بدأت السنة الماضية بكتابة لائحة بالأشياء التي تجعلني سعيدة أو أفضل ولو قليلا. أشياءٌ صغيرة أقدمها لنفسي كي أُحسن الاعتناء بها مثل: الرقص، والأكل الطيّب، والعناق، والبكاء، ووضع الحمرة الغامقة التي أحبها، والاختباء في السرير لأيام، وشرب كأس من الشاي أمام البحر.
على إنستغرام والإنترنت دعايات وصور وملصقات وفيديوهات لفتاة "جميلة"، تقف أمام نافذة عريضة في منزل جميل تشرب الشاي، وتنظر إلى الجبال الخضراء البعيدة وهي تبتسم. صورة جميلة كُتب أسفلها: "أحبّي نفسك" بالإنجليزية.
المشكلة في هذه الصورة أنها تزرع في لاوعينا أنه هناك نهاية سعيدة وسريعة لـ"حب النفس" وكأن الموضوع "كن فيكون". في الواقع نحن لا نحبّ أنفسنا بهذه السهولة ولا نعيش أيامًا هادئة ومُبهجة لأنّنا مُضطرّات معظم الوقت إلى ممارسة حب النفس ونحن في أتعس الأوقات، مُختبئات تحت الأغطية بعد ساعات من البكاء، وحتى عندما نحتضن أنفسنا، لا تنبت الزهور وتزقزق العصافير وتتبدّد الغيوم.
بدأت السنة الماضية بكتابة لائحة بالأشياء التي تجعلني سعيدة أو أفضل ولو قليلا. أشياءٌ صغيرة أقدمها لنفسي كي أُحسن الاعتناء بها مثل: الرقص، والأكل الطيّب، والعناق، والبكاء، ووضع
تأمّل نفسي عارية في المرآة، كان أحد البنود على اللائحة لأتصالح مع شكلي وأحبّه.
عرفت من أمي مرّة أنني في عمر التاسعة (يجوز) وقفت أمام المرآة ونظرت لنفسي وقلت: "أنا ماني حلوة". ورغم أنني وضعت نظريات كثيرة لأفهم كيف كوّنت هذه الفكرة عن نفسي وأنا في هذه السنّ الصغيرة إلاّ أنّها لم تغادرني كليًّا فأقنعت نفسي أن أنظر مرارًا إلى جسدي عاريًا في المرآة. أن أتأمل وجهي مطولا؛ أنظر إلى رقبتي، شامتي، نهداي، يداي وبطني وتكوّر طبقاته عندما أجلس. أنظر إلى عظمتيّ ركبتيّ، أنظر إلى أردافي وشعر جسدي. قررت أنني أحبّ خصري، ترقوتاي البارزتين، شامتي، شعري الأسود الكثيف، شكل وجنتاي. قررت أنني أكره حاجبي الأيمن وأصابع قدميّ وأكتافي الصغيرة. وعقدت هدنة حبّ مع أصابع يديّ عندما بدأت ولعًا جديدًا بالخواتم. بعد فترة بدأت أنسى أن أنظر إلى المرآة حتى قبل أن أخرج من المنزل. أفكار الطفولة لم تتركني تماما، تذهب حينا وتأتي حينا وأنا أُذكّر نفسي بعقود الحب التي أبرمتها مع جسدي ومظهري.
لم تظلّ اللائحة عالقة في محاولات حب النفس. أخفيتُ وراءها رغبة ساذجة في إيجاد معادلة سهلة جاهزة ومُجرّبة يُمكنني اللجوء إليها في أي وقت. أردت التحايل على نفسي عبر إيجاد وصفة سحرية وطريق مختصرة للرضى الآنيّ. حمّلت اللائحة توقعات أكثر مما تحتمل، أردتها أن تكون أرضًا ثابتة تحت شكوكي، جدار صدّ لعدميّتي، ويدًا تدفعني للخروج من عُلب الإحباط، بينما هي في الحقيقة مُجرّد محاولة لتذكير نفسي بأشياء أحبّها تحنو عليّ.
صورة الفتاة "السعيدة" أمام النافذة أيضًا تُهمل عالمنا القاسي… تقول لي "أحبي نفسك"، لكن ماذا عن العالم الذي لا يحبني؟
بعد فترة لم تعد معظم نقاط اللائحة تُجدي نفعًا. لم تعد الموسيقى تُحرّكني لأرقص، وفقدت رغبتي في وضع أحمر الشفاه الغامق، وتخلّيت عن تأمّل جسدي. شكوكي وإحباطي وتزعزع ثقتي بمن أنا كانت أقوى من الأفعال الإيجابية. لماذا لم تنفع اللائحة في جعلي سعيدة؟ أو في تهدئة إحباطي من نفسي؟ لا أعرف.
