مع تصاعد الدعوات إلى ارتداء اللباس الشرعي في سوريا، وفصل النساء عن الرجال في وسائل النقل والمدارس، تكتسب متابعة التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي أهمية خاصة، إذ تعكس نبض شريحة مُعبّرة من المجتمع، والتي يثير بعضها تساؤلات ملحّة عن طبيعة الحرية التي أرادها السوريون والسوريات حقًا، وهل تحقّقت كما حلموا بها؟ ولماذا يضيق مفهوم الحرية ليُختزل في الجسد وحده عندما يتعلّق الأمر بالنساء؟
"ضعوهنّ في مؤخرة الحافلة"!
لم تكن قد مضت سوى أيام على سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، حتى ظهرت ملصقات في وسائل النقل العامة في عدد من المدن السورية منها حلب ودمشق، تدعو إلى فصل النساء عن الرجال، وذلك عبر أن يجلس الرجال في مقدّمة الحافلة والنساء في الخلف.
أثار الأمر تساؤلات ومخاوف بشأن إمكانية ظهور جهات تفرض هذه القواعد بشكل منهجي، على غرار "هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في السعودية سابقًا، أو "شرطة الأخلاق" في إيران. فهل تمهّد تلك الدعوات لمزيد من التدخل في الحريات الفردية تحت غطاء "التنظيم الاجتماعي"؟
يكشف النقاش السوري على وسائل التواصل الاجتماعي عن انقسامات واضحة حول مفهوم الحرية، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالنساء وأجسادهنّ. من بين الردود الأكثر شيوعًا على النساء اللواتي يعبرن عن رفضهنّ الفصل في وسائل النقل: "إذًا، تريدين أن يتم التحرش بكِ؟"، وهو ردٌّ يُستخدم أيضًا مع الرجال عبر تغيير الضمير: "هل تريد أن يتم التحرش بأختك أو زوجتك؟".
في هذا الطرح، يتحوّل المطلب المحق إلى اتهام، ويُستخدم كأسلوب هجومي يُعرف بـ"المغالطة الاتهامية" أو "منطق الاتهام العكسي". لكن الأهم أن هذا الخطاب يحمل في طياته إدانة ضمنية، إذ يعترف - ولو بغير قصد - بتعرض النساء فعليًا للتحرّش في وسائل النقل العامة، ومع ذلك بدلًا من معالجة المشكلة، تُتهم أي امرأة تطالب بحقها، بأنها "راضية" عن التحرّش بها. وكأنّ أي مطالبة بعدم تقييد النساء في حركتهنّ، وعدم الاعتداء على حرياتهنّ الشخصيّة، تنطلق حكمًا من الجنس والرغبة الجسدية و"الانحلال الأخلاقي"، كما يعرّفه كثيرون.
هكذا لا تعود المشكلة في تصرفات المعتدين، بل بوجود النساء في الأماكن العامة ووسائل النقل والمدارس وغيرها... وكأن الحل يكمن ببساطة بوضع النساء في مؤخرة الحافلة ليكون كلّ شيء على خير ما يرام! هذه الفكرة تعزز الخطاب السائد بأن المرأة هي المسؤولة الوحيدة عن حماية نفسها، بينما الحقيقة أن المجتمع يجب أن يضمن بيئة آمنة للجميع.
لكن المشكلة في حالة النقل العام مثلًا، لا تقتصر على استحالة تطبيق الفصل بين الجنسين في ظل أزمة المواصلات الخانقة التي تعيشها المدن السورية، بل تمتد إلى البعد الأيديولوجي لهذه الدعوة. فهذه الدعوة طرحت فورًا بعد "التحرير"، بدون أي نقاش مجتمعي أو استفتاء حول موقف الناس منها، وكأنها فرضٌ لا يقبل الجدل. كما أنها تستند إلى تفسيرات دينية إسلامية تتجاهل التنوع الديني والطائفي والفكري في سوريا، مما يفرض توجهًا أحاديًا لا يمثل جميع السوريين.
في المقابل، يرى بعض المؤيدين لالفصل بين الجنسين في وسائل النقل أن الأمر خيار مشروع لمن يرغب بذلك.
لكن في أي مرحلة يمكن تحقيق هذا الخيار دون المساس بالحريات الفردية؟
قد يكون ذلك ممكنًا في المستقبل، بعد إعادة إعمار وتأهيل البنية التحتية للمواصلات العامة، عبر تخصيص أماكن للنساء في بعض الحافلات، مع الإبقاء على خيار الوسائل المختلطة، كما هو الحال في بلدان مثل الإمارات العربية المتحدة. بهذه الطريقة تترك للأفراد حرية اختيار الوسيلة التي تناسبهم، بدلًا من فرض نموذج واحد على الجميع.
