بالرغم من معرفة ميرهان فؤاد أنّ كثيراتٍ مثلها مررنَ في زواجٍ فاشلٍ في سنّ مبكر، لم يخفّف ذلك من مرارة التجربة.
تربّيتُ في أسرةٍ متوسطة الحال في منطقةٍ ريفيةٍ لا تصادق فيها الفتياتُ الشبانَ أبدًا. فنحن عائلةٌ محافظة، تُزوّج فتياتها زواجَ الصالونات. بدأ الحديث عن الزواج في سنّ التاسعة عشرة حينما كنتُ لا أزال طالبةً في الجامعة. تقدّم لخطبتي شابٌ من أقارب أمي لم أكن رأيته أو عرفته من قبل، فرفضتُ الفكرة من بابها لأسبابٍ عدّة، أوّلها أني لم أُرد الزواج أساسًا، فكلّ تجارب النساء من حولي وأولاهنّ كانت سيئة، لكنهنّ لا يقوين على الطلاق أبدًا، فهو أمرٌ غير وارد، ولم تقدم عليه أيّ امرأةٍ في عائلتنا مهما ساءت حياتها الزوجية. كانت فكرتي عن الزواج سلبيةٌ للغاية؛ لم أُرد أن أقضيَ حياتي في المطبخ أخدم طفلًا ثلاثينيًا يقتل طموحي. أما السبب الثاني، فكان رفضي أن أكون كمثل بضاعةٍ يأتي شخصٌ غريبٌ للتفرّج عليها، فإما تثير إعجابه أو لا. تعجبَت أمي للغاية وسألتني ما إذا كنتُ مرتبطةً بشخصٍ ما، فأجبتها بالنفي. ثارت وقالت لي إن كل فتيات العائلة تزوّجن بتلك الطريقة، واتهمتني بالتمرّد والعصيان. ساءت علاقتنا لسنواتٍ أرهقتني نفسيًا للغاية. كنت مطالبةً دائمًا بأن أبرّر لماذا لا أريد الزواج برجالٍ لا أعرفهم ولا تربطني بأيٍّ منهم علاقة حب.
ثم جاءت ثورة 25 يناير وغيّرَت كل شيء. خرجتُ من الشرنقة التي كنت أعيش فيها. خلعتُ الحجاب وتعرّفتُ إلى بعض الشبّان الثوريّين الذين جمعَتني بهم الأفكارُ الثورية. حتى تلك اللحظة، لم أكن قد ارتبطتُ بأحدٍ على الإطلاق. صارحني أحد الأصدقاء بحبّه، فأخبرته بأنّي لا أفكر في الارتباط بسبب التجارب السيئة للنساء من حولي. "تستطيع القول إني 'معقدة' من الزواج"، قلتُ له. حاصرني ذلك الشخص بحبّه المزعوم، وكانت الثورة في أوجها، وجمعتنا معًا فكرةُ تغيير العالم. اتفقنا على الارتباط ثم الزواج. أخبرتُه برغبتي في أن تكون العصمة في يدي كي نكون متساويَين في كل شيء، فوافق على الفور. لكن عندما بتنا أمام المأذون، انتابه القلقُ وظهرَت علاماتُ وجهه الذكوري.
ومن ضمن أفكارنا الثورية، كنا اتفقنا على الزواج بمالٍ زهيد، وتمّ الأمر بعلم أهلنا الذين وافقوا على مضضٍ على تلك الزيجة الثورية. لكن كما يقول الكاتب أحمد ناجي في روايته "والنمور لحجرتي": "الثوراتُ تفشل، والحبّ يضمحلّ سريعًا".
بعد الزواج، ومن اليوم الأول، ظهر الوجه الآخر من أفكاره الثورية والتقدمية. فذلك الشخصُ الشيوعي لا يتعاون بتاتًا في أعمال المنزل، ويغضب باستمرارٍ لأيّ سبب، ويحاول التحكّم بي وفرض سيطرته عليّ، ويتجسّس على رسائلي ويعزلني عن الناس. ثم بدأَ بالخيانة والضرب والتعنيف من الشهر الأول، كما لم يفُته التلاعب النفسي بي (الجازلايتنج، gaslighting)، فأقنعني مثلًا بأني تعرّضتُ للختان حتى كدتُ أصدق، واتصلتُ بأمي لتؤكد لي أنّي لم أتعرّض لذلك. أصبحتُ مصابةً دومًا بالشك وعدم اليقين بسبب ذلك التلاعب النفسي المستمر.
كنتُ وحيدةً تمامًا بلا أصدقاء، ومضطرةً للدفاع عن خياري؛ فمن غير المقبول - وفق المفهوم السائد - أن أعود إلى بيت أهلي مطلّقةً بعد شهرٍ واحدٍ فقط من الزواج!
