في طفولتي ولمدة طويلة من حياتي، كنتُ أعيش في بيت العائلة الذي اضطررت فيه لارتداء الحجاب والملابس الطويلة. ورغم اتساع البيت إلا أنني لم أكن أمتلك مساحة "خاصة" بي أتحكّم بها. كانت فيرجينيا وولف تبحث عن غرفة تخصّها لتتمكّن من الكتابة، أما الغرف المفتوحة طوال الوقت فلا تمنحنا الكثير من الحرية.
كان البيت - مثل الكثير من البيوت العربية - يحتوي على غرفة مخصّصة للضيوف الرجال، بينما لم تكن لنساء البيت مساحة خاصة، ولا حتى غرفة مماثلة للضيفات طبعًا، لأن الضيفات لم يكنّ يزرن البيت أساسًا، بل يجلسن على عتبات البيت لتبادل الحديث. المساحة الوحيدة المخصّصة لهنّ كانت المطبخ الصغير مقارنة بمساحة البيت، وهو ما جعل أمي تردِّد دائمًا: "نفسي في بيت فيه بلكونة".
ذلك البيت الذي لم أشعر فيه يومًا بأي خصوصية أو حرية، سأكبر لاحقًا وأقف أمام المحكمة لأطالب بحصتي من ميراث أبي فيه؛ فبحسب العادات والتقاليد لا ترث الإناث العقارات كي لا تؤول إلى رجل من خارج العائلة. لم تسمح لنا بيوت الطفولة بالكثير من الحرية، وعندما كبرنا لم نستطع امتلاك بيت، لا بسبب الفقر فقط، بل بسبب نزاع الرجال على حصتنا من تلك البيوت.
بيوت للرجال
دفعني بيت العائلة إلى التفكّر: هل تعرف بيوتنا اختلافاتنا الجندرية؟ أم أنها مصمَّمة للرجال فقط؟ بدأت أبحث عمّا إذا كان هناك ما يُعرف بالتصميم المعماري النسوي. ترى ماريون روبرت في كتابها "العيش في عالم من صنع الرجال"، أن تصميم البيوت ظلّ لفترة طويلة قائمًا على تصوّرات الرجل لأدوار النساء الاجتماعية: مربية الأطفال، ومسؤولة عن التنظيف والرعاية، وطاهية.
ومن جانبها وضعت المعمارية ساليمبير كلوي في بحثها تصوّرًا لتعريف نسوي للسكن، وهي ترى أنه يتخذ خمسة أوجه في المجتمعات الأبوية وهي: عزل النساء، وعدم المساواة الجندرية، ومساحة لاستغلال النساء، وفرض القوة والعنف، وأول مكان نختبر فيه التمييز بين الفتيات والذكور، ووتكشيل الهويات الجندرية وعلاقات القوى بين الرجال والنساء.
ويختصر الموروث الشعبي هذه الرؤية من خلال مثل: "لما قالوا دا ولد، اتشدّ ضهري واتفرد. ولما قالوا دي بنية، اتهدّت الحيطة عليّا".
عكست التصميمات الداخلية للبيوت عبر التاريخ، علاقات القوى بين الرجال والنساء، وأدوارهم/ن في المجتمع، والصور النمطية المرتبطة بهم/ن وتسيّد الرجال وما ترتب عليه من شكل هرمي للأسرة. تجلّت في هذه التصميمات المساحات غير العادلة، والفصل داخل البيت بين الجنسين، إذ نُذرت النساء للمجال الخاص، بينما امتلك الرجال كل المساحات؛ فكان الحرملك هو المساحة التي تُعزل فيها النساء في البيت مع الأبناء، ولا يخرجن منها إلا إلى وجهات محددة طوال حياتهن، في حين كان السلاملك مجلس الرجال وحدهم.
في بدايات القرن العشرين وبعد الثورة الصناعية وبفعل التحولات الاجتماعية، أصبحت التصميمات الداخلية للمنازل أكثر ديمقراطية، وتقلّص الفصل بين الجنسين، وبدأت العناصر المعمارية المخصصة للنساء بالاندثار مثل المشربيات والحرملك، كما تقلّص حجم البيوت نتيجة النمو السكاني. وابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، ظهرت دراسات نسوية تنتقد التخطيطات العمرانية التي تأخذ في اعتبارها احتياجات الرجل فقط، وتصمّم البيوت بما يتلاءم مع الأسرة النمطية.
