نعيش في زمنٍ قد يحسدنا عليه كُثر. صرنا أكثر قدرةً على البوح في ما كان محظورًا البوح به، والاعتراض بشكلٍ أوضح على أفعالٍ أو كلماتٍ تؤذينا، وطلب الدعم والمساندة النفسية. وهذه أمور تُسجَّل لأجيالٍ ناضلَت في سبيل انتزاع شرعيّةٍ لتجارب ومشاعر أُريد لها أن تيْبسَ وحيدةً في الظلّ، وتُسجَّل للجيل الجديد أيضًا، الذي يسعى من خلال ترسانته التكنولوجية وتعابيره الفريدة إلى فرض الاعتراف بتمايز رؤيته للعالم. وسط كل ذلك، هناك مَن تململَ ممّا بدا له وكأنّه فائض حساسيّة، أو قاموس من الألفاظ الواجب تفاديها، أو سيل غامر من المشاعر والهويّات… فارتبكَ أمام كثرة المصطلحات والشروط، وما يمكن أن نسمّيه "مطالب المراعاة". من ضمن النقاشات التي انبثقَت من هذا السياق، حديثٌ لم تُطوَ صفحاتُه بعد عن استخدامات الـTrigger Warnings أو "إشعارات التحذير" ودوافعها. في ما يلي، لمحة شاملة على خلفية تلك الإشعارات واستخداماتها وما ترويه لنا وعنّا، عن زمننا، وعن وحشته.
النفس المشظّاة
في مقالٍ نُشر حديثًا في صحيفة "الأتلانتيك" الأميركية، أسئلةٌ مهمّةٌ للكاتبة والمحامية جيل فيليبوفيتش (Jill Filipovic) تبحث في مسألة استخدام ما وُجد ليخدمَ هاجس المراعاة، أي إشعارات التحذير، تحديدًا في الولايات المتّحدة الأميركية، والجدوى الفعلية منها بعد تصاعد استخدامها منذ عام 2013 - وهو العام الذي عرفَ نضوجًا للإشكاليّات التي ولّدتْها مواقع التواصل الاجتماعي وطفرة المحتويات - وذلك بدفْعٍ واضحٍ من الحركة النسوية التي بذلَت جهودًا وفيرة للإضاءة على العنف المُمارس ضد النساء، ثم أدركَتْ، لاسيّما المُهتمّات منها بالتدوين الإلكتروني، وجوبَ تحذير المُستخدِمات من محتوياتٍ تتناول أحداثًا شديدة القساوة، أُضيف بعضُها بالفعل إلى قائمة التجارب التي من المحتمل أن تفضي إلى "تروما"، أو صدمة نفسية.
في هذا الإطار، يعنّ سؤالٌ في بال كاتبة المقال، وهو السؤال نفسه تقريبًا الذي شغَلَ عددًا من الكاتبات والناقدات في خلال العقد الماضي، كالأستاذة الجامعية الأميركية والكاتبة النسوية روكسان غاي (Roxane Gay) التي شكّكَت في مغزى استخدام التحذيرات في أحد نصوص كتابها "النسوية السيئة"، وعنوان المقال "وهْمُ الأمان/أمانُ الوهم". يبتعد سؤال روكسان غاي عن فكرة الخوف من أن يعزّز استخدام التحذيرات منحًى رقابيًا بعض الشيء، ليقتربَ أكثر من جوهر المسألة التي تُلخَّص بـ "وهم الأمان"، أي استحالة تفادي الألم وذكراه، وخطورة إنكار هذه الحقيقة. ويمكن اختصار السؤال الذي عادَت وطرقَتْ بابَه جيل فيليبوفيتش بعد 11 عامًا على نشر روكسان غاي مقالَها، بالشكل التالي:
هل بإفراطنا في استخدام التحذيرات الخاصة بالمحتويات التي نعدُّها حسّاسةً، في الإعلام أو الأدب أو منصات البثّ أو الجامعات والمدارس، ساهمْنا، من حيث لم نقصد، بتشكّل جيلٍ لا يمتلك الأدوات الكافية لمواجهة الصعاب؟