كنتُ مصمّمةً على تأجيل الإنجاب لأن شيئًا ما في داخلي أخبرني منذ اليوم الأول أن تلك الزيجة لن تستمر طويلًا. بعد ثمانية أشهرٍ من تحمّل الأمراض الذكورية، والصّبر والإنكار أيضًا، قررتُ الخروج من تلك العلاقة على الفور من دون أن أنظر إلى الوراء. قالت لي أمي مكلومةً: "يعني هتتطلّقي؟!"
بعد الزواج، ومن اليوم الأول، ظهر الوجه الآخر من أفكاره الثورية والتقدمية. فذلك الشخصُ الشيوعي لا يتعاون بتاتًا في أعمال المنزل، ويغضب باستمرارٍ لأيّ سبب، ويحاول التحكّم بي وفرض سيطرته عليّ
أصررتُ إصرارًا رهيبًا على الطلاق. لا أعرف من أين أتتني القوة لأذهب بمفردي إلى المأذون وأخبره أني أريد أن أطلّق نفسي. طالبني بأن أتريّث، قائلًا إنّ النظرة إلى السيدة المطلقة تختلف عن النظرة إلى مَن لم تتزوّج، ونصحني بأداء صلاة العشاء. لكن القطار كان قد فات. قمتُ بتطليق نفسي وحصلتُ على اللّقب.
استقبلَت أمي الخبر بالبكاء، فقد خيبَت ابنتُها الكبرى أملها، وصار أبي يعنّفني لأيّ سببٍ كان. قررتُ أن أترك المنزل لأعيش بمفردي في القاهرة. كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي أشعر فيها بالحرية بحقّ، الحرية التي كلّفتني الكثير. أوهمتُ نفسي بأنّ الطلاق أصبح سهلًا ولم يعُد وصمةً مثل ذي قبل. لكن هل تعرفين معنى أن تكوني امرأةً مطلّقةً في سنّ السادسة والعشرين؟ إنها تجربةٌ سيئةٌ في مقتبل العمر، جعلَتني أخاف الدخول في علاقات. كانت مثل حملٍ ثقيلٍ ينحني ظهري تحته. وبالرغم من معرفتي حينها أنّ كثيراتٍ مثلي مررنَ في زواجٍ فاشلٍ في سنّ مبكر، لم يخفّف ذلك من مرارة التجربة. لكني فهمتُ أيضًا وقتذاك أن جيلنا لا يصبر طويلًا على الأذى.
أحسستُ بأني تسبّبتُ بخيبة أملٍ لأهلي، كما يقول آسر ياسين في فيلم "رسايل البحر": "أبويا في آخر حياته كان بيبصّلي بحزن أوي كإني خيبة أمله في الدنيا".
قبل وفاته، أوصى أبي أمي ألا تخبر أيّ شخصٍ من العائلة بطلاقي، لأنه اعتبر الأمر وصمةً تلاحقه حتى في العالم الآخر. نفّذَت أمي وصيّته وتكتّمت على الأمر، حتى أني لم أحصل على راتبه بعد وفاته لهذا السبب، إلا أنّ العائلة خمّنَت الأمر بعد التلصّص على أخباري.
لكن ماذا بعد الطلاق؟ غالبًا، يستطيع الطرف المُسيء والعنيفُ تجاوز العلاقة سريعًا والاندماج في المجتمع، بل والدخول في علاقةٍ مرةً أخرى. أما الناجية، فتمرّ في مراحل عدّةٍ أوّلها الإنكار، ثم محاولة التعافي من آثار التعنيف النفسي والجسدي، بينما تُرغم على التعامل مع سخافات الأصدقاء والغرباء بصفتها امرأةً مستقلةً ووحيدة. فبعضهم يستغلّ كونك في حالة "ضعفٍ" وتأرجحٍ نفسي ليعرض عليك علاقةً سريعة، كما يحلّ أيضًا الجفافُ العاطفي والوحدة ليُثقلا قلبك. من ناحيةٍ أخرى، يثير الطلاقُ فضول الناس، فيفرض عليكِ في كل مرةٍ أن تقصّي حكايتكِ الحزينة - كما يقول الشاعر أمل دنقل "لم يعُد بجعبتي غير الحكايا السيئة". ويتعجّب البعض من طلاقك في سنٍّ صغيرة. أذكر النظرات غير المريحة التي رمقتني بها موظّفةُ السّجل المدني وأنا أقوم بتغيير بيانات البطاقة الشخصية، كأنّي متهمةٌ دومًا بارتكاب ذنبٍ ما، أو كأنّي انتهيتُ من الأمر برمّته في وقتٍ مبكرٍ جدًا، لذا لا بد لشيءٍ ما أن يذكّرني دائمًا بتلك التجربة الثقيلة!
