الحبّة الحمراء وأسطورة نظام حكم النساء… داخل عقل "المانوسفير" في منطقتنا والعالم

خلال العقد الماضي، نَمَتْ مساحاتٌ رقميةٌ للرجال تهدف إلى تحليل واقعهم وتوفير بيئة لدعم بعضهم البعض في ظل أزمات متعدّدة تواجه هوياتهم الرجولية. لكن تلك المساحات أغفلت التركيز في تحليلها على واقع الرجال وسط نظامٍ أبوي يتقاطع مع الرأسمالية والإمبريالية ويضعهم في قالبٍ مجرّدٍ من العواطف والعلاقات الاجتماعية المبنيّة على المحبة والاحترام، ويحصر مكانتَهم الاجتماعية في مقدار دخلهم أو عرقهم أو قدراتهم الجسدية، وبدلًا من ذلك تتركّز تحليلاتُها على آثار نظامٍ مُختلَق يسُمّي بنظام حكم النساء (gynocracy).

تسمى هذه المساحات والمجموعات المختلفة التي تديرها وتنتج محتواها بما يسمّى الـ"مانوسفير" (manosphere)، وهي عبارة عن فقّاعة في بحر الإنترنت يتمحور جزءٌ كبيرٌ منها حول مفهوم الحبّة الحمراء (the red pill) في إشارة إلى فيلم "ذا ماتريكس" (The Matrix)، وتُحيل هذه الحبّة إلى اللحظة التي يختار فيها الرجل أن يرى الواقع كما هو لأوّل مرّة ويتخلّى عن الأوهام. 

في سياق المانوسفير، استُعير مفهوم الـ "الحبة الحمراء" ليُشير إلى اللحظة التي يُدرك فيها الرجال كذبة وجود نظامٍ أبوي يمنحهم امتيازاتٍ تُمكّنهم من قمع النساء. فالحقيقة كما يزعم المانوسفير، هي أن النساء هنّ القامعات وأن هناك مؤامرة نسوية عالمية هدفها إخضاع الرجال واستغلالهم من دون أن يدركوا حتى أنهم مقموعون ومُستغلّون؛ ولهذا صارت تلك المساحات تُخصَّص للكشف عن تحايل النساء على الرجال، بخاصة النسويات منهن، وإيجاد طرق تُمكّنهم من التحرّر من قيود نظام حكم النساء المُفترض الذي تسلّل إلى حيواتهم. 

أبرز مجموعات المانوسفير في العالم والمنطقة 

تتمحور غالبية المجموعات في المانوسفير بطريقة أو بأخرى، حول فكرة "سيادة نظام حكم النساء" والإيمان بوجود مؤامرة نسوية عالمية، لكن ما يميّز كلٌ منها عن الأخرى هو رؤيتها لطبيعة التغلّب على هذا النظام وفضح "المؤامرة" وإعادة سيطرة الرجال على مصيرهم.

ومن أشهر وأعنف هذه المجموعات "العزّاب غير الطوعيين" (incels)، وهي مجموعة مهووسة بالجنس تتكوّن من رجال يكنون العداء للنساء بسبب رفضهنّ لهم، إذ ترى أن النساء تمتلك النفوذ لأن باستطاعتهن اختيار شركاءهن بسهولة، وبسبب جشعهن وطبيعتهن الاستبدادية يواجه "العزّاب غير الطوعيين" مصير مأساوي مليء بالوحدة، لأن النساء لم يختاروهم كشركاء نظرًا لكونهم غير جذّابين بما يكفي أو لأنهم يفتقرون إلى النفوذ والثروة مقارنة بغيرهم من الرجال الأوفر حظًّا. 

ولذلك تؤمن هذه المجموعة بأنّ التحرّر الجنسي أو حتى الاقتصادي للنساء هو السبب الأساسي وراء قمع الرجال، وهو ما يدفعها لأن تُخطّط للانتقام منهنّ بطرق عنيفة مثل العمل على تشريع الاغتصاب والاستعباد باعتبارها وسائل للتحرّر من وضعهم الراهن، كما يمجّد جزءٌ كبيرٌ من أعضاء هذه المجموعة قتلَ النساء والفتيات بوصفه فعل تحرّري. 