لا يزال السؤال أعلاه ملحًّا اليوم. لكن تعالوا نطرحه بطريقةٍ مختلفة:
هل أجيالُ اليوم سريعةُ العطب لدرجة أنها صارت تتعامل مع أيّ تحدٍّ لراحتها أو لغتها، أو مع أي نقدٍ لاذع، كاعتداء، وبالتالي ربما، كـ"تروما"؟ هل بإفراطنا، إعلاميًا وتربويًا، في اعتماد "المراعاة" نهجًا، تلك الكلمة التي شكَّلَتْ مطلبًا مُحقًا ولم تزلْ، خلّدْنا الهشاشة أو ربما حتّى امتهنّاها؟ أحَصلَ ذلك لشدّة "فرحتنا" باستعادتنا له، ذاك الحق المُشتهى في الهشاشة والتعبير؟ وهل حين أمسكناه أخيرًا، عانقناه بشدّةٍ كيلا يفلت منّا من جديد، وعلقنا في ذاك العناق الحارّ؟
هل أجيالُ اليوم سريعةُ العطب لدرجة أنها صارت تتعامل مع أيّ تحدٍّ لراحتها أو لغتها، أو مع أي نقدٍ لاذع، كاعتداء، وبالتالي ربما، كـ"تروما"؟
كما دومًا، لا إجابات شافية تُشبعُ ميْلَنا الأزلي إلى قطع الشكّ باليقين. إنما سنسعى في ما يلي إلى فهم كيف يتعامل علمُ النفس اليوم مع وفرة مصادر الأسى والعطب والانكسار، انطلاقًا من مصطلحاتٍ كانت الحركة النسوية هي التي ساهمَت في تشجيع النساء على امتلاكها في الأساس لئلّا تبقى تجاربهنّ واحتياجاتهنّ مدعاةً للسخرية أو الإلغاء أو التتفيه.
نقاطعُ تأمّلات خبيراتٍ في الصحة النفسية والعقلية في لبنان، على درايةٍ بقضايا الحركة النسوية وشجونها، مع انطباعات حقوقياتٍ وكاتباتٍ نسوياتٍ وصحافيّاتٍ عن معانٍ مشحونةٍ بأبعادٍ نفسية وثقافية في آن، مثل "التروما" و"التريغر". ولعلّ المصطلح الأخير اكتسب الشهرة الأوسع، وهو يعني حرفيًا "الزناد"، والمقصود به المُحرّك الذي يوقظ "إبليسَنا" الداخلي، أي ذكرى الصدمة النفسية التي تتأرجح بين الجوف والسطح، تطفو حينًا وتُغرقنا حينًا آخر، جالبةً معها مروحةً واسعةً من المشاعر وردّات الفعل غير المريحة.
احتضان الذات... في غياب نظام الاحتضان
بالنسبة إلى المعالِجة والاختصاصية النفسية، الدكتورة آلاء حجازي، لا ضير اليوم - مع الاعتراف بإيجابيات اكتساب الصحة النفسية أهميةً أكبر وضرورة التمسّك بذلك - من توجيه بعض الانتقادات إلى المنحى القائم على استحضار مصطلحاتٍ محدّدة لوصف حالاتٍ معيّنة تُربك النفس، تزعزعها، تؤلمها وتزعجها، لكنها لا ترقى بالضرورة إلى حالة "تروما".
سوى أن ذلك لم يعُد يمنع الفرد من وضع "ڤيتو" أو شروطٍ على ألفاظٍ تذكّره/ا بما يضايقه/ا، لأنّ المحنة الناشئة عن ذلك، بالنسبة إليه/ا، هي حقًا "تروما". بحسب حجازي، "خلال السنوات الأخيرة، تمّتْ في مكانٍ ما عمليّة سلبٍ للّغة ولإطاراتٍ لطالما استُخدمت في حالاتٍ شديدة، بمعنى أن ما حصل أدّى في مكانٍ إلى أن يصبح ضحايا الاغتصاب وضحايا العنف وضحايا السجون من دون لغةٍ حصريّةٍ أو خاصةٍ بهم/ن بالضرورة".