يتعجّب البعض من طلاقك في سنٍّ صغيرة. أذكر النظرات غير المريحة التي رمقتني بها موظّفةُ السّجل المدني وأنا أقوم بتغيير بيانات البطاقة الشخصية، كأنّي متهمةٌ دومًا بارتكاب ذنبٍ ما
البدء من جديدٍ أمرٌ صعبٌ للغاية، لاسيما وأنتِ تحملين ذكرى سيئةً تثقل كاهلك. كنتُ أخاف التعرّض مرةً أخرى للخيانة أو التعنيف. استغرقني الأمر سنواتٍ كي أستطيع الكلام. كنت أؤنّب نفسي يوميًا على سوء اختياري، وألعق الذكرى والألم. يخبرني أحد الأصدقاء أنّي قويةٌ للغاية لأنّي استطعتُ النجاة من تلك العلاقة وأصررتُ على الطلاق. لكن يبقى جزءٌ مني يرثي لحالي ويتمنى لو لم يحدث كل ذلك من الأساس. استعنتُ بطبيبةٍ نفسيةٍ للتغلب على آثار تلك العلاقة المدمّرة. كانت مشاهد التعنيف تتكرّر يوميًا أمام عينيّ قبل النوم حتى أكاد أصاب بالجنون، لكن أستطيع القول الآن أنّي في منتصف الطريق إلى تجاوزها. قرأتُ عن العلاقات المسيئة وعرفتُ أن ثمّة سمات مميزة للشخص المؤذي وثيمات معيّنة للعلاقات المؤذية، مثل الاستخفاف بشأنك دائمًا، والتقليل منكِ ومن اهتماماتك، واتباع أسلوب عزل الضحية، بعزلك عن المصادر الخارجية حتى لا يكون لكِ أصدقاء تلجأين إليهم، يمارس الشخص المؤذي أيضًا العنف النفسي وهو أشد من العنف البدني لأنه لا يترك أثرًا على جسم الضحية، مثل أن يغضب بلا سبب ويقلب الأدوار، فيلعب دور الضحية بدلًا من الجاني ويقنعكِ بذلك فعلًا. كما أن هناك تصرفات مؤذية أيضًا مشتركة بين كثير من المسيئين، مثلًا أن يمارس معكِ الجنس بعد الإساءة مباشرةً، كما ذكر كتاب "لماذا يفعل هذا؟" تأليف لوندي بانكروفت (Lundy Bancroft)، وذلك لعدة أسباب، أولها أن هذه هي الطريقة التي يعتقد أنها ستسترضيكِ، أو أنه يريد أن يؤكد لنفسه أن الإساءة لن تبعدكِ عنه جسديًا، ولكني عرفت أنّي لستُ الوحيدة التي تعرّضَت لمثل تلك العلاقات. ساعدتني الكتابة كثيرًا، فالبوح من علامات التعافي. قررتُ أن أساعد النساء المعنّفات كي لا يعِشن تجربتي، بعد أن تعرّفتُ إلى مصطلحاتٍ مثل "الجازلايتنج" (التلاعب النفسي) وعزل الضحية. فمن خلال البحث، عرفتُ أن 34% من النساء اللاتي سبق لهنّ الزواج تعرّضن لعنفٍ بدني أو جنسي على يد الأزواج، وفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن جهاز الإحصاء الرسمي عام 2019. هذا ويقدّم مسح التكلفة الاقتصادية للعنف الاجتماعي ضد المرأة بمصر عام 2015 معلومات شاملة عن تجارب النساء والفتيات في الفئة العمرية 18-64 سنة مع العنف بمختلف أشكاله وأنواعه وتقدير التكلفة الاقتصادية الناجمة عنه.
كانت تجربةً قاسيةً حتمًا، لكنها لم تكن كارثية. تعلمتُ أنّ بإمكاني البدء من جديدٍ وأن الحياة لم تنتهِ. والأهم، يقيني أنّ ما حدث في الماضي لن يحدث لي مرةً أخرى، فأنا أصبحتُ شخصًا آخر أكثر قوةً ونضجًا من تلك الفتاة العشرينية. لن أسامح الخيانة، ولن أمضيَ قدمًا في علاقةٍ تشي كلّ مؤشراتها بالفشل. وحتى لو تعرضتُ للتعنيف مرةً أخرى، لن أصمت، بل سأناضل لنيل حقّي. اليوم، لا أتذكّر سوى أطيافٍ غائمةٍ من علاقتي السابقة، وأركّز على الجوانب الإيجابية من تلك التجربة؛ فلحُسن حظّي أنّي جعلتُ العصمة في يدي كي لا تُستنزف قوّتي في رفع قضية خلع، وأنّي كنتُ مستقلةً اقتصاديًا وقادرةً على الاعتماد على نفسي، بالإضافة إلى تأجيلي الإنجاب كي لا أجلبَ إلى العالم طفلًا أكره أباه. كانت الرحلة صعبةً طبعًا، لكني استطعتُ أن أرسم لنفسي طريقًا آخر غير مكوث عمري مع زوجٍ مسيءٍ وأطفالٍ أفرغ فيهم غضبي. أدرك الآن أنّي نجوتُ من الاستمرار في حياةٍ تعيسة، وأن ثمّة متسع لكلّ شيءٍ غدًا.
إضافة تعليق جديد