لطالما كان وصف "مش راجل" مسبّة قاسية من شأنها قلب حالتي النفسية إلى الأسوأ لأكثر من أسبوع خلال فترة مراهقتي. فأن تكون "مش راجل" يعني أن تكون كائنًا أقلّ درجة من الآخرين، وهو سلاح يستعمله الصغار قدوة بالراشدين في ليبيا للحطّّ من قيمة أحدهم.
يتبع تلك المسبّة أمرٌ أخطر، هو مخاطبة أحدهم أو إحداهنّ بضميرٍ لا يتوافق مع جندر الشخص المُخاطب، من دون موافقته/ا، بغية إيذائه/ا طبعًا. أذكر أنّ إحدى المعلّمات كانت تفعل ذلك مع الطلبة الذكور كنوعٍ من العقاب، وسرعان ما بدأ الطلبة يقلّدونها فينادون بعضهم البعض بضمير المؤنّث.
والأسوأ، أنّ الطالبات المراهقات اعتَدن مخاطبة الطلبة الذكور بضمير المؤنث بهدف احتقارهم، ما يعني ضمنيًا احتقار ضميرهنّ وجندرهنّ. تستبطن العديد من النساء الليبيّات المعايير الذكورية ويُدافعن عن تصوّراتٍ تنتقص من قيمتهن وتحدّ من إمكانياتهنّ كمواطناتٍ كاملات الأهلية، من دون النظر لتاريخ وثقافة المجتمع التي أنتجت حاكماتٍ وفقيهاتٍ ومفكّراتٍ حطّمن النمطيّات السائدة، مثل الملكة برنيتشي والكاتبة سعاد سالم والفقيهة أم جلدين.
من الشائع في ليبيا مخاطبة الضباطُ الجنودَ بصيغة المؤنث ونعتهم بأسماء أنثويةٍ بغية كسر كبريائهم وتربيتهم على طاعة التراتبية الذكورية
استمر استعمال هذا السلاح في جيلنا، ومع الوقت، صار واضحًا أنّ حرب الضمائر هذه لم تولد معنا، إنما ورثناها من زمنٍ ماض. وثمة قصة شعبية تفتقر للدقة التاريخية، تحكي عن رجال قبيلةٍ في شرق ليبيا اُرغموا على ارتداء أزياء النساء وخاطبهم الناس بضمير المؤنث إذلالًا لهم بعدما هُزموا في نزاعٍ مع أهالي منطقة بنغازي.
ومن الشائع في ليبيا مخاطبة الضباطُ الجنودَ بصيغة المؤنث ونعتهم بأسماء أنثويةٍ بغية كسر كبريائهم وتربيتهم على طاعة التراتبية الذكورية. المجتمع الليبيّ مجتمعٌ تمّت عسكرته بسبب الحروب الأهلية والنضال ضدّ الاحتلال، فالحرب تُربّينا على الفحولة والصلابة والبأس. حتى الوطن نفسه، دائمًا ما يُصوّر أمًّا مُستكينةً ومحتاجةً دائمًا وأبدًا إلى سواعد الرّجال الأقوياء، وهذا "مظهر من مظاهر المنظومة الذكورية التي تربط الأنوثة بالضعف كما تحدّد وظائفها بالخصوبة، فهي الأرض التي تلدُ الرجال الحماة".1
ظهر في عهد الجماهيرية العسكري بعد حرب التشاد قول: "الرجالة ماتوا في التشاد"، بمعنى أنّ الرجال الأحياء ليسوا رجالًا بالفعل، لأنهم لم يموتوا في تلك الحرب. كما ظهر في ثورة 2011 قولٌ آخر يراهن بأنه "لو منوضوش على معمّر توا... نشروا
يُخبرنا التاريخ الشفويّ أنّ بعض المناطق لا يُمانع أهاليها اللّعب بالضمائر وتغييرها من دون أحكامٍ داخل المجموعات الضيّقة
في المقابل، يُخبرنا التاريخ الشفويّ أنّ بعض المناطق لا يُمانع أهاليها اللّعب بالضمائر وتغييرها من دون أحكامٍ داخل المجموعات الضيّقة. وهذه المناطق، مثل طرابلس وبنغازي ودرنة وواحات الجفرة، لم تطلها الحروب الأهليّة وتُعتبر أكثر تمدّنًا من غيرها. وتتكوّن هذه المجموعات الضيّقة أساسًا من الرجال المتقدّمين في السنّ الذين ينعتون بعضهم البعض بصفاتٍ أنثويّة مثل "يا بنات"، "يا صبايا" و
أما الشبّان، فيحاولون كالعادة تقليد الكبار عبر مخاطبة بعضهم البعض بصيَغ المؤنث في السهرات الخاصة وجلسات القهوة، وكنتُ ألاحظ ذلك بين الأصدقاء والمعارف. كما كانوا يسخرون ممّن يزعجه هذا النوع من المزاح المرِح الذي نسمّيه "التشفيط" أو "البصارة". وأغلب الظن أن هذه العادة ظهرَت كردّ فعلٍ نفسيةٍ تجاه الإفراط في تحقير الرجال عبر تشبيههم بالنساء، عن طريق قلب المسبّة إلى تودّد.