ومع أنّ تواجد "العزّاب غير الطوعيين" مُشتَّت في المانوسفير الناطق بالعربية، إلا أن أفكارهم حول وحدة الرجال الذين جمعتهم معايير غير عادلة وضعتها النساء بما يعارض حقّهم المُفترض في ممارسة الجنس، متجذّرة في خطاب المانوسفير في المنطقة، وكمثال على امتداد هذه الأفكار الى الواقع، هي حادثة مقتل  الشابة المصرية نيّرة أشرف عام 2022 -الذي وصف بـ"السنة الدموية ضد النساء"- وقُتلت نيّرة من رجل رفضت الارتباط به أمام جامعتها، حيث انتشرت جريمة القتل على نطاق واسع في المانوسفير العربي لا لإدانتها بل لتمجيدها، وهو ما دفع رجلًا آخر إلى ارتكاب الجريمة نفسها في اليوم التالي في الأردن ضد الشابة إيمان إرشيد الأردنية بعد أن تلقّت تهديدًا من القاتل عبر رسالة نصيّة جاء فيها: "سآتي غدًا لأتحدث معك وإذا لم تقبلي سأقتلك تمامًا كما قتل المصري تلك الفتاة اليوم"1.

أما مجموعة "رجال يسلكون طريقهم الخاص" (Men Going Their Own Way (MGTOW، فهي تؤمن أن النساء يشكّلن خطرًا على حياة الرجال بمجرّد اختلاطهن بهم، فجميع النساء برأي هذه المجموعة، مستعدّات لتلفيق تُهم التحرّش والعنف الجنسي ضد الرجال بهدف الحصول  على المال أو تشويه سمعتهم في المجتمع أو حتى لسجنهم من باب الانتقام ولأيّ سبب كان. 

وفي هذه الدوائر، يتم الترويج لمفهوم "الحكومة المحدودة" الذي يشير إلى حاجة الرجال الى السيطرة على حياتهم وممتلكاتهم بعيدًا عن تدخّل الحكومة التي يُنظر إليها على أنها خاضعة لنظام حكم النساء أو مهووسة باحتياجاتهن واهتماماتهنّ. وعلى جانب آخر تعزّز هذه المجموعة الفردانية والعزلة وتحتفي بالرجال الذين تجاوزوا كل مستويات الانعزال: يتمثّل المستوى الأول منه في رفض العلاقات طويلة الأمد والمستوى الثاني في تفادي العلاقات القصيرة الأمد والمستوى الثالث في فكّ الارتباط بالمنظومة الاقتصادية التي تخدم الحكومة القامعة للرجال، أما المستوى الرابع فيتمثّل في الانفصال التام عن مجتمع "الحبّة الزرقاء" الذي يصدّق الأكاذيب النسوية على حدّ قولهم. 

ومع أن هذه المجموعة لا تشكّل خطرًا مباشرًا على النساء كسائر مجموعات المانوسفير خاصة "العزّاب غير الطوعيين"، إلا أنها تساهم في خلق ثقافة تكذيب الناجيات من العنف والحض على كراهية النساء. ومن الجدير ذكره أن هذه المجموعة توسّعت مع انتشار حركة "أنا أيضًا" النسوية في العقد الماضي التي كشفت نساء كثيرات من خلالها عن رجال متحرّشين ومعتدين جنسيًا ذوي نفوذ وشهرة في مناطق مختلفة من العالم.  

يتشارك كلٌ من "رجال يسلكون طريقهم الخاص" و"العزّاب غير الطوعيين" نظرةً تشاؤميةً حول أوضاع الرجال الحاليّة، إذ يؤمنون بأنهم عاجزون عن تجاوز مكانتهم غير المُقدَّرة داخل مجتمع ومنظومة تعطي كل الامتيازات للنساء، لذا لا يكتفون بفهم الواقع عبر تناول "الحبة