نسويات يؤيّدن الفصل
تعبّر بعض النسويات عن تأييدهنّ لدعوات الفصل بين الجنسين في وسائل النقل، رغم نضال الحركة النسوية من أجل المساواة وإزالة القيود المفروضة على النساء، باعتبار ذلك حلًا لجرائم التحرّش.
هكذا تتبنّى بعضهنّ منطق إلقاء اللوم في تلك الجرائم على الاختلاط، بدلًا من التركيز على محاسبة المتحرّشين والثقافة التي تبرّر العنف. بذلك تعزِّز بعض النسويات ولو بشكل غير مباشر، الطرح الذكوري القائل بأن وجود النساء في المجال العام هو سبب تعرّضهنّ للمضايقات.
قد يكون دافع بعض النسويات في تأييدهن للفصل هو حماية النساء في ظلّ غياب قوانين رادعة، لكنهن يتجاهلنّ أن هذا الحل يعيد إنتاج المنظومة ذاتها التي تدفع النساء إلى التكيّف مع الظلم بدلًا من مقاومته.
بحسب استطلاع أجراه "الباروميتر العربي" عام 2019، وهو من الاستطلاعات القليلة بهذا الشأن، فإن التحرش لا يقتصر على النساء وحدهنّ، بل يتعرض له الذكور أيضًا لفظيًا أو جسديًا، فضلًا عن تعرض الأطفال والطفلات له في المنازل والمدارس.
إذا كان الهدف هو حماية النساء من التحرّش، فإن الفصل بين الجنسين ليس سوى حلٍّ سطحي لمشكلة أعمق، فهو لا يعالج الأسباب الجذرية للسلوكيات المسيئة، ولا يغير المواقف الثقافية والاجتماعية التي تكرّسها.
لماذا لا تشعر المرأة بالأمان لمجرد جلوسها قرب رجل؟ ولماذا يُفترض تلقائيًا أن أي اختلاط يقود بالضرورة إلى سلوك جنسي؟ هناك حاجة ملحّة لفصل وجود المرأة في الفضاء العام عن حياتها الجنسية، والتوقف عن اختزالها في كونها مجرد جسد مثير أو أداة جنسية أينما وُجدت.
في عام 2019 أجرت "مؤسسة روزنة للإعلام" بالتعاون مع "الشبكة السورية للمرأة" استبيانًا حول التحرش بالنساء في سوريا، والذي شمل 118 سيدة من داخل وخارج سوريا، وكشفت نتائجه أن 100% من المشاركات أكدن تعرضهن للتحرش، وإن اختلفت أشكاله وأساليبه. ووفقًا للاستبيان جاء التحرش في الشوارع في المرتبة الأولى، يليه التحرش في بيئات العمل ثم في المنازل وأخيرًا في المدارس أو الجامعات. كما أظهرت النتائج أن 72% من حالات التحرش وقعت في وضح النهار. فمن يحمي النساء في كل مكان؟ ومن يحمي الفتيات الصغيرات من التحرش، سواء داخل المنازل على يد الآباء أو الأقارب أو ضمن الدوائر الضيقة؟ هل يكون الفصل حلًّا هناك يا ترى؟
تجدر الإشارة إلى أن غياب الأرقام والاستبيانات الحديثة الخاصة بتعرض النساء والفتيات والسيدات السوريات للتحرش، يشكل عائقًا أمام فهم الواقع وتبعات الاعتداءات على حياتهنّ.
الوصاية وحرّاس الشرف
يُنظر إلى المرأة باعتبارها كيانًا جنسيًا قبل أي شيء آخر، ويتعامل المجتمع مع وجودها في الفضاء العام على هذا الأساس، فيرتبط مفهوم الحرية أولًا وأخيرًا بجسدها، وكأن استقلالها الشخصي والفكري لا يمكن أن يكون منفصلًا عن هويتها الجنسية.
في المقابل يسود تصور بأن المرأة يجب أن تظل دائمًا تحت وصاية الرجل، سواء كان أبًا أو أخًا أو زوجًا أو حتى المجتمع ككل، باعتبارها حجر الأساس في استقرار هذا النظام. وكما تقول فاطمة المرنيسي في كتابها "ما وراء الحجاب": "يتم الحفاظ على النظام الاجتماعي عندما تحصر المرأة نفسها بزوجها، ولا تثير الفتنة أو الفوضى عبر إغراء رجال آخرين بعلاقات غير مشروعة".
