صورة لـ"تِندر" وأخرى لـ"غرايندر": عالم المواعدة الإلكترونية

"ضع هذه الصورة على حسابك في 'تِندر'،1 واترك الصورة الأخرى المثيرة لـ'غرايندر'".2

هكذا نصحَني صديقي باختيار الصوَر المناسبة لكلٍّ من تطبيقات المواعدة الشهيرة. وعملية الاختيار هذه - بما فيها تبادل الآراء - هي بمثابة طقسٍ مُتكرّرٍ بين الأصحاب منذ انتشار هذه المنصّات. 

يقول صديقي إنّ "هذه التطبيقات مثل السوق، عليكَ إظهار أفضل ما لديك لجذب الآخرين". لم يعجبني هذا التشبيه على الرغم من وجود ما يدعمه في الواقع. لقد استخدم 300 مليون مستخدِم/ة حول العالم تطبيقات المواعدة في عام 2021، ما يجعل هذا العدد الهائل بمثابة سلعةٍ ثمينةٍ للشركات المالكة لهذه الفضاءات. وبالفعل، هذا ما يؤكّده حجم إيراداتها التي بلغَت نحو 5 مليارات دولار في عام 2021 فقط.

الأمر ليس سهلًا، فالبحث عن الحبّ على الهواتف الذكية أو عبر الإنترنت لا يعني التنافس في سوق المواعدة فحسب، إنّما تنافس الشركات العالمية أيضًا لجذبنا والحفاظ علينا كمستخدِمين/ات لهذه التطبيقات. بمعنًى آخر، لكي يستمرّ نجاح سوق المواعدة الإلكترونية، علينا الاستمرار في التنافس على تسليع أنفسنا ليقبَلنا الآخرون.3

لا أنفكّ أُصاب بالدهشة منذ بدأتُ باستخدام تطبيقات المواعدة، نظرًا لسرعة عثوري على ما أبحث عنه بشكلٍ مباشر، والأهم بسبب إمكانيّة تعديل خاصيّة البحث ليُظهر ما أفضّله فقط، سواء على مستوى المظهر أو الشخصية! 

لكي يستمرّ نجاح سوق المواعدة الإلكترونية، علينا الاستمرار في التنافس على تسليع أنفسنا ليقبَلنا الآخرون

المفاضلة بين الأشخاص بناء على صورهم أولًا وقبل قراءة المعلومات الواردة تحتها، تختزل شخصًا كاملًا بناءً على ما هو ظاهرٌ منه فقط، ما يجعل رفض الشخص أو قبوله رهن جودة كاميرا الهاتف، ومهارات التقاط الـ"سيلفي"، وبعض العبارات المُستهلَكة. وبالفعل، نجد على الإنترنت عددًا كبيرًا من المقالات وفيديوهات اليوتيوب التي تُعطي الإرشادات للتفنّن في التقاط تلك الصّور وصياغة العبارات التقديميّة. الأمر مهمٌّ إلى هذا الحدّ. 

عادةً ما تروّج هذه التطبيقات لحلم الحبّ الرومانسي. في الواقع، ثمّة قصص حبٍّ ناجحة بدأت بكبسة زر الموافقة على صورة الشريك/ة، عدا عن أنّ هذه التطبيقات تتيح المجال أيضًا للقاءات الجنس العابر والبحث عن المتعة من دون قيودٍ عاطفية. 

وبما أن الصورة هي أول ما يخضع لعملية الفرز المذكورة، يُحصَر التركيز على امتياز الجمال النمطي الأبيض، أو إظهار الثراء عبر عرض صورٍ تُظهر الشخص إلى جانب سيّارةٍ فارهةٍ أو في داخل حوض سباحةٍ خاص. 

لعلّ هذه الديناميّات مرآةٌ مقعرةٌ لواقعنا. يعِدُ الإقبال على حسابك في هذه التطبيقات بفرصٍ أكبر للمواعدة وممارسة الجنس، وبالتالي تنحصر تلك الفرص في مجموعةٍ تملك مقوّماتٍ جماليةً واقتصاديةً معيّنة.

في المقابل، مَن لا يملك أحد هذَين الامتيازَين أو كلَيهما، يخوض تجربةً سلبيةً في الغالب، تصل إلى حدّ الاكتئاب واليأس من قلّة الاهتمام في عالمٍ يعتمد أسلوب الرفض المباشر وحتى القاسي، لاسيّما أن وسائل المواعدة/ممارسة الجنس التقليدية مثل اللقاء في مكانٍ عامٍ أو التعارف عن طريق الأهل والأصدقاء تتلاشى تدريجيًا.

ساهمَت هذه التطوّرات، معطوفةً على عوامل أخرى، في تغيير مفهوم الارتباط العاطفي وشكل العلاقات الإنسانية والاجتماعية إلى حدٍّ كبير. مثلًا، مع توفّر عشرات التطبيقات وما لا حصر له من حساباتٍ مرشّحةٍ للانضمام إليها، تراجعَت أهمّية الارتباط الأحادي التقليدي (مثل الزواج). كما أنّ التواصل المسبَق عبر التطبيقات سهّل مهمّة الاتفاق على أدقّ تفاصيل العلاقة الجنسية على نحوٍ لم يكن متوفرًا للجميع في ما مضى.

لهذه الأسباب، نصحَني صديقي باستخدام صورٍ مختلفةٍ وفق قوانين كلّ تطبيق، ولاسيّما تلك القواعد الخفيّة التي لا ينصّ عليها التطبيق بشكلٍ رسمي، بل ظهرَت ديناميّةً مرتبطةً بواقع المجتمع الذي نعيش فيه. 