مساحة خاصة بها
كانت فرح (25 عامًا) تمتلك غرفة خاصة في بيت أهلها الذي وُلدت فيه في إحدى قرى دلتا مصر، رغم منعها من إغلاق باب غرفتها ضمن سلسلة من الممنوعات. كانت الدورة الشهرية بالنسبة لها فترة من الرعب، فلو علم إخوتها الذكور بالأمر، "هيقعدوا يتريقوا شهر قدّام" كما كانت تقول، وهو ما جعلها تفتقد في بيتها ثقافة احترام الخصوصية.
تمنّت ليلى (33 عامًا) أيضًا الخصوصية في بيت طفولتها ببيروت، حيث كان الأولاد جميعًا يتشاركون غرفة واحدة: ولدان، وليلى، والبنت الصغرى. لم تكن الأسرة قادرة على توفير غرفة خاصة لكل فرد كما لم تتسع الغرفة نفسها لوجود ثلاثة أسرّة، فكانت ليلى تنام في سرير يحتوي على دُرج (جارور) يُفتح ليصبح سريرًا آخر. في طفولتها كانت تعتقد أنها تنام في لعبة، لكن حين كبرت أدركت أنها ببساطة لم تمتلك يومًا أية مساحة خاصة بها.
استقلّت فرح عن بيت أسرتها بعد أن عايشت فيه عنفًا شديدًا منذ سن صغيرة. وظلت تحلم - مثل كثير من النساء - بامتلاك بيت. فبالنسبة لها البيت هو مساحة تساعدها على المقاومة والنجاة، ويساعدها هي وأخواتها وصديقاتها عبر أن يصبح "ملجأً" لهن من العنف.
في مصر تعاني حوالي 7.8 مليون امرأة من العنف، سواء من دوائر قريبة أو من الغرباء. ولا تستطيع النساء الهرب من البيت العنيف إلا إذا امتلكن بيتًا آخر، أو كان لديهن ملجأ آخر يمكنهن اللجوء إليه "إذا الزوج أغضبها". وهذا أحد الأسباب التي تدفع كثيرات للاستمرار في بيئة عنيفة.
على الجانب الآخر، نما وعي فرح في ظل ثورة يناير 2011، وما تبعها من تصاعد التيار النسوي واستقلال الفتيات -الذي انتزعته كثيرات بعد الثورة- كأداة تمرّد على سيطرة الأهل وهروبًا من العنف، أو بحثًا عن فرص عمل في دولة شديدة المركزية، لا تحظى فيها فتيات الأقاليم بفرص مهنية وحياتية كثيرة.
كانت الشرفة الكبيرة جدًا التي تحيط بالبيت هي المساحة المفضّلة لليلى، خاصة وأنها أكبر من البيت نفسه وأجمل ما فيه، وكذلك هي مساحة مثالية للعب مع إخوتها. حين كبرت ودرست العمارة أدركت أن القوانين هي التي جعلت بيوت بيروت تفتقر إلى الشرفات، فمع ازدياد عدد البنايات أصبح توسيع عدد الغرف يتمّ على حساب الشرفات والمساحات الفارغة.
تحوّلت شرفات بيروت إلى غرف مغلقة بالزجاج، وبالتالي يربح أهل البيت غرفة، ويخسرون تلك المساحة الرمزية التي تربط الداخل بالخارج، فلا أنت كليًا في الداخل ولا كليًا في الخارج.
في رواية "استغماية" للكاتبة كاميليا حسين، لم تجد الأم مساحة للتفكير غير دورة المياه. أما أمي فتمنّت لو امتلكت شرفة كالتي لدى ليلى. لكنها ككثير من النساء، لم تجد غير مساحات صغيرة تخصّها، مثل: سطح المنزل أو عتبة الباب.
"الحرملك"
تقول المهندسة المعمارية عالية عكاشة لـ"جيم": إن مفهوم البيت قد تطوّر بمرور الزمن، وتطوّرت معه التصميمات والفراغات وعلاقتها بالنساء. "ففي البيوت العربية القديمة، نجد الفناء الداخلي وجميع فتحات البيت تتجه نحو الداخل. وذلك من أجل الخصوصية جزئيًا، وإن كان في الوقت نفسه مفتوحًا على السماء ويسمح بدخول الشمس.
وتتابع: أما الفتحات التي تواجه الخارج فكانت قليلة وتُستخدم فيها المشربيات التي تتيح لمن في الداخل رؤية ما بالخارج، دون أن يراهم أحد. كما كان هناك "الحرملك" ، وهو مساحة مخصصة للنساء أو "الحريم"، ورغم اختفاء هذه المساحة من البيوت ما تزال هذه اللفظة موجودة حتى الآن يطلقها البعض على النساء في مصر.