وقلب الضّد للضّد بقصد تعظيمه أو إبعاد الشّر وجلب الحظّ هو عادةٌ ليبيةٌ قديمةٌ نستخدمها في كلامنا اليومي، كأن ننادي الأعمى "بصيرًا"، والفحم "بياضًا" والجوّ الحارّ "نوءًا". كذا هي الحال في تأنيث جمع المذكر، فجَمع كلمة رجل في لهجتنا "رجّالة"، ونجمع الذكر فنقول "ذكورة"، والولد (أي الابن) "وليدات". ومن المحتمل أن ذلك يرجع إلى قواعد اللّغة الأمازيغية المرنة في علاقتها بالتذكير والتأنيث، والتي تأثّرت بها العاميّة الليبية في غرب ليبيا وبعض مناطق الجنوب. مثلًا، في تلك المناطق، يُدعى الزعيم وشيخ القبيلة بلفظٍ مؤنّث الأصل هو "آمغار" ⴰⵎⵖⴰⵔ، المشتقّ من لفظة "تامغارت" ⵜⴰⵎⵖⴰⵔⵜ، التي تعني الشرف والنبل، بحسب ما أفادتنا الناشطة والإعلاميّة الأمازيغيّة سناء المنصوري.
تُعتبر المجموعات الكويريّة الأكثر مرونةً على الإطلاق في استخدام الضمائر
وإلى جانب محاولاتنا تعديل لهجتنا المحكيّة كي تستوعب التنويعات الجندريّة، كالتشديد على نون النسوة في جمع المؤنّث، يجدر بنا الالتفات إلى التنوّع الجندري الكبير في اللغات الشائعة الأخرى في المجتمع، كالأمازيغية والتباوية، وهو تنوعٌ من شأنه إثراء الخطاب الجندري في البلاد.
تُعتبر المجموعات الكويريّة الأكثر مرونةً على الإطلاق في استخدام الضمائر. فقد شهدتُ منذ صغري عالمًا آخر في ليبيا يتبنى فيه الأشخاص أسماء وضمائر لا تتوافق بالضرورة مع جندرهم/ن، ولا يوافق عليها المجتمع أصلًا. ضمن هوامش الحرية هذه، يمكن للمرء أن يُدعى بضمائر مذكّرةٍ ومؤنّثةٍ في مواقف مختلفةٍ من دون أن يمانع أحدٌ ذلك. كانت تلك الضمائر المرِنة وسيلة للتواصل الآمن. أمّا المبدعون والمبدعات في ليبيا - ونتحدّث هنا عن المجموعات المسرحيّة والفِرَق الموسيقيّة والفنّانات الشعبيّات (الزمزامات) - فيحاولون ضمن دوائرهم/ن الضيّقة خرقَ قواعد المجتمع السائدة بشأن الجندر والضمائر والأدوار الاجتماعية.
حرب الضمائر مستمرةٌ بأشكالٍ عديدة، كان أسوأها ما دار في داخلي منذ سنوات، لاسيما مع دخول موجات الضمائر الجديدة والحيرة التي اعترَتنا بين ما هو ممنوعٌ في العلن ومسموحٌ بين الأصدقاء والصديقات. مؤخرًا، حين ناداني أحدُ الأصدقاء باسم فتاةٍ وبضميرٍ مؤنث، انتبهتُ إلى أنّ المرونة والتعدّدية الكويرية التي شاهدتها في صغري هي الأنسبُ لي. بدأتُ أخرج - بفضل هذه الكلمات البسيطة - من قفصٍ ضيقٍ يحتوي على معايير رجولةٍ أحادية اللّون إلى مجالٍ يمكّنني من النمو والتطوّر. منذ ذلك الوقت، صرتُ أعتبر نفسي "مش راجل… ومش بس راجل"، أنا أكثر من ذلك!
- 1 مديحة النعاس، "الجندر" بين الحقيقة والخيال، ليبيا المستقبل، 2017.
إضافة تعليق جديد