افتتاحية وتقديم
بقلم إسكندر عبدالله1
تلقت السينما في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا حول العالم من الباحثين في الكثير من تفرعات العلوم الاجتماعية والإنسانيات، بعدما كان الاهتمام البحثي بها مقتصرًا على مجال النقد والدراسات السينمائية. فالسينما، بتاريخها وقيمتها الفنية والاقتصادية، وأثرها العميق في حياة الملاين من البشر، قد فرضت نفسها كمادة للبحث التاريخي والاجتماعي؛ حيث توثق للحوادث والأفكار، وتكشف عن الميول والأذواق، وترصد بنيات المجتمعات وعلاقات القوى التي تحكمها، كما تُطلعنا على أحلام أفرادها وتطلعاتهم.
وقد ظلّت السينما العربية، على اتساع إنتاجها وتعدد مساراتها الفنية، لسنوات طويلة مفتقرة للعناية البحثية التي تستحقها، إلا على يد قلة من الأقلام الجادة من أمثال أحمد الحضري وسمير فريد وإبراهيم العريس الذين حاولوا تطوير منهجية لنقد سينمائي عربي ترقى به عن مستوى التقارير الصحفية وتجعله أكثر وعيًا بالمعايير الفنية، وظروف المنظومة الإنتاجية، والاعتبارات الثقافية والمجتمعية التي تفرض ظلالها على المنتج السينمائي في الوقت ذاته. أما خارج ميدان النقد السينمائي، فما تزال السينما العربية شبة غائبة كمادة للدراسة البحثية، إما لعدم اتقان الباحثين للأدوات المنهجية اللازمة لقراءة الأفلام وتحليل مضامينها السردية والجمالية ورصد تأثيرها في المتلقي، أو للاعتبار السائد بأن للنصوص المكتوبة الأولوية في الاهتمام البحثي.
السينما العربية هي المادة الرئيسية لهذا الملف، نحاول قراءتها بشكل جديد، يسعى لتجاوز حواجز التخصصات البحثية والاستفادة من طرائق مختلفة للتحليل والمشاهدة، كما نسعى إلى كسر احتكار الناقد للصورة السينمائية العربية ووضعها في سياقاتها الخطابية.
المساهمات والمساهمون في هذا الملف هم مشاهدات ومشاهدون شغوفون بالسينما وتاريخها لا نقاد محترفون. وهن في استعراضهن لما شاهدوه من أفلام ملتزمون برؤية كويرية للعالم، ترفض التصورات المؤسسة لحتمية ثنائية الجنس وضرورة تقيد النوع الاجتماعي بها، كما تشكك في فكرة ثبات الهوية الجنسية وما يفرض عليها من مظاهر ووظائف، جسمانية أو اجتماعية معيارية. وهي رؤية تطمح في النفاذ إلى العمق، فهي تتجاوز تحليل ما تقوله الصورة السينمائية إلى الكشف عما سكتت عنه، وهي تسعى لخلخلة المنطق المعياري الذي تستمد منه الصورة السينمائية إمكانياتها السردية وتعيد إنتاجه بالضرورة، مساهمةً في انتشاره وتثبيته، طارحة بذلك إمكانات جديدة أكثر قدرة على استيعاب طيفية التشكيلات الجندرية والميول الجنسية المختلفة. الرؤية الكويرية التي ينطلق منها هذا الملف لا تسعى في المقام الأول لمقابلة الهويات الثابتة أو المفاهيم الجوهرانية للجسد بأخرى بديلة، وإنما لتفنيد التصورات والبنى الذكورية وما تفرضه من معايير سلطوية تحكم المنظومات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية بشكل عام، وهي بذلك تعد امتدادا للرؤية النسوية للعالم، مدينة للكثير من منجزات الفكر النسوي ، تقوم على مسلماته، تتبنى نقاط انطلاقه وتجاربه في ميادين أخرى كثيرة.
يحاول الملف كذلك تجاوز الإطار النظري للنقد السينمائي بشكله النخبوي المتعارف عليه، تجاوز نص السينما وصورتها إلى المتفرج والمتفرجة نفسها، إلى كيفية نقلهن وتفسيرهم لمحتوى الأفلام وتعايشهن معها في سياقات مختلفة، أثناء طقس المشاهدة وخارجه. فالرؤية الكويرية الموظفة هنا كالتي يراها ألكسندر دوتي، أحد أهم منظريها، لا تكمن في تحليل النصوص (بصرية أو مكتوبة) وحدها، بل في ممارسات تلقيها وإعادة إنتاجها، في استثمار محتواها "ثقافيًا وشهوانيًا بواسطة المتفرجين."2 رغم أن المقال الافتتاحي للملف يحاول ترسيم بعض الملامح المنهجية لمشاهدة الأفلام بعيون كويرية، إلا أن الملف لا يهدف إلى إرساء منهج نظري متكامل الأركان وإنما تتعدد فيه المرجعيات وسبل المشاهدة وأدوات قراءة الأفلام، وهو أقرب للتجريب في الأسلوب والتحليل منه للاتساق النظري، يشير إلى بدايات ممكنة ولا يدّعي التكامل والشمول؛ فالسينما العربية في معظم بلدان شمال أفريقيا على أهميتها وثرائها الفني ونجاحاتها المتزايدة حول العالم، غائبة في هذا الملف، كذلك السينما السورية بتاريخها الطويل والسينما الخليجية الناشئة بإنتاجها المتميز في السنوات الأخيرة. هذا غير المئات والمئات من كلاسيكيات السينما العربية أو إنتاجها المعاصر التي لم يُكتب عنها بعد بمنظور مشابه والكثير والكثير من الموضوعات والأسئلة التي لم يستطع هذا الملف ولا يمكن له إيفاءها حقها. اعترافًا بنقصه وانطلاقًا منه يأمل هذا الملف إذن في تحفيز الكاتبات والكتاب لرصد إرث السينما العربية من منظور مشابه ويأمل بأن تكون منصة جيم المتميزة ساحة لمشاهدات كويرية مستقبلية مماثلة، تخلق مساحات للمقاومة، ولفرض الذات، ولسرد تاريخ بديل للمشاهدة والتلقي صودر تحت وطأة الخوف وبفعل قيمية معيارية دأبت على إخضاع الاختلاف وترويضه.