يفصل "الحرملك" أو "الحريم" بين الزوجات والرجال؛ في هذا الجزء من البيت تجلس النساء فلا يراهن أحد، ولا يدخله من الرجال سوى الزوج أو الأقارب المقرّبين. عرفت نساء الشرق والغرب مفهوم الحرملك، حتى أصبح رمزًا يتجاوز المعمار إلى فكرة فصل النساء وعزلِهن أو تحجيمهن، ضمن القيود التي تكبّلهنّ أو تحدّ من حرية حركتهنّ، بل تقصيهنّ عن المجال العام.
تناولت عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي (1940 - 2015) هذه الفكرة كثيرًا، إذ ولدت في أربعينيات القرن الماضي داخل حريم في مدينة فاس، تشاركت فيه السكن مع عدة أجيال من عائلتها الممتدة. كان والدها يخبرها أن الله حين خلق الأرض فصل بين الرجال والنساء بحدود صارمة، لكن النساء كما تقول كنّ مهووسات بخرق تلك الحدود.
تكتب المرنيسي: "عشتُ طفولة سعيدة لأن الحدود كانت واضحة. وكان أولها هي العتبة التي تفصل حجرة أبي وأمي عن وسط الدار. لم يُسمح لي باجتياز تلك العتبة للعب في وسط الدار".
ولكن بمرور الوقت أخذت بعض العناصر المعمارية بالتحوّل، فالمشربية تحوّلت إلى الشيش، ثم تحوّل الشيش إلى الزجاج، وترافق هذا التطور مع تغيّر مكانة النساء خارج البيت. اندثر الحرملك معمارياً لكن الحدود والعتبات لم تندثر أمام النساء.
لا ترى عالية أن كل قديم سيّئ بالضرورة، وترى أن المعامريون/ات اتخذن نهجًا جديدًا بعد جائحة كورونا مستوحًى من العمارة العربية التقليدية، يُعيد هذا النهج تقسيم الفراغات، ويقلّل من الغرف المفتوحة على بعضها، لأغراض اجتماعية وبيئية.
في سن الـ 15 حصلت ليلى أخيرًا على غرفة تخصّها وحدها، بعدما تحسّنت أحوال عائلتها المادية قليلًا. كان ذلك حدثًا كبيرًا! أصبحت تملك غرفة تستطيع إغلاق بابها، وتشغيل موسيقى "الميتال" بصوت عالٍ، وتقرأ وترسم كما تشاء. وهي تقول "فيّ اقرأ وفيّ ارسم، وما في حدا إله دخل معي. شعرت حينها وكأنها تملك العالم."
لكن غرف البيت الجديد كانت في نظرها، لا تختلف كثيرًا عن غرف البيت القديم، فبيوت بيروت بالنسبة لها "علب مغلقة، ومربّعة، لا يدخلها الضوء ولا الشمس ولا التهوية".
استقلّت ليلى بمنزلها الخاص في لبنان أخيرًا، وأصبحت تحتفل يوميًا بحصولها على حقها في الخصوصية. تضحك قائلة إنها أصبحت تستحم دون أن تُغلق باب الحمام، وهذه التفصيلة الصغيرة تسعدها، كما يسعدها أن ترتدي "تي شيرت" دون بنطال، وأن تتحرك بحرية في المنزل. لم تعد ترتّب الفراش، فيبقى "مفشكل" طوال الوقت؛ تضع عليه كوب القهوة، والملابس، والكتب. حتى الفوضى بات باستطاعتها تنظيمها.
ممالك النساء؟
تقول المهندسة المعمارية مروة بركات لـ "جيم": إن النساء لا يستسلمن للتصميم الذي يضعه المعماريون، بل يُعِدن تصميم البيوت باستمرار، ويوظفن الفراغات بما يتناسب مع احتياجاتهن. قد تنقل المرأة الغسالة خارج المطبخ، وتخلق مساحات للتوضيب فوق الخزائن، وتحت السرير، وفي أماكن أخرى. وقد تلجأ إلى قفل الشرفة عند الحاجة، كأن يكبر أحد الأبناء ويحتاج إلى مساحة إضافية. هذه التعديلات رغم ضرورتها، غالبًا ما تتذمّر منها الدولة في شقق الإسكان الاجتماعي وتعتبرها مخالفة، رغم أنها نابعة من حاجة الناس وظروفهم، مثل تربية الدواجن على الشرفة".