لا ضير اليوم - مع الاعتراف بإيجابيات اكتساب الصحة النفسية أهميةً أكبر وضرورة التمسّك بذلك - من توجيه بعض الانتقادات إلى المنحى القائم على استحضار مصطلحاتٍ محدّدة لوصف حالاتٍ معيّنة تُربك النفس، تزعزعها، تؤلمها وتزعجها
تُحيل حجازي فكرةَ السلب أو الإفراط في استخدام مفردات مثل "التروما" و"تريغر" بوتيرةٍ قد تفرغهما من معنيَيهما في بعض الأحيان، إلى تصاعد الشقاء كحالةٍ نفسية ومجتمعية نتيجة تهاوي مبدأ الاحتضان وأدواته. فلا يعود مُستغرَبًا في هذا السياق أن تكون إشعارات التحذير واسعة الانتشار على الإنترنت، عرفَتْ نشأتها ونموّها في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية حيث تلاشتْ أنظمة الاحتواء والاحتضان على المستوى المجتمعي في الوقت الذي تضاعفَ فيه تعرّض الفرد لمحتوياتٍ ثقيلةٍ ومُوتِّرة، فصار عليه، إثر هذه التحوّلات، تحمّل كل ذلك لوحده، من وراء شاشته الصغيرة.
يمكن القول إذًا إنّ "التريغر وورنينغز" التي كانت برزَت نتيجة إرادةٍ وإدراكٍ نسويَّين مُحقَّين لوجوب حماية بعض القارئات من ذكرياتٍ وصورٍ لن يكنّ بالضرورة جاهزات لهضمها لحظةَ تلقّي المادّة اللّعينة صدفةً خلال رحلة تحريك الإبهام نحو الأسفل، هي أيضًا، وبالقدر ذاته، نتاجُ اضمحلال بنى الاحتضان على مستوى السياسات الاجتماعية والاقتصادية العامة، وكذلك العلاقات والروابط الشخصية التي كانت لتخفّف عن الفرد حملَه ووطأة جرحه عليه.
هي ثقافة الاحتضان، أو الـ holding كما تسمّيها حجازي، التي صارت ضعيفةً اليوم بموازاة تداعي الأسُس الاجتماعية العادلة والبُنى التي نحتاجها لعيش حياة كريمة؛ وقد يكون العاملان ساهما معًا في الإكثار من اللجوء إلى طلبات التحذير والمراعاة الفرديّة. وفي هذا الإطار، تُذكّرنا حجازي بأنه "ومن أجل أن تتمكّني من معالجة جرح أو صدمة معيّنة، أنتِ بحاجة إلى عقل وجسم وجهاز ونفس شخصٍ آخر ينضم إلى رحلتك ويحمل معكِ، فلا تعود مسؤولية تجاوز المسارات الغامرة مسؤوليتك وحدكِ، ويصبح الحدث الموجع أقل افتعالًا للصدمة وأعراضها. بمعنى آخر، لا يعود الأمر واقعًا بثقله على الفرد وحده ومنوطًا بصفاته، فإمّا أن يكون هشًّا vulnerable (ويتدهور) أو أن يكون مرنًا resilient (ويقاوم)".
ما نفع التحذير إذًا؟ وماذا عن سياقاتنا؟
ما سبق شرحه قد يفسّر إلى حدٍّ ما خلفية نشأة اقتراحات بسيطة لحلّ مشكلات بنيويّة عميقة وأزمات الأنظمة الوحشيّة. وهي اقتراحات تُحاكي في مجملها كيانَ الفرد الذي صيّره مجتمعُ اليوم كائنًا شبهَ وحيدٍ في وجه آلةٍ من العنف تقابلها آلةٌ أخرى تعكس أحداثَها اليوميّة وتُصوّر فظائعَها بلا هوادة.
أثبتَت دراساتٌ كثيرةٌ (12 دراسة جديّة على الأقلّ حتى عام 2021)، أنها لم تُجدِ نفعها، إذ تبيَّن أنها قادرة - في حالاتٍ معيّنة - على مفاقمة القلق الذي كانت وعدَتْنا بالتخفيف من حدّته، عن طريق إيقاظ خوفنا الدفين
هذه الوصفات السريعة، مثل وضع إشارات "التريغر وورنينغ" حيثما دعت الحاجة والتي نُصِحَ باعتمادها في بعض الصفوف الجامعية والمواقع الإلكترونية والإعلامية، بالدرجة الأولى لحماية الأشخاص الذين يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة أو PTSD، أثبتَت دراساتٌ كثيرةٌ (12 دراسة جديّة على الأقلّ حتى عام 2021)، أنها لم تُجدِ نفعها، إذ تبيَّن أنها قادرة - في حالاتٍ معيّنة - على مفاقمة القلق الذي كانت وعدَتْنا بالتخفيف من حدّته، عن طريق إيقاظ خوفنا الدفين الذي يضع أجسامَنا في حالة ترقّبٍ واستنفارٍ فورَ قراءة كلمة "تحذير" مثلًا. ويعود ذلك أيضًا إلى عجز التحذيرات عن تغطية حساسيّات جميع الأفراد وخصوصيّاتهم/ن، ومخاطبة كلّ الأحداث أو الصور أو الكلمات التي يمكن أن تؤثّر في كلّ فردٍ منهم/ن، واختلافها من شخصٍ لآخر.
مع ذلك، هناك مَن لا يزال يتمسّك بإشعارات التحذير لجملةٍ من الأسباب، يتعلّق أبرزها بشعور جهاتٍ ناشرة وأكاديمية وحقوقية بالمسؤولية تجاه الأفراد الأكثر هشاشةً، والإيمان أيضًا بوجوب ترك الحرية والخيار للأشخاص، لاسيّما الناجيات والمعرّضات لاضطراب ما بعد الصدمة، وكذلك ببعض فوائد إشعارات التحذير التي "ليس الهدف منها بناء جدران تُبقي المعلومات المؤذية خارجًا، إنما المساعدة في عملية تلقّي المواد المؤلمة على المستوى العاطفي"، كما تشرح الكاتبة الأميركية الشابة ليزا ماكدونالد (Lisa McDonald) في نصٍّ تدحض فيه رؤية روكسان غاي.
تلتقي مديرة منظمة "هيومينا"، الناشطة النسوية سارة شيخ علي، مع المدافعات عن إشعارات التحذير في بعض النقاط، غير أنها تصارحنا بأنها لا تزال "حائرة" في شأنها. وعن ذلك تشرح: "أقلقُ من أن تكون سياسة اعتماد الإشعارات تكبّل قدرتي، كأكاديمية، على إيصال الحقائق والمعلومات كما يجب، والتوصّل إلى استنتاجات دقيقة. فأراني أتأرجح بين قطبَين: كأكاديمية، أرى سلبيات فرض تلك الإشعارات التي يمكن أن يتطوّر اعتمادها إلى شكلٍ من أشكال الرقابة، لكنني كامرأة ناجية من أشكال عنفٍ كثيرة، لا يمكنني أن أنكر أنني، في بعض الأحيان، أنا فعلًا لستُ جاهزة لتلقّي خبر معيّن، وبالتالي يمكن هنا أن يكون التحذير مفيدًا لي".
"كنتُ أشاهد حلقة عن سجن تدمر"، تخبرنا الناشطة والباحثة ساندريلا عازار، استهلَّها مقدّمُها "جهبذ" بالقول إن "هذه الحلقة قد تكون قاسية بالنسبة إلى البعض، فوجب التنبيه". برأي عازار، كان هذا التصريح مفيدًا، وأشعَرَها بشيء من الارتياح لأنه حصّنها، ولو قليلًا، ممّا سيأتي. صحيحٌ أن المحتوى سيظلّ قاسيًا في مطلق الأحوال، لكنه "يحضّركِ نفسيًا ويعطيكِ خيارًا ويحترم خصوصيّتك".
كذلك الأمر بالنسبة إلى المضامين المتعلّقة بتفجير مرفأ بيروت يوم 4 آب 2020 الذي عايشَته الناشطة بنفسها: "لا يمكنني ألا أشاهد وأتابع المعلومات، لذلك، من المهم أن أعلم ما ينتظرني وألا تنفجر قنبلة في وجهي مثلًا... وهذا لا يعني أننا نغالي في حساسيّتنا، لاسيما أننا نطلب هذه الإشعارات من منصّاتٍ إعلامية، لا من أفراد".
في ما يتعلّق بأخبار 4 آب، يُلاحَظ أن عددًا محدودًا من المنصّات في لبنان كانت تحذّر متابعيها من قساوة بعض المشاهد، لكن هي نفسها لم تعمد إلى التنبيه من محتوياتٍ تتناول تعنيف أطفال مثلًا، وإرغامهم على ابتلاع الأكل وإهانتهم، كما حصل في حضانةٍ في منطقة "الجديدة" اللبنانية، أو من محتوياتٍ أخرى تتناول جريمة قتل رجلٍ لزوجته طعنًا أمام أولادهما، ثم دهسًا بسيّارته ذهابًا وإيابًا ليتأكّد من أنها تساوَت والأرض.
لمحة على العالم: الإحالة بدلًا من التحذير
في آب/أغسطس 2023، نشرَت شبكة "بي بي سي" تغطياتٍ مُصوَّرة لقضية الممرّضة لوسي ليتبي التي قتلَت سبعة رضّعٍ بأساليب يعجز الرأس عن تخيّلها حتى، واضطرّت محطة "بي بي سي" إلى استخدام إشعارات التحذير في واحدٍ من أصل ستّة فيديوهاتٍ قصيرة نشرَتها على منصّتها في خلال أسبوع 14 آب، لما تضمّنه ذلك الفيديو من تفاصيل عن كيفية اقتراف ليتبي جرائمَها، علمًا أن الفيديوهات الخمسة المتبقية كانت أيضًا قاسيةً وأظهرَت وجهَ المحكوم عليها. الجدير بالذكر هنا أن "بي بي سي" لم تعتمد في تحذيرها كلمة "تريغر" - توأم كلمة تروما - بل فقط "وورنينع"، أو "تنبيه". فاليوم، ما يمكنُ أن يفيد الأشخاص وسط عالمٍ يعجّ بالفظائع، هو توصيف المادة الحسّاسة بكلماتٍ واضحة لا تحمل أوزارًا أو أحكامًا على غرار "تريغر"، و"احذروا"، و"مادة قد يجدها البعض حسّاسة" وسواها من التعابير المشحونة التي يُحتمَل أن تُفاقم القلق بدلًا من أن تقلّصه، كما تؤكّد الخبيرة في الصحة النفسية، فانيسا فان فليت، في لقاءٍ مع جيم.
من هنا، ربما، جاء قرار كبرى المؤسّسات الإعلامية بالتوقف عن استخدام كلماتٍ ثقيلة مثل "تريغر" أو "حسّاسة"، والاعتماد أكثر على مقاربة "التوجيه المسؤول"، أي الاعتراف بقساوة مادّةٍ معيّنةٍ عبر إحالة الفرد المتلقّي في ختامها إلى موارد وجِهات اتّصال يمكن أن تفيده. ولعلّ منظمة "بي بي سي-أكشن لاين" المتخصّصة في تقديم الموارد للمتأثّرات والمتأثّرين بالأخبار القاسية أكثر مَن يُجسّد هذا المنحى ويستثمر فيه.
عودٌ على بدء: تروما... ماذا يعني ذلك؟
المثير للاهتمام في ما تقوله الخبيرة النفسية، فانيسا فان فليت، عن "التروما" والشرارات التي تشعل ذكراها، هو أنّ ما يشكّل لدى فردٍ معيّن صدمةً نفسيةً قد لا يشكّل لدى آخر أيّ صدمة، فيختبره هذا الآخر كتجربةٍ صعبة وموجعة، أو كمجرّد محنةٍ وستمُرّ. "حتى العنف الجنسي، ليس محتّمًا تسبّبُه بصدمةٍ نفسية لدى الناجيات والناجين منه. كذلك التفجيرات الأمنية، ثمّة مَن سيتعامل معها، على قسوتها، بطريقةٍ مرنة، أو يقفز فوقها، وثمّة مَن ستُشكّل له الأحداث نفسها تروما".
الـ"تروما"، بحسب فان فليت، ليسَت الحدث المؤلم بحدّ ذاته إذًا، إنما هي تلك "البصمة في الذات" الناتجة عن "طريقة اختبارنا للحدث والأحمال التي تكبّدَتها النفس من جرائه، لا الفعل نفسه. وسيزداد احتمال المعاناة من هذه البصمة حين لا تتوفّر لنا السُبل لمشاركة ما حدث، والحصول على الدعم، والشعور بأنّ ما اختبرناه من أحاسيس شرعيّ ومُعترف بوقعِه علينا".
