترط أن تكون عاملًا مؤثرًا فعليًا، بمعنى أنّ وجوده يحول دون المعاشرة الطبيعية بين الزوجين، بما يخلّ بأحد الأركان الأساسية للزواج".

من هنا، يمكن اعتبار حقّ الفسخ بسبب العجز الجنسي وسيلةً قانونيةً مهمّة من شأنها أن تحمي الطرف المتضرّر، شرط أن يُمارَس ضمن طرق الإثبات القانونية المحدّدة وهي صارمة بلا شكّ. لكنّ المحامية العيدروس تشدّد على نقطة جوهرية: "على النساء المتضرّرات إدراك حقهنّ الأصيل في ذلك وعدم الركون إلى السكوت تحت وطأة الحرمان والخوف من المجتمع. فهنّ يطلبنَ حقًا إنسانيًا وفطريًا مشروعًا كفلتْهُ لهنّ الشريعة والقانون".

ولكن، كما هو شائع في الكثير من القضايا والمظالم التي تقع على النساء، غالبًا ما يكون الواقعَ أكثر قسوةً من النصوص القانونية المُدوَّنة. فعلى الرغم من وجود قوانين مساعدة، كالنصّ المتعلّق بحق المرأة بطلب فسخ الزواج لدى وجود حالة عجز جنسي، تُواجه النساء صعوباتٍ جمّة في الاستفادة من تلك النصوص وتطبيقها إذ يبقى الخوف من الوصمة الاجتماعية والأحكام السلبية والضغوط العائلية أقوى، علمًا أن تلك الأخيرة يمكن أن تصل في الكثير من الأحيان إلى التهديد والأذى المباشرَين. هذه العوامل، يُضاف إليها جهلٌ بالحقوق والنصوص القانونية المُساعِدة، تساهم في إبقاء الكثير من حالات المعاناة مع عجز الزوج الجنسي طيَّ الكتمان والسرّية. أضف/ي إلى ذلك إجراءات الإثبات القضائية المعقّدة والطويلة والمُكلِفة، والتي تتطلّب من المرأة شجاعةً نادرةً لمواجهة مجتمعٍ لا يرحمها ومحاكم قد لا تكون مجهّزةً للتعامل مع الأبعاد النفسية والاجتماعية الدقيقة لهذه المسألة وحاجات النساء المتضرّرات منها.

من الصمت إلى المساءلة

ما يظهر إلى العلن من قصصٍ لنساءٍ متضرّراتٍ من هذا الواقع ليس إلا غيض من فيض لآلامٍ كثيفةٍ تعتمل تحت سطحٍ من التحفّظات والمحاذير، تتحوّل فيها حاجات و رغباتُ نساءٍ كثيرات بالأمومة إلى حلمٍ بعيد المنال، والحياةُ الزوجيةُ إلى عبءٍ ثقيلٍ يتكبّده الجسد والروح. علاوةً على ذلك، يُشهَدُ كيف تنتقل هذه المسألة من كونها موضوعًا يمسّ طرفَي العلاقة ويُلحِق الضررَ بالكثير من النساء، إلى قضيّة تتعلّق بالهيكل القيَميّ نفسه الذي يحكم المجتمع والمتّسم عمومًا، وللأسف، بالتستّر على "عيوب" الرجال والأزواج عبر توجيه الاتهامات الكاذبة والملامة على النساء والزوجات وتعريضهنّ للخطر، الأمر الذي يثبت طغيان معايير أخلاقية ملتوية وغير عادلة واستمرار تقييد الموروثات الثقافية الظالمة للحقوق الإنسانية الأساسية.  

صحيح أن هناك إطار قانوني يكفل حق المرأة في فسخ الزواج في حال عجز الزوج الجنسي، إلا أن الواقع يُظهر كيف أن الضغوط الاجتماعية والخوف من "الفضيحة" غالبًا ما تُبطل فاعليّة هذه القوانين، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في تعريفات القيم الإنسانية التي تحكم حياة البشر، والنساء على وجه الخصوص، في اليمن، وفي الكفّ عن ربط مفهوم الشرف جورًا وحصرًا بالنساء. ولكن قبل كل شيء، ينبغي توفير بيئة آمنة لنساء اليمن للمطالبة بحقوقهنّ ومساءلة السلطات المنوطة بتعزيزها، وانتزاعها من دون تردّدٍ وخوف.

  • 1

    كل الأسماء الواردة هنا، مُستعارة بطلب من المصادر.

  • 2

    تسمية تشير إلى الليلة الأولى بعد حفل الزواج

  • 3

    وهو مفهوم بالٍ منتشر في الكثير من المجتمعات المحافظة

شيماء القرشي

محامية وصحافية من اليمن مهتمة بقضايا المرأة 

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.