ونظرًا لأن تصميم البيوت غالبًا ما يستند إلى الصور النمطية عن النساء، لا بد من الحديث عن المطابخ المصممة لتتسع لشخص واحد فقط. عن هذا تقول مروة "في أغلب البيوت، تكون المرأة هي المسؤولة عن المطبخ، وغالبًا ما يكون سىء التهوية وضيقًا، ولا يتيح لها حرية الحركة. وترى أن إهمال فراغ المطبخ بهذا الشكل نوع من التعسّف بحق النساء."
لذا تشدد مروة على ضرورة وجود تصميم تشاركي وفي نفس الوقت قاعدي يستجيب لاحتياجات كل امرأة على حدة. فهي لا تجمع النساء في فئة واحدة، بل تقسمهم عبر منظور تقاطعي يلحظ تداخل دوائر التمييز، فهناك من لديهن احتياج اقتصادي، كمن تربي الدواجن في المنزل، وهناك سيدات يعملن من البيت في الحياكة أو التطريز.
وتضيف أن النساء اللواتي يعملن من المنزل، سواء في الأشغال اليدوية أو في مجالات تكنولوجية أو غيرها، قد تعرّضن خلال جائحة كورونا لضغوط إضافية بسبب وجود أفراد الأسرة في البيت باستمرار، وهو ما يعزز الحاجة إلى تصميمات عمرانية تراعي احتياجات النساء المتنوّعة.
يبالغ المجتمع في وصف البيوت بأنها "ممالك النساء"، لكن الواقع مختلف تمامًا، إذ لا تستطيع النساء من الطبقات الفقيرة تأمين سكن خاص أو امتلاك عقار، فوفقًا للبنك الدولي لم تتجاوز نسبة تملّك النساء للسكن في مصر 5% عام 2018، مقابل 95% من الرجال الذين يملكون الأصول. وتبلغ نسبة تملك النساء للأراضي والعقارات في الأردن 28.6%، و4.9% في الإمارات، أما في سلطنة عُمان فتبلغ النسبة أقل من 1%. ويُعزى ذلك إلى عدة أسباب، منها أن النساء في المنطقة العربية أكثر فقرًا من الرجال وأقل امتلاكًا للموارد والأراضي، نتيجة الأعراف الاجتماعية وسياسات الدولة التي لا تُسهّل للنساء تملّك العقارات. أما النساء من الطبقات المتوسطة العاملات بالقطاع الرسمي ويستطعن الاستفادة من برامج الإسكان الاجتماعي، فتأتي الأولوية في حالة زيادة المتقدمين لتلك البرامج للرجل المتزوج ويعول، تليه الأرملة التي تعول، ثم المطلقة التي تعول، ثم الأرملة والمطلقة التي لا تعول.
وبحسب ورقة بحثية للباحثة ريم شريف، فإن العوائق التي تمنع النساء من تملّك عقار سكني مستقل في مصر تبدأ من نظام الميراث، فوفقًا للشريعة الإسلامية ترث المرأة الثمن من العقار في حال وجود أبناء ذكور، والربع في حال عدم وجودهم، ما يؤدي غالبًا إلى أن تشاركها الشقة الموروثة أطراف أخرى من أقارب الزوج، وأحياناً تحرم من الميراث، أو تُجبر على التنازل عن العقار مقابل مبلغ مالي أقل بكثير من قيمة العقار أو الأرض، وهو ما يسمى في مصر "الرضوة" وفي الأردن يسمى "تكريم" أو "بدل".
وتؤدّي صعوبة حصول النساء على عمل، وفجوة الأجور بين النساء والرجال، إلى مزيد من التعقيد بخصوص امتلاك فرح وليلى وغيرهما من النساء شقة سكنية مستقلة.
أمّي من جهتها حصلت أخيرًا على شرفة صغيرة، ربما بعدما نسيت هذا الحلم. لا تجلس أمي في البلكونة لتتنفس الهواء، أو تشرب كوبًا من الشاي في الصباح. وحدها ملابسنا على حبال الغسيل تنعم بضوء الشمس والنسيم. حلمت أمي بشرفة تتسع لأفراد أسرتها أثناء الإفطار، لكن المسافة التي تفصلنا عن العمارات والشقق المجاورة لا تتعدى بضع سنتيمترات، ما يكفي ليدفعها إلى الاختباء داخل المنزل.
إضافة تعليق جديد