التواصل المسبَق عبر التطبيقات سهّل مهمّة الاتفاق على أدقّ تفاصيل العلاقة الجنسية على نحوٍ لم يكن متوفرًا للجميع في ما مضى

لم يكن صديقي مخطئًا على الإطلاق، إذ لا تهدف الصورة هنا إلى إظهار الجاذبية فحسب، بل الإفصاح عن الرغبات والتفضيلات الجنسية أيضًا. على سبيل المثال، يعطي التقاط الصورة من أسفل انطباعًا بالسيطرة، إذ يراك الناظر من أسفل وأنت في وضعٍ أعلى منه، كذلك تُبرز صورةُ شخصٍ عاري الصّدر وبارز العضلات أنّ جسده هو أهمّ ما يملك.  

لكن الصورة وما قد توحي به امتيازٌ لا تملكه مجتمعاتٌ عديدة. يروي صديقي نفسه، الذي يكبرني سنًّا، كيف كان شكل المواعدة الإلكترونية في الدوائر الكويريّة في ليبيا قبل بروز التطبيقات والمواقع الخاصّة مثل مان جام (Manjam) وياهو تشات (Yahoo Chat)، وكيف كان اللقاء بشخصٍ ما يستغرق شهورًا في بعض الأحيان، مراعاةً للمخاطر وتجنّبًا للخداع. كان الأمر مرهقًا للغاية ومخيّبًا للآمال في أحيانٍ كثيرة. لكن على الرغم من ذلك، يتمكّن الكويريّون من عيش مغامراتٍ ناجحةٍ بشيءٍ من الصبر والجهد. 

لاحظتُ في مشهد المواعدة الإلكترونية في تونس وليبيا في زيارتي الأخيرة، وبعد الحديث مع أصدقاءٍ كويريّين، أنّ توفّر هذه المنصّات وكثرة الحسابات المسجّلة فيها لا يعنيان بالضرورة سهولة المواعدة أو شيوع ممارسة الجنس، فالأمر محفوفٌ بالمخاطر لأسبابٍ قانونيةٍ ومجتمعية، سواء احتمال تعرّض الفرد للاعتقال من قبل أجهزة الدولة التي تراقب تلك التطبيقات، أو بسبب إمكانية التعرّض للعنف، أو السرقة، أو الابتزاز على يد شخصٍ يستخدم حسابًا وهميًا. فصورة الحساب "الحقيقية" التي يُعتمد عليها في بلدانٍ أوروبيةٍ عدّة لضمان الأمان، وتحصر الفرص في مجموعاتٍ تحظى بامتياز الجمال النمطي، مفقودةٌ في غالبية الحسابات على تطبيق "غرايندر" في تونس وليبيا، حيث يضطر غالبية المستخدِمين إلى استخدام صورٍ لمشاهير وعارضي أزياء، أو حتى رسومٍ كرتونيةٍ تعبّر عن المستخدِم أو تفضيلاته. الصورة هنا رمزيةٌ وبليغةٌ في آنٍ معًا، إنّها بداية حديثٍ أقرب إلى تحقيقٍ لمعرفة مَن وراء الصورة قبل الشروع في تنسيق موعد لقاءٍ أو حديثٍ ساخن.

توفّر هذه المنصّات وكثرة الحسابات المسجّلة فيها لا يعنيان بالضرورة سهولة المواعدة أو شيوع ممارسة الجنس، فالأمر محفوفٌ بالمخاطر لأسبابٍ قانونيةٍ ومجتمعية

بعد وقتٍ وجيزٍ من استخدام تلك التطبيقات، أدركتُ تطوّر قوّة الملاحظة عند مستخدِميها في كلَي البلدين، ومحاولة الغوص في شخصيّة الطرف الآخر بدلًا من الدردشة السريعة والعملية كما هي الحال في ألمانيا التي أعيش فيها وغيرها من بلدانٍ أوروبية. 

يحيلنا هذا الواقع إلى التساؤل عن مفهوم العلاقات العاطفية/الجنسية راهنًا، والاختيارات المُتاحة وغير المُتاحة لمُستخدِمي/ات عالم الحبّ الإلكتروني حيث تتّسع الهوّة بين المجتمعات بفعل أدواتٍ ابتُكِرت للتقريب بين الناس حول العالم؛ فما بالك بالأدوات التي تروِّج للحبّ بهدف الربح؟!

في هذا السياق، يعزف بعضُ أصحابي في أوروبا مؤخرًا عن المواعدة الإلكترونية نائين بأنفسهم عن ضغط الرفض والقبول في تطبيقات المواعدة. ويتفق هذا النزوح من عالم الإنترنت مع توجّه الشباب في بلدانٍ مثل ليبيا وتونس إلى أماكن تقليديةٍ للقاء، مثل المقاهي أو الملاهي، بحثًا عن بدائل وفرصٍ أخرى أكثر أمانًا وأقلّ تسليعًا للذّات.

• 1تِندر هو تطبيق للمواعدة عبر الإنترنت. يعمل تِندر من خلال التمرير على صور المشاركين/ات نحو اليمين في حالة القبول واليسار في حالة الرفض. لإجراء محادثة للتعرف، يجب أن يتم القبول من الطرفين.
• 2غرايندر هو تطبيق للمواعدة عبر الإنترنت موجه لفئات الكوير. يعتمد غرايندر على المحادثة المباشرة بعد مشاهدة صور المستخدمين/ات المرفقة عادة بمعلومات حول التفضيلات الجنسيىة.
• 3 Mashita Fandia, Syakira Maharani, and Dian Arymami, “The Commoditized Self: Interpersonal Communication in Tinder Online Dating Apps”, 2020, 1. 84-95. DOI: 10.36782/i-pop.v1i2.68.