وتتحدث المرنيسي بإسهاب عن أن إقصاء النساء من الفضاء العام ليس مجرد تقليد ثقافي وليس له استنادات دينية، بل هو ممارسة سياسية تهدف إلى الإبقاء على السلطة في يد الرجال، فعندما تُحرم النساء من الوصول إلى الفضاء العام فإنهن يُحرمن من القوة، لأن الفضاء العام هو المكان الذي تُبنى فيه السلطة وتُمارس.
وفي سوريا، حيث تتقاطع البطريركية مع ديكتاتورية راسخة عززها النظام السابق، يُنظر إلى خروج أي امرأة عن هذا الدور كـ"شذوذ" غير مقبول، وأي مطالبة بالحرية تُفسَّر كتحدٍّ مباشر لتلك السلطة.
تعكس هذه الردود أبعادًا أعمق ترتبط بأنماط تفكير متجذرة في السلطة الأبوية، والرغبة في التحكم بحريات النساء. فاختزال حرية النساء في البحث عن التحرّر الجنسي باعتباره البعد الوحيد ليس مجرد موقف اجتماعي، بل هو أيضًا أداة لقمع أي محاولة لمساءلة المنظومة الذكورية المسيطرة. وبدلًا من توجيه السؤال للمتحرّش مثلًا في حالة الاعتداءات التي تقع في وسائل النقل، يُوجَّه السؤال للضحية: لماذا لم تجلس في الجزء الخلفي من الحافلة؟ ولماذا رفضت الفصل أصلًا؟
وهكذا تُواجه مطالب النساء بالحرية والديمقراطية والمدنية في سوريا بردود فعل تختلف عن مطالب الرجال. تُتهم المرأة بأن مطلبها يقتصر على التحرر الجسدي، بينما يستطيع الرجل التحدُّث عن الحرية السياسية دون أن يُلقى عليه الاتهام ذاته.
لكن النظام الذكوري لا يقيد النساء فقط، بل يمتد إلى الرجال الذين يخرجون عن التصورات التقليدية؛ فالرجل الذي يدافع عن حرية النساء لا يُنظر إليه كمدافع عن الحقوق، بل يُتهم ضمنيًا بالموافقة على انتهاك أجساد نساء عائلته. في هذا السياق لا تُعتبر مواقفه انحيازًا للعدالة، بل خيانة لدوره المفترض كحارس "لشرف" أسرته وسلطته على نسائها.
يجد الرجال الذين يرفضون هذه الإجراءات أنفسهم أمام اختبار حقيقي: هل سينضمون إلى جوقة المطالبين بالحرية ويُساءَلون عن رجولتهم و"شرفهم"، أم سينكفئون خوفًا من نظرة المجتمع إليهم؟
ثورات النساء لا تنتهي
الفصل لن يحمي النساء من التحرش، بل سيعمّق الفكرة القائلة بأن الرجال والنساء كيانان منفصلان، مما يعزز سوء الفهم بينهما ويكرّس الصور النمطية. فبدلًا من أن يُنظر إلى المرأة كإنسانة مستقلة، تصور على أنها بحاجة دائمة إلى الحماية، في مقابل صورة الرجل الذي يظهر كخطر محتمل بطبيعته.
التحرش ليس مجرد سلوك فردي، بل هو انعكاس لثقافة كاملة تتشكل عبر التعليم والتنشئة ونظرة الرجل إلى نفسه وإلى المرأة، وسعيه إلى بسط سيطرته أو إثبات قوته المفقودة في مجالات أخرى من حياته، وهو ما تؤكده العديد من الدراسات. وفي سوريا يبدو أن الوضع الاقتصادي المتردي والبطالة وإرث القمع الطويل، يدفع كثيرًا من الرجال للبحث عن القوة في أماكن أخرى. وهو ما لا يعد تبريرًا بل محاولة لفهم السياق.
أليس من الأجدى تربية الأجيال على الاحترام المتبادل وسنّ قوانين رادعة للتحرش؟ فالعزل القسري وغياب التواصل الطبيعي بين الجنسين لا يمنع السلوكيات غير المرغوبة؛ بل يغذي الفضول، ويدفع إلى علاقات سرية وغير صحية خاصة بين المراهقات والمراهقين.
في التجربة السورية خصوصًا والعربية عمومًا، ندرك أن ثورات النساء لا تنتهي بالتوازي مع ثورات الرجال. فرغم نضالهمن المشترك ضد نظام قَمَع الجميع، يظلّ هناك نظام آخر يتحكم في حياتهن بكل مشتملاتها؛ في المنازل وعلى أسِرّة النوم وفي المطابخ والشوارع وأماكن العمل.
إضافة تعليق جديد