الـ"تروما"، بحسب فان فليت، ليسَت الحدث المؤلم بحدّ ذاته إذًا، إنما هي تلك "البصمة في الذات" الناتجة عن "طريقة اختبارنا للحدث والأحمال التي تكبّدَتها النفس من جرائه، لا الفعل نفسه
انطلاقًا من هذه الزاوية بالذات، سيصعب على أيّ مساحة إعلامية أو تعليمية أو حقوقية افتراض أنّ هناك ثيماتٍ محدّدة وثابتة على لائحة إشعارات التحذير أو القضايا المُصنّفة "حسّاسة جدًا" التي من المرجّح أن يرافقها "تريغر" معيّن، علمًا أنّ هناك عددًا من المواضيع المُتّفَق على احتماليّة تسبّبها بإيقاظ ذكرياتٍ أليمة وأعراض ما بعد الصدمة، على رأسها: الاكتئاب، والانتحار، والاغتصاب، وأعمال العنف المدفوعة بالعنصريّة وكراهية أفراد الميم-عين، والحروب، وممارسات التعذيب، وتعنيف الأطفال واضطرابات التغذية. لكنّ اللائحة طويلة وستطول، بقدر ما تطول لائحة المظالم التي يعجّ بها العالم، وبقدر ما تطول لائحة التجارب التي يختبرها الأفراد، كلٌّ تبعًا لسياقه/ا وخلفيّته/ا.
المراعاة: من أسلوبٍ إلى نهج
على ضوء كلّ ما سبق، هل يمكننا فعلًا الاستمرار في تحميل أنفسنا مسؤولية الالتزام بنوعٍ من "المراعاة المستدامة"، مع العلم أننا سنخفق لا محالة؟ وفي الوقت نفسه، كيف نستمرّ في التفكير بما سيساعدنا على التخفيف عن أنفسنا وعن الأخريات والآخرين؟ كيف نحلم بـ"زمنٍ ألطف" ونعمّره بكلماتنا ومحتوياتنا وتبادلاتنا من دون أن نغرق في فخّ إنتاج دياناتٍ جديدة لها موسوعتها الخاصة من الخطايا ومشاعر الذنب؟
ترى كالين نصرالله، وهي كاتبة ولغوية ومترجمة نسوية، أنّنا بالفعل نعيش في عصرٍ يحصر عمليّة الحفاظ على الصحة النفسية والعقلية بالفرد الواحد بشكلٍ شبه استثنائي. وفي هذا الرأي صدًى لِما تلاحظه الدكتورة حجازي أيضًا من تفاقم الوحدة وتقلّص الاحتضان في ظلّ تهاوي بُنى الحماية.
تقول نصرلله، "أشعرُ أننا نسخّف كل شيء بإعطاء الأولوية لمفهوم الصحّة العقلية بشقّه المتمحور حول الفرد الواحد القابع خلف شاشته، وكأنه موجود لوحده في هذا العالم، في حين أننا كائنات تعيش ضمن محيط اجتماعي بشري، مهما أخبرَتنا هواتفُنا عكس ذلك. فالقوّة الحقيقية نستنبطها من كوننا نعيش ضمن مجتمع، لا من واقعٍ مُفرِطٍ في نزعته الفرديّة".
السبب في إهمالنا النقاش في التنبيهات وإشعارات التحذير، فقد يعود في جزءٍ منه إلى كون مجتمعاتنا تضنّ حتى باعترافٍ بالممارسات والسياسات المُسيئة إلى الكثير من الأشخاص، وتجنح نحو التقليل من أهمية الآثار والصدمات النفسية
بالنسبة إلى نصرالله، الارتكاز إلى التنبيهات في فضاءاتٍ مختلفة، وتحديدًا في وسائل الإعلام، ممارسةٌ غير مجدية فعليًّا، ذلك أن الفرد هو الخاسر الأكبر في مجمل الحالات. "ففي الحالة الأولى، أي إذا ما قرّر متابعة الخبر "الخطِر" على صحته النفسية، هو خاسرٌ لأن الإشعار فعل فعلته وحرّك قلقه الدفين، وهو اطّلع أصلًا على مضمون الخبر المؤذي. وفي الحالة الثانية، أي إذا ما قرّر التفادي والإشاحة بنظره عن المحتوى، فهو خاسرٌ لكون المعلومة، ببساطة، فاتته. وكم من قصّةٍ سيتطلّب تفويتها ليتمكّن من حماية نفسه وتحصينها ضد ردّات فعلٍ جسمانيةٍ وعاطفيةٍ غير مستحبّة؟"
حتّى الآن إذًا، طغيانٌ للمنحى المُشكِّك بفاعليّة التحذيرات من كلماتٍ معيّنة أو قصصٍ مُحفِّزة لآثار ما بعض الصدمة، من دون نسف أهميّتها تمامًا، وريبةٌ من تعميم استخدامها بما يستجيب لأوضاع كل فردٍ أو قضاياه/ا أو طموحه/ا.
صحيحٌ أننا في معظم أنحاء العالم العربي والمغربي ربما تداولنا أكثر في مسألة "الصوابية السياسية"، بعدما لاقت رواجًا في الغرب، وفي ضوء تأثير ثقافة الصحوة أو اليقظة في عملنا السياسي وعلاقاتنا الاجتماعية الضيّقة؛ بيد أننا، إلى اليوم، لم نناقش "التريغر وورنينغ" بشكلٍ جدّي، ولا حتّى الحاجة إلى المراعاة والاحتضان كما ينبغي، على الرغم من انتشار القصص الأليمة والمصطلحات العدائية ضد الكثيرات والكثيرين منّا. والحملةُ الهمجيّة والشرسة الأخيرة ضد أفراد الميم-عين في لبنان خير مثالٍ على ذلك، مع ما روّجَت له من توصيفاتٍ شرّيرةٍ وغير واقعيةٍ لأطيافٍ من البشر، مثل "الشذوذ" و"الانحراف" و"البيدوفيليا".
أما السبب في إهمالنا النقاش في التنبيهات وإشعارات التحذير، فقد يعود في جزءٍ منه إلى كون مجتمعاتنا تضنّ حتى باعترافٍ بالممارسات والسياسات المُسيئة إلى الكثير من الأشخاص، وتجنح نحو التقليل من أهمية الآثار والصدمات النفسية لكثرة انتشار الأفعال التمييزية والعنفية ضد فئات مجتمعية كثيرة، والتطبيع العام معها. وقد يعود السبب في جزءٍ آخر منه، إلى اتّخاذ بعض المنصّات الإعلامية "الشابّة" والمستقلّة -لا وسائل الإعلام التقليدية التي قلّما تعير تلك الأسئلة أي أهميةٍ لا بل تتسابق على تصوير الأشلاء- قرارًا بالاستثمار في تقديم تغطيةٍ بديلة قائمةٍ على لغةٍ تتحدّى المصطلحات التي تزدري هويّاتٍ عرقيةً معيّنةً أو أخرى جندرية غير نمطية، عوضًا عن ملء رؤوس أخبارها ومحتوياتها بالتنبيهات التي لن تنتهي.
اللّغة ووسائل الإعلام
بحسب دراسةٍ أعدّتها كالين نصرالله تتبّعت فيها الأخبار المتعلّقة بالانتهاكات الذكورية، لم يُرصد على صفحات موقع الإعلام البديل "ميغافون" أيّ لجوءٍ إلى "التريغر وورنينغز" في سياق الجرائم ضد النساء. لكن في الأشهر الأخيرة، لمَسنا لجوءًا متزايدًا إليها (هنا وهنا مثلًا) ضمن أخبارٍ تغطّي ممارسات تعذيب وضحايا الكوارث البيئية.
عن مسألة استخدام إشعارت التحذير، يخبرنا المؤسِّس المشارِك لمنصّة "ميغافون"، الصحافي جان قصير، أن الدافع الأساسي خلف قرار اعتماد تلك الإشعارات التي انطلق النقاش بشأنها في أعقاب انتفاضة 17 تشرين وتفجير 4 آب وهو نقاش مفتوح، كان "الحرص على ألّا تباغت الناسَ صورةٌ أو موضوعٌ حسّاسٌ لا يرغبون بالسماع عنه فيما هم "سكرولينغ على الفيد" (يتصفّحون مواقع التواصل). ويتابع قصير، "هناك عامل إضافي خلف هذا الاستخدام يتعلّق بالخوارزميات، لاسيّما أن بعض المحتويات التي تُعدّ عنيفة يمكن أن تُحذَف إن لم تُرفق بتحذير".
أمّا موقعا "درج" ورصيف22 اللذان رصدناهما أيضًا لمعرفة ما إذا كانا يستخدمان إشعارات التحذير، فلم يتضمّنا أي إشعارات، لا على الموقع الإلكتروني ولا على صفحات التواصل الاجتماعي.
إذا كان تغيير الواقع وطبيعة الأخبار نفسها التي نعيشها ونتناقلها مستحيلًا، يجب بالحدّ الأدنى التفكير باللغة والكلمات التي نستخدمها وما تضمره من معانٍ، أو حتّى في طريقة استعمالنا لصيَغ المعلوم والمجهول
في هذا الإطار، تخبرنا الصحافية رشا حلوة، رئيسة تحرير رصيف22، أنها لا ترى في إشعارات التحذير ضررًا، كما أنها لا ترى فيها واجبًا يجب الالتزام به وفق قواعد صارمة، ذلك أنّ لكلّ قصةٍ أو مادّةٍ حيثياتها ومتطلّباتها. وتقول حلوة: "الإشعارات مهمّة أحيانًا، ولا ضير من استخدامها، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بقصص الانتحار والاكتئاب والاعتداءات العنصرية والذكورية؛ لكنّ الأهم هو التفكير بالمحتوى ذاته: هل يحفّز على الخوف والأذية؟"
وتردف، "ما هو الحدّ؟ ألا يمكن أن تُفسَّر جميع المحتويات على أنها مؤذية بشكلٍ أو بآخر؟ أين الفصل في ذلك؟".
تشرح لنا رشا حلوة أنّ فريق رصيف22 اختار عدمَ التنصّل من مسؤولية ما قد تحرّكه نصوصٌ وقصصٌ معيّنةٌ من مشاعر وأفكار مؤلمة، فقرّر اعتماد مبدأ "التوجيه المسؤول"، أي توجيه القارئات والقراء إلى جهات اتّصالٍ موثوقة (مثال على ذلك في أسفل هذا المقال)، وضمان أن تكون المعالَجة الإعلامية منطلقةً من أصوات الناس، وناقدةً الهيكليات الأبوية، ومتنبّهةً إلى اللغة المستخدمة لأنّ "لكلّ كلمة وزنها"، كما تؤكّد حلوة.
وتتابع: "علينا التفكير بالمعاني بين السطور والكلمات التي نستعملها. فمثلًا، اعتدنا استخدام تعابير متداولة كـ"الأيام السوداوية" للدلالة إلى الأيام الشاقة، لكن هل فكّرنا بوقع هذا التوصيف على صاحبات البشرة السوداء، لاسيّما في مجتمعاتنا العنصرية؟".
هي حتمًا اللّغة، قبل الإشعارات والتنبيهات، جوهر الإشكالية ومفتاح أيّ أفقٍ جديد.
"إذا كان تغيير الواقع وطبيعة الأخبار نفسها التي نعيشها ونتناقلها مستحيلًا، يجب بالحدّ الأدنى التفكير باللغة والكلمات التي نستخدمها وما تضمره من معانٍ، أو حتّى في طريقة استعمالنا لصيَغ المعلوم والمجهول: حتى اليوم، المرأة هي دومًا الضحية المعلومة، والرجل المؤذي هو دومًا المرتكب المجهول... أنا فعلًا مؤمنة بأن للّغة سلطة كبيرة علينا"، تقول كالين نصرالله.
ليس السؤال عن "التريغر وورنينغز" بهذه البساطة إذًا. خلف تلك العبارة الرائجة التي تُطالعنا كل يوم، نحن نُسائل طبيعة مجتمعاتٍ بأكملها: مجتمعٌ محقٌّ في المطالبة باحترام مشاعره ومساحته وخصوصيته، وثانٍ مغالٍ في فرض الحذر والمراعاة نهجًا مُفصَّلًا على قياسه، وثالثٌ لا يعنيه كلّ ذلك لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ لأنه لا يرى في استهداف الناس أيّ مشكلة أصلًا… فمِن أين نبدأ؟
إضافة تعليق جديد