عُرفت الحركة النسوية في المغرب منذ نشأتها بارتباطها الوثيق بالسياق السياسي العام، وتحديدًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وارتبطت بالنضال من أجل الديمقراطية والتنمية الاقتصادية وفصل السلطات. ومع ذلك، خلال القرن الحالي، بدأت الحركة تنأى بنفسها تدريجيًا عن هذا السياق الأوسع، وركزت نضالها ومطالبها على القضايا المتعلقة بالنساء بشكل حصري (مثل قوانين الأسرة والعنف والاغتصاب...).
بالطبع، نستثني من ذلك النساء اللواتي تحمل قضاياهن طابعًا سياسيًا مرتبطًا بمعارضة النظام المغربي وانتقاد بنياته السياسية وكشف الفساد واستغلال النفوذ.
وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا أصبحت الحركة النسوية (أو النسائية كما تُسمّى باللهجة المغربية) معزولة عن السياق العام وعن نبض الشارع المغربي؟ وهل تخشى الحركة الدفاع عن المعتقلات والمعارضات السياسيات؟
لكن قبل الخوض في سقف المطالب والنضالات التي رسمتها الحركة لنفسها، وموقفها من السياق السياسي العام وتطوراته، وخاصة قضايا الاعتقالات السياسية، يجب علينا أولًا أن نفهم السياق الذي نشأت فيه هذه الحركة ومراحل تطورها، ولماذا وصلت اليوم إلى موقع المتفرج بدلًا من أن تكون فاعلًا مؤثرًا.
تُعد الحركة النسوية المغربية حركة اجتماعية حقوقية، انبثقت من قلب السياق الخاص الذي نشأت وتطورت فيه، وأثرت وتأثرت بمختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد ظهرت هذه الحركة كإحدى أبرز الحركات الاجتماعية والحقوقية المؤثرة خلال نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة1 ، في فترة شهدت فيها البلاد تحولات سياسية واجتماعية هامة.
وتشكِّل جمعيات المجتمع المدني النسائية نواة هذه الحركة، إذ تضم عشرات الجمعيات المنبثقة من رحم النقابات والأحزاب، والتي تركز على مختلف قضايا النساء، مثل الحقوق ومكافحة العنف والتنمية. ومن بين هذه الجمعيات: "اتحاد العمل النسائي"، "الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب"، "الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق النساء"، وغيرها...
تعود أولى إرهاصات هذه الحركة في المغرب إلى أربعينيات القرن الماضي، والتي تميزت بمناهضة المستعمر الفرنسي. وقد تجلت التعبيرات الأولى عن مصالح النساء في إطار قطاعات حزبية، وانكب عملها آنذاك على النضال الوطني لمواجهة الاستعمار، إضافة إلى العمل الخيري والاجتماعي، كما جعلت من حقوق النساء أولوية في عملها. واتخذ نضال النساء المغربيات بها شكلًا منظمًا لأول مرة، متمثلًا في جمعيات "أخوات الصفا"2 .
اتسم السياق العام الذي تلى الاستقلال، وظهرت فيه أولى الجمعيات النسائية كإطارات نسوية مستقلة3 ، بالتضييق على الحريات العامة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان طيلة الفترة المعروفة بـ"سنوات الجمر والرصاص" (منذ 1956 إلى 1999). وقد طال هذا القمع مختلف التنظيمات الحزبية -لا سيما اليسارية منها- ولم تُستثن النساء من الاعتقالات والتعذيب الذي تعرضن له داخل السجون (مثل حكيمة الناجي، لطيفة أجبابدي، ثريا التناني، وغيرهنّ).
شهدت فترة التسعينيات كثرة ملحوظة في الجمعيات النسائية، التي انصبّ نضالها أساسًا على تغيير مدونة الأحوال الشخصية، ثم اتسع نطاق اهتماماتها لتشمل قضايا تعزيز وصول النساء إلى مراكز القرار السياسي، ومناهضة جميع أشكال العنف ضد النساء، وضمان الحقوق الإنسانية للمرأة في الدستور وغيره من التشريعات.
وفي عام 1993، أطلقت الحركة حملة "المليون توقيع" على المستوى الوطني، للمطالبة بتغيير مدونة الأحوال الشخصية. وقد مثلت هذه الحملة نقلة نوعية في مسار الحركة، إذ انتقلت من مرحلة البناء والتنظيم إلى مرحلة الترافع وتعزيز حقوق النساء. إلا أنّ الحملة واجهت هجومًا شرسًا من التيار الإسلامي. وتدخّل الملك ووعد بالانكباب على مطالب النساء، لكن التعديلات التي لحقت بالمدونة خيبت آمال الحركة وجاءت دون توقعاتها.