صورة الفتاة "السعيدة" أمام النافذة أيضًا تُهمل عالمنا القاسي… تقول لي "أحبي نفسك"، لكن ماذا عن العالم الذي لا يحبني؟ صورة مثل هذه تُثقل كاهلنا وتُحمّلنا وحدنا عبء السعادة المنشودة والمُشتهاة.
كيف يمكن لكأس شاي على البحر مع أم كلثوم في الخلفية أن يطبطب عليّ ويطمئنني بأن كل شيء سيكون بخير وأنني سأحقق شيئا قيّمًا ومُرضيًا في الوقت الذي انهارت فيه عوالمنا وتشوهت ولم نعد نرى سوى الخراب.
فتحت خالتي الوحيدة نافذة بداخلي عندما سألتني: "ليش بتضلي مّرمرة يا خالتي؟". "متل ستك إنتي، ماتت وهيّي مانها رضيانة وإنتي ورثانة المرمرة". هذا الكلام مُحزن جدًا، ومُحطّم لفكرة السعادة النهائية بعد كلّ المرار... إن كان عدم الرضى المزمن صحيحًا، فلن يكون هنالك نافذة عريضة في منزل جميل أجلس أمامها لأشرب الشاي وأنظر إلى الجبال الخضراء البعيدة وأنا أبتسم.
إدراك ذلك كان محزنا لكنه محرّرٌا بعض الشيء. حُب النفس بات فعلا غير تراكمي. بمعنى أنه لم يعد مُحمّلا بعبء إزاحة الهم والقلق والشك إلى الأبد. بدأت أتقبل أكثر هذا القلق الذي ليس له وصفة سريعة تشفيه. أعرف الآن أنني سأكون في دهليزي الأسود الذي يمكن أن يأخذ شكلا وموضوعًا مختلفًا في كل مرة. لكنني أعرف أنني أستحق أن أكون خارج الدهليز، فأصبحت المحاولة للخروج من الظلام هو فعل حب النفس بحدّ ذاته بغض النظر عن ماهيته ومحدداته.
اضطررت أن أتعلم حقّا كيف أفرغ المحاولات من المحددات وألا أقع في فخّ اللوائح وتوقّع النتائج السحرية من فعل بعينه. اضطررت أن أتعلم كيف أنّ ما نفع البارحة قد لا يُجدي نفعًا اليوم، وأن أتقبّل اللافعل كمحاولة أيضًا للطبطبة على نفسي، كفعل حب النفس. أن أنام 13 ساعة كل يوم لمدة أسبوع وأن ألغي عشرات الدعوات للخروج ليتسنى لي جمع طاقتي وإرسال إيميل.
حب النفس وسط الضياع، وسط انهيار عوالمنا التي نعرف، فقدان السند وتحول الأرض تحت أرجلنا إلى رمل متحرك، ليس ترفًا بل هو عمل شاق. حب النفس في هذه الظروف هو الأصعب. وهكذا تصبح المحاولة هي فعل حب النفس الوحيد الممكن. محاولة عدم اليأس التام. أن نستيقظ كل صباح، ونحاول.
منذ أسابيع، بكيت وعملت دراما قصيرة، ثم قررت المشي. مشيت باكية حتى محل الآيس كريم.
جلست حاملة "قرن البوظة" صامتة، متجهّمة بشعر منكوش، بلا سوتيان، آكل الآيس كريم على مقعد في الشارع في الواحدة والنصف ليلا.
أكملت، أخذت تاكسي وعدت للمنزل. حزينة كما كنت قبلا ولوحدي، لكن مع آيس كريم. ونمت.
"
التعليقات
حبيته
تعليقي طويل حبتين وبالعامية.. مبارح عملت عفل لرابط المقالة وقلت خليا لبكرا.. اليوم أول مافقت فتحتا وقعدت اقراها وانا معتبرة انو هي محاولة لتغيير روتيني الصبح وحتكون متل كأني عم اقرا جريدة بقهوة مع قهوة الصبح.. واخر كلمة بالمقال كانت ليكني عم حاول.. متل ما انا حرفيا عم اعمل.. عم حاول اطلع من علب كآبتي.. صعب جدا.. بس ليكني عم حاول.
مرحبا-
حب النفس فعلا اشي كتير صعب وكتير بيحتاج قوة. بس هاد كمان مابيعني انو الي ماعم يقدرو يحبو نفسهم ضعفاء او جبناء....
مع كل أمنياتي بنجاح محاولتك :)3>
إضافة تعليق جديد