وكانت سنة 2000 من أبرز محطات الحركة في المغرب، فقد نظم خلالها أول مسيرة نسائية في الرباط، ضمت عشرات الآلاف من النساء. إلا أن التيار المحافظ نظّم مسيرة مضادة بعدد أكبر في الدار البيضاء، وبالتالي خسرت الحركة النسائية هذه المعركة في الشارع.
لكن الحركة النسوية لم تستسلم، بل جمعت صفوفها تحت راية شبكة "ربيع المساواة"، لتخوض معركة تغيير مدونة الأسرة من جديد. وبالفعل، في عام 2004، تحقق لها ما أرادت، مع استبدال المدونة السابقة بأخرى أكثر إنصافًا، وإن لم ترقَ تمامًا إلى مستوى تطلعات الحركة. كانت هذه المرحلة بمثابة نقطة تحول، إذ تمكنت الحركة النسوية من ترسيخ مكانتها كقوة مجتمعية فاعلة، تسعى جاهدة لتحقيق التغيير.
حركة 20 فبراير وخذلان الحركة النسوية
رفضت الحركة النسوية في المغرب الانضمام إلى حراك 20 فبراير الذي شهدته البلاد، تزامنًا مع حركات شعبية مماثلة في دول المنطقة خلال سنة 2011، وذلك رغم الحضور القوي للنساء وقيادتهن للاحتجاجات في مختلف المدن المغربية.
وكان مبرّر ذلك الإحجام هو عدم إدراج الحراك لمطلب المساواة الجندرية وحقوق النساء ضمن مطالبه، إلى جانب تجنب الاصطدام مع التيار الإسلامي المحافظ4 ، الذي كان له حضورًا قويًا في الساحة آنذاك، وهو معروف بمعارضته لمطالب الحركة النسوية منذ بداياتها. ومع ذلك، لا يمكننا إغفال بعض مناضلات الحركة النسائية اللواتي شاركن في بعض مظاهرات حراك 20 فبراير، لكن بصفتهن الشخصية لا كممثلات عن الحركة.
من جانبها، تحدثت سارة سوجار القيادية في حركة 20 فبراير والمناضلة في مجموعة "نساء شابات من أجل الديمقراطية"، خلال إحدى الندوات عن الترابط الوثيق بين المساواة والديمقراطية، واستحالة تحقيق الأولى دون الثانية. مشيرة إلى ضرورة على عدم فصل القضية النسائية عن باقي القضايا الأساسية في المجتمع. ووضحت سوجار أن شابات 20 فبراير لم يعمدن إلى عزل قضية المساواة وحقوق النساء في وثيقة الحراك المطلبية، بل اعتبرنها جزءًا لا يتجزأ من مطلب الديمقراطية بأبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ورأت سوجان أن عزل قضية النساء عن القضايا العامة لا يخدمها، بل يساهم في تحريف مسار النضال العام للمجتمع.
يُعاب على الحركة النسوية، خلال هذه المحطة السياسية المهمة في تاريخ المغرب، أنها فوتت فرصة المشاركة في الحراك الديمقراطي الذي كان سمة بارزة في بدايات نضالها. كما أظهرت ضعفًا في قدرتها على التعبئة الجماهيرية، واستمرارها في الانعزال والتقوقع حول "قضايا النساء" التي عدّتها منفصلة عن السياسة ونبض الشارع المغربي. علاوة على ذلك، فقد وافقت الحركة -شأنها شأن مجموعة من الأحزاب السياسية- على دستور 2011، واعتبرته إنجازًا ومكسبًا للمجتمع والنساء، في حين رأت فيه مناضلات حركة 20 فبراير إصلاحات مخيبة للآمال.
حراك الريف.. حضور النساء وغياب الحركة
بقيت الحركة النسوية منذ تلك المرحلة إلى اليوم، في حالة من الجمود تجاه القضايا السياسية، بل أصبحت أكثر انعزالًا وتحفظًا مما كانت عليه سابقًا. وشهد المغرب خلال هذه الفترة مجموعة من الاحتجاجات المحلية والوطنية، أبرزها حراك الريف سنة 2016، حيث خرجت ساكنة المنطقة للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والكرامة والحرية بعد مقتل بائع السمك محسن فكري5 .
وعلى إثر هذه الاحتجاجات، اعتُقلت مجموعة من النشطاء، من بينهم قيادات نسائية6 ، واستُدعيت ناشطات أخريات من قبل الفرقة الوطنية وتوبعن في حالة سراح مؤقت، بينما اختارت أخريات الهرب إلى الخارج وطلب اللجوء السياسي7 خوفًا من الأحكام القاسية الصادرة في حق النشطاء والتي وصلت إلى 20 سنة سجنًا نافذًا.
يتبيّن لنا أن النساء المغربيات كنّ حاضرات بقوة في خضم الأحداث السياسية التي شهدها المغرب مؤخرًا، سواء كفاعلات يطالبن بالتغيير والديمقراطية، أو كأمهات وزوجات للمعتقلين، يواصلن نضالهن دفاعًا عن براءة أحبائهن طلبًا للعدالة واستقلالية القضاء، متحديات وصمة "الاعتقال السياسي" التي تلحق بهن في حياتهن اليومية.
المفارقة أنّه على المقلب الآخر، استخدمت قضايا بعض النساء، للأسف، سلاحًا في يد البعض لقمع الصحافيين ومعتقلي الرأي في المغرب، عن طريق إرغام بعضهنّ على رفع دعاوٍ قضائية كيدية بتهم جنسية، والاتجار بالبشر8 -وفقًا لتقارير المنظمات الدولية9 - التي تؤكد أن السلطات المغربية تستخدم هذه الادعاءات الكاذبة كأداة انتقامية ضد الصحافيين، لتخويفهم وإرهابهم.
المعتقلة السياسية ومسلسل الاتهامات الباطلة
لا تحظى المعتقلات السياسيات في المغرب، كما بقية دول المنطقة، بنفس الانتباه الذي يحظى به المعتقلون السياسيون. ويتجلى ذلك بوضوح في اعتقالات "سنوات الجمر والرصاص"، وهو الأمر الذي تؤكده المحامية والناشطة النسوية سعاد البراهمة، فغالبًا ما يُسلّط الضوء على المعتقلين السياسيين ويتم تجاهل المعتقلات السياسيات. رغم أن المعتقلة تعاني عنفًا مزدوجًا؛ عنف المجتمع الذي يلاحقها وعائلتها قبل وبعد دخولها السجن، وعنف أجهزة الدولة التي تستغلّ الموروث الثقافي والعقلية الذكورية10 للتهديد بالاغتصاب.
وقد تعرضت بعض المعتقلات خلال "سنوات الجمر والرصاص" للاغتصاب الجماعي داخل أسوار السجن، كما هو موثّق في كتاب "نساء كسرن جدار الصمت" إضافة إلى التهديد بفضح حياتهن الخاصة واغتصاب أخواتهن وأمهاتهن إذا ما رفضن التوقيع على المحاضر أو التراجع عن مواقفهن النضالية. بل إن هناك من تم تغيير أسمائهن إلى أسماء ذكورية، كما حدث مع المعتقلة فاطنة البيه11 التي استبدل اسمها بـ"رشيد" داخل السجن، في محاولة من السجان لإنكار وجود المرأة المناضلة ومطالبتها بالتغيير والقضاء على الاستبداد السياسي.
لم تتخلَ الحركة النسوية خلال هذه الفترة عن المعتقلات السياسيات، بل إن بعضهن أصبحن بعد الإفراج عنهن قياديات في جمعيات الحركة وإطاراتها، وكان من أولوياتهن تحقيق الانتقال الديمقراطي وإطلاق سراح المعتقلين.
لكن مع اعتقال ناشطة حراك الريف سيليا الزياني تراجعت الحركة النسوية خطوة إلى الوراء، واعتبرت القضية -وإن كانت نسوية وضحية عنف نظام ذكوري سلطوي- من اختصاص الإطارات الحقوقية. لم تُصدر الحركة أي بيان بخصوص اعتقال الناشطة أو تدعُ إلى وقفة احتجاجية للتضامن معها. بالمقابل، دعت تنسيقية مغربيات ضد الاعتقال السياسي12 إلى وقفة نسوية تضامنية مع سليمة الزياني وبقية معتقلات حراك الريف، لكن الوقفة مُنعت بالقوة.
واستمرّ الضغط من الهيئات الحقوقية وبعض الفاعلين السياسيين -وهم قلّة- وبعض النسويات على حساباتهن الشخصية على مواقع التواصل، بعيدًا عن تمثيلاتهن النسوية. مطالبات بإطلاق سراح معتقلي حراك الريف والمعتقلة سيليا الزياني بعد تدهور حالتها الصحية والنفسية13 . وبالفعل، أطلق سراحها مع بعض النشطاء بعد صدور عفو ملكي14 .
لم تتوقّف معاناة المعتقلة سيليا الزياني عند هذا الحد، بل خاضت اعتصامًا إنذاريًا مفتوحًا بعد مماطلة السلطات المحلية في منحها جواز السفر، لتعرقل سفرها إلى الدول الأوروبية والمشاركة في الندوات والأنشطة التي تعرف باحتجاجات الريف وبالاعتقالات التعسفية لنشطائه وناشطاته.
كلما برزت نساء قادرات على انتقاد وتفكيك البنى السياسية وكشف الفساد والتأثير في قاعدة جماهيرية واسعة، فسارعت السلطات إلى استدعائهن واعتقالهن. ومثال ذلك ما حدث للمدونة والناشطة الحقوقية سعيدة العلمي التي تعرّضت للملاحقة قبل اعتقالها في آذار/ مارس 2022، على خلفية تدوينات على "فيسبوك"، كانت تُفصّل وتشرح فيها الأوضاع والأحداث السياسية الراهنة، منتقدة الفساد المتغلغل في بنية الدولة، ومدافعة بشراسة عن إطلاق سراح معتقلي/ات حراك الريف والصحافيين/ات. وقد حظيت تلك التدوينات باهتمام وتفاعل كبير من قبل المغاربة15 .
حُكم على سعيدة العلمي بالسجن ثلاث سنوات، وأدينت بسنتين إضافيتين على خلفية تصريحات أدلت بها خلال استنطاقها في المحاكمة (تمّت مُلاحقتها بفصلين من القانون الجنائي يعاقبان على إهانة شخص الملك ورجال القضاء أو الموظفين العموميين)، ثم خُففت هذه العقوبة لاحقًا إلى 8 أشهر. ومنذ اعتقالها، خاضت المعتقلة إضرابات مفتوحة عن الطعام، احتجاجًا على الممارسات المستفزة التي تتعرّض لها، كحرمانها من التسوّق بشكل يومي من متجر السجن، وعدم استفادتها من نفس الطعام الذي تستفيد منه بقية السجينات، إضافة إلى تعرضها المستمرّ للاستفزاز اللفظي من قبل حارسات السجن.
أُطلق سراح سعيدة العلمي بعد قضائها أكثر من سنتين في السجن، بموجب عفو ملكي صدر في 29 تمّوز/ يوليو من العام الجاري، إلى جانب مجموعة من الصحافيين والمدونين. وقد اعتبر البعض هذا الإفراج انفراجًا سياسيًا بعد فترة من التضييق الكبير على حريات التعبير وحقوق الإنسان.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل ستنعم سعيدة بالحرية بعد خروجها من السجن، أم سيعاد التضييق عليها وقمع حريتها في التعبير والنقد؟ وهل ستُعوَّض هي وعائلتها عما عانته خلال استنطاقها وسجنها؟
أمهات وزوجات المعتقلين
يُلاحَظ أن الحركة النسوية لا تكتفي بعدم الدفاع عن المعتقلات السياسيات والمناضلات اللواتي غادرن البلد هربًا من الاعتقال، بل إنها لا تقدم الدعم أيضًا لنساء عائلات المعتقلين (الأمهات، الزوجات، الأخوات، والبنات). كما لا تتبنى الحركة قضية هؤلاء النساء اللواتي وجدن أنفسهن، بعد اعتقال أبنائهن، بين مطرقة المجتمع الذكوري وسندان سلطة الدولة، إذ يصل الأمر تعرضن للتهديد بالاغتصاب والتشهير بحياتهن الخاصة.
تخوض هؤلاء النساء معركتين في آن واحد: الأولى من أجل إطلاق سراح أبنائهن ومواجهة بطش السلطة وأحكامها الجائرة في حقهم، والثانية تتمثل في تأمين لقمة العيش لأبنائهن إذا ما كان الزوج هو المعتقل أو الأخ أو الابن الأكبر المعيل للعائلة. وهكذا، يواجهن النظام الذكوري ببنياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
نستحضر هنا مثالًا صارخًا، وهو عائلات معتقلي حراك الريف، خصوصًا زوجة المعتقل السياسي محمد جلول التي عانت الأمرين عندما اعتقل زوجها سنة 2012 وحُكم عليه بالسجن بخمس سنوات، ثم تعرض للمرة الثانية للاعتقال سنة 2017 خلال حراك الريف وحُكم عليه بالسجن 10 سنوات. كانت سعاد الأم والأب - طول فترة الاعتقال السياسي وإلى يومنا هذا - لأبنائها الثلاثة، والزوجة المناضلة التي تدافع عن زوجها وحريته. وقد قررت عدم العودة إلى المغرب سنة 2019 بعد زيارة لها إلى هولندا للتعريف بقضية زوجها، ومعتقلي حراك الريف ومعاناة عائلاتهم، ليلحق بها أبناؤها بعد ذلك.
كذلك الأمر، بالنسبة لزوجة الصحافي سليمان الريسوني، خلود المختاري التي تعرضت بدورها للتهديد بالاغتصاب على مواقع التواصل الاجتماعي بعد اعتقاله، كما تم التشهير بها وبزوجة محمد جلول عبر مواقع تُعرف بقربها من السلطة.
لم تنجُ الأمهات أيضًا من قسوة السلطوية، ومنهنّ من تعرضت للاعتداء والاضطهاد، واعتُقل أبناؤها ، كما حدث مع عائلة العنابي التي توزع أبناؤها الثلاثة على سجون مختلفة. عانت أم الأخوة العنابي من الأمرّين، خاصة على الصعيد المادي، بعد أن ساءت أوضاعها المعيشية التي ناضل أبناؤها لتحسينها من أجل الجميع قبل اعتقالهم16 .
إن معاناة هذه الأم وغيرها من الأمهات -كوالدتي ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق- تكشف حجم الظلم والعنف الذي تعرّضت له نساء عائلات المعتقلين من قبل النظام، إذ يجدن أنفسهنّ، فور اعتقال أبنائهنّ، في مواجهة مباشرة مع السلطة، كما توضح المحامية سعاد البراهمة17 ، المدافعة عن معتقلي حراك الريف.
وبدون دون أن ننسى معاناة والدة الصحافي عمر الراضي، فتيحة الشرايبي، أثناء دفاعها عن ابنها خلال الاعتقال، إذ اتهمت بالاتجار بقضيته، في حين كانت تترافع من أجل إطلاق سراحه وباقي المعتقلين والصحافيين داخل وخارج الوطن.
يضاف إلى ما سبق، قضايا النساء اللواتي تم استغلالهن في قضايا جنسية للإيقاع بأبرز الصحافيين المعارضين وكاشفي الفساد في المغرب، وهو ما جعل الناشطة الحقوقية والنسوية خديجة الرياضي تؤكد "أن السلطة المغربية تجد في النساء فرائس سهلة لأساليب التشهير والابتزاز".
وتضع هذه الأساليب النساء في موقع ضعف، مما يسهل استغلالهن للإيقاع بالصحافيين والمعارضين السياسيين، إذ يتعرضن للضغوط، وإحضارهن بالقوة إلى المحكمة وإرغامهن على تقديم شكايات كيدية ضد المعارضين. وقد اضطرت بعضهن للهرب خارج المغرب، كما هو الحال مع الصحافية عفاف برناني18 . وتضيف الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان خديجة الرياضي أن "الذكورية تتحالف مع السلطوية لإخفاء الطابع السياسي لمحاكمة المعارضين وتقديمهم كمجرمين ومنع التضامن معه".
يتبين مما سبق أن النساء في المغرب يواجهن منظومتين قمعيتين متشابكتين: المنظومة الذكورية ومنظومة السلطة، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، إذ تُمارس أنواع القمع والعنف والابتزاز كافة على أية مناضلة واعية بضرورة التغيير السياسي، وعلى عائلتها أيضًا، خوفًا من أن تؤثر في محيطها وفي بقية النساء للانتفاض على النظامين. كما تُستغل النساء باعتبارهنّ الحلقة الأضعف في المجتمع في قضايا الاعتقالات السياسية من أجل تلفيق التهم الجنسية والتشهير بالمعارضين والصحافيين كما تشير المناضلة النسوية والحقوقية خديجة الرياضي.
هكذا تظلّ النساء في المجتمع المغربي، كما في كثير من المجتمعات الشرقية، أسيرات للنظام الأبوي العام (الدولة) والنظام الأبوي الخاص (الأسرة والمجتمع والعشيرة)19 .
مستقبل مبهم في ظل الانعزال عن الواقع
بالرغم من الانتقادات الموجهة إليها، نجحت الحركة النسوية المغربية في تحقيق مجموعة من المكاسب، خاصة بعد إقرار مدونة الأسرة عام 2004، إذ أصبحت السياسات العامة للدولة ملزمة بمراعاة البعد النسائي؛ ومن أبرز هذه المكاسب، تمكين النساء من ولوج مهن كانت حكرًا على الرجال فقط (مثل مهنة العدول، المختصة بتوثيق عقود مثل الزواج والطلاق والميراث)، وإصدار قانون 103.13 لحماية النساء من العنف القائم على النوع الاجتماعي، وزيادة تمثيلهن في مراكز القرار السياسي، والاعتراف بحقهن في الانتفاع من الأراضي السلالية. كما استجابت المؤسسة الملكية مؤخرًا لمطالب الحركة النسائية بتغيير مدونة الأسرة وتجاوز اختلالاتها التي استمرت لأكثر من 18 عامًا، وتلبية الاحتياجات المعاصرة للنساء المغربيات.
ومع ذلك، اختارت الحركة خلال فترة الألفينيات الانغلاق على نفسها والابتعاد عن الواقع السياسي والاقتصادي للمجتمع، بحجة حماية المكتسبات المحققة. واليوم تواجه تحديات كبيرة لا بد من تجاوزها لتفادي المزيد من العزلة في المستقبل.
ينبغي على الحركة النسوية أن تخرج من جُحر المطالب المحدودة التي رسمتها لنفسها، وملامسة نبض الشارع المغربي، والنضال من أجل التنمية الشاملة، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا. عليها أن تستعيد روحها النضالية الأولى، حين كانت القضية النسائية جزءًا لا يتجزأ من النضال الديمقراطي والتغيير السياسي، وأن تبني على ذلك وتطوّره. ففي ظلّ بيئة ديمقراطية حقيقية، تزدهر المساواة والعدالة، وتتمكّن النساء من تحقيق مطالبهن بل وتتجاوزها إلى آفاق أرحب.
وتؤكد المناضلة النسوية خديجة الرياضي على "أن الحركة مطالبة بإعادة النظر في أولوياتها ومناهجها، وتجديد توجهها ليكون ميدانيًا وفاعلاً، لا يقتصر على تقديم المساعدة". وتضيف: "يجب أن يكون هذا التوجه متناغمًا مع كافة النضالات الساعية إلى مجتمع أكثر عدالة وإنصافًا، فالنضال ضد التمييز الجندري واللامساواة القائمة على النوع لا يمكن فصله عن الأشكال الأخرى من الاستغلال والتمييز، ولن ينجح إلا بتكامله مع مختلف نضالات الشعب المغربي20 من أجل الحرية والعدالة".
بتجاوز هذا الانعزال، ستتخطى الحركة ضعفها الجماهيري الحالي، إذ يلزمها الانفتاح على مختلف الفعاليات والإطارات، لا سيما التيار الإسلامي المحافظ الذي تعتبره خصمًا لها، نظرًا لما يتمتع به من قاعدة جماهيرية واسعة يمكن التأثير فيها وإقناعها بضرورة التغيير. فالحركة مطالبة بالانفتاح على هذا التيار والعمل معه، بل وتقبل مرجعياته من أجل تحقيق المزيد من المكاسب والحقوق.
بحسب الباحثة في النوع الاجتماعي نعيمة بنواكريم21 ، "نتيجة لاحتدام الصراع حول القضايا السياسية خلال العقدين الماضيين بين الحركة النسوية والإسلامية، اتجهت الأخيرة إلى تأسيس جمعيات إسلامية تعنى بقضايا النساء، لمواجهة المد النسوي الحداثي".
وتضم هذه التنظيمات نساءً ذات كفاءة عالية، يحملن شهادات جامعية ومتمرسات في العمل السياسي والجماهيري -ومن بينهن من تقلدت مناصب وزارية- كما اشتغلن على قضايا النساء وفق مرجعية إسلامية قائمة على مرتكزات فكرية تستند إلى مفهوم المساواة، واعتماد آلية الاجتهاد في الدين. واستطاعت هذه التوجهات أن تتقاطع مع عدد من القضايا ذات التوجه الكوني الحداثي والحقوقي (كمحاربة العنف ضد النساء والمطالبة بالحقوق السياسية لهن).
وتوصي باحثة الحركة النسائية بضرورة إعادة النظر في استراتيجياتها، آخذةً في الاعتبار أن الحركة النسوية الإسلامية تتمتع بامتداد واسع داخل المجتمع، وأن جزءًا هامًا من نساء المغرب يؤطره هذا الجيل الجديد من الحركة. برأيها، "يجب التفكير في سبل التعاون معها، على الأقل في التعبئة للقضايا التي تشكل نقطة التقاء، سعيًا لتحقيق مزيد من المكاسب وتوسيع دائرة الحلفاء".
كما أصبح من الضروري على الحركة النسوية الانفتاح على الطاقات الشابة وتجديد قيادتها، وتبني التوجهات الجديدة للنضال النسائي في المغرب التي تسعى للنضال من أجل الديمقراطية وتحسين الأوضاع الاقتصادية إلى جانب المساواة الجندرية. هذا ما سيمكنها من كسب رهان تعبئة المجتمع والنهوض بثقافة المساواة وتأصيلها لدى شرائح واسعة.
فالقائدات النسويات الحاليات، حسب المناضلة النسوية خديجة الرياضي، "كن شابات لما أسسن حركتهن عبر مواجهة التحديات التي لم تكن هينة، وأن الشباب اليوم سيعرف كيف يجدد الحركة ويعيد التفكير في التوجه النسائي باستثمار الجهود والمكتسبات المحققة22 ".
الحركة مطالبة أيضًا بتجاوز موقف المتفرج بخصوص العنف والسلطوية الممارسة على المعتقلات السياسيات ونساء عائلات المعتقلين والنساء اللواتي تستغلهن السلطة للإيقاع بمعارضيها، هن الأخريات نساء يجب أن يتمتعن بعدالة اجتماعية وقانونية ومساواة وعلى الحركة تبني قضاياهن، كما تفعل بعض الإطارات الحقوقية والتيارات الإسلامية.
- 1البوحسيني، لطيفة. "مغربيات بين النضال من أجل المساواة والفعل في سيرورة الانتقال الديمقراطي". الحراك النسائي المغاربي: مؤلف جماعي، 2021، ص 38.
- 2تأسست الجمعية سنة 1947 وكانت تابعة لـ"حزب الشورى والاستقلال"، كانت تطالب تعليم الفتيات، إلغاء تعدد الزوجات، رفع سن الزواج... ومن مكتسباتها التقبل التدريجي لولوج النساء للمدارس.
- 3"حزب التقدم والاشتراكية"، انبثقت منه "الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب" في منتصف الثمانينيات، "منظمة العمل الديموقراطي الشعبي"، "اتحاد العمل النسائي"، "حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي"، "الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة"...
- 4"حزب العدالة والتنمية" و"جماعة العدل والإحسان".
- 5قتل طحنًا في شاحنة للنفايات بعدما اعترض على مصادرة الشرطة لسلعته من الأسماك.
- 6شاركت نساء الريف أيضًا في الاحتجاجات صحبة الرجال، ونظمن مسيرة نسائية خاصة في الثامن من آذار/ مارس 2017.
- 7ضمن هؤلاء الناشطات نوال بنعيسى لاجئة سياسية حاليًا بهولندا، وكريمة محاول هربت في قارب بحري إلى الديار الإسبانية، وغيرهن من المناضلات وزوجات المعتقلين.
- 8المغرب: مراسلون بلا حدود توجه نداء عاجلا إلى الأمم المتحدة لطلب إدانة توظيف تُهمة الإغتصاب ضد الصحافيين - 2023
https://shorturl.at/ihTUS - 9الأمم المتحدة، أمنستي، مراسلون بلا حدود، والبرلمان الأوروبي، وغيرها من المؤسسات والمنظمات غير الحكومية.
- 10أخذ من تصريح لسعاد البراهمة محامية معتقلي حراك الريف، والمعتقلة السابقة سعيدة العلمي، ورئيسة الجمعية المغربية للنساء التقدميات من ندوة مباشرة حول النساء والاعتقال السياسي، على صفحة مغربيات ضد الاعتقال السياسي.
- 11في عام 1977، وهو عام اتسم بتضييق شديد على الحريات واعتقالات شملت فاطمة البيه. قضت خمس سنوات في السجن، وفي عام 2001 أصدرت روايتها "في حديث العتمة" التي تستحضر فيها تجربة الاعتقال القاسية وما تعرضت له هي ورفيقاتها من عذاب وترهيب داخل السجن، حتى أنها جُردت من اسمها وأطلق عليها اسم "رشيد".
- 12تنسيق نسائي يضم مجموعة من الحقوقيات والمناضلات ذات انتماءات مختلفة، تأسس بعد اعتقالات حراك الريف، يندّد بالاعتقالات التعسفية للمناضلين والصحفيين وينادي بالإفراج عنهم.
- 13عانت المعتقلة بعد اعتقالها من انهيار عصبي ونقلت مرارًا إلى المستشفى جراء التعذيب النفسي الذي تعرضت له خلالها نقلها من مدينة الحسيمة إلى الدار البيضاء عبر شاحنة مكبلة اليدين والشتائم والتهديدات التي تعرضت لها خلال الاستنطاق من عناصر الأمن.
- 14صدر عفو ملكي عن مجموعة من معتقلي حراك الريف، الذين كانوا قد طالبوا بالتنمية والعدالة الاجتماعية والكرامة، ووجهت إليهم اتهامات خطيرة لا أساس لها من الصحة. وقد تم إطلاق سراحهم على أساس أنهم لم يرتكبوا جرائم أو أفعالًا جسيمة خلال الأحداث التي شهدتها منطقة الحسيمة، مع الأخذ في الاعتبار ظروفهم العائلية والإنسانية.
- 15تحظى تدوينات الناشطة الحقوقية بالمشاركة على نطاق واسع، تصل المشاركات لما يزيد عن المئات وتلقى تفاعلًا وترحيبًا واسعًا لدى فئة واسعة من مستخدمي الفضاء الافتراضي.
- 16بعد إطلاق سراحهم بعفو ملكي عام 2018، اضطر اثنان من الإخوة الثلاثة، الذين اعتقلوا سابقًا، إلى خوض رحلة هجرة محفوفة بالمخاطر عبر البحر نحو أوروبا بحثًا عن مستقبل أفضل وأكثر أمانًا. انطلقت رحلتهم من سواحل الحسيمة باتجاه إسبانيا، واستمرت لمدة 23 ساعة في قارب صغير مهدد بالغرق بسبب العواصف العاتية. لحسن الحظ، تدخل خفر السواحل الإسباني في الوقت المناسب لإنقاذهم من موت محقق.
- 17أخذ من تصريح لسعاد البراهمة محامية معتقلي حراك الريف.
- 18تم الزج بالصحافية المغربية عفاف برناني قسرًا في قضية الصحافي توفيق بوعشرين، رغم تأكيدها أنها لم تتعرّض لأي اعتداء منه. واقتيدت بالقوة إلى المحكمة وتزوير أقوالها، مما دفعها لرفع شكوى ضد الفرقة الوطنية بتهمة التزوير. وبدلاً من التحقيق في شكواها، تمت متابعتها بتهم البلاغ الكاذب والقذف، وحكم عليها بالسجن 6 أشهر دون الاستماع إلى أقوالها. أجبرت هذه الظروف عفاف على اللجوء إلى الخارج، وتعيش حاليًا في أمريكا حيث تم تعيينها من قبل منظمة العفو الدولية كمنسقة لشبكة العمل في منطقة شمال أفريقيا. وفي 2 تموز/ يوليو، صدر عفو ملكي أسقط التهم الموجهة إليها.
- 19الخليل، رعد عبد الجليل مصطفى، ومجيد، حسام الدين علي. في النظرية السياسية النسوية: البنى الفكرية والاتجاهات المعاصرة. عالم المعرفة، 2022. ص 267.
- 20الرياضي، خديجة. "الحركـة النسائيـة بالمغرب: المسار والآفاق". مجلة الحرية، 2020، ص 14.
- 21بنواكريم، تعيمة. "تأريخ الحركة النسائية المغربية من 1930 إلى 2011". في: الحراك النسائي المغاربي، مؤلف جماعي. 2021. ص 83-84.
- 22الرياضي، خديجة. "الحركـة النسائيـة بالمغرب: المسار والآفاق". مجلة الحرية، 2020، ص 14.
إضافة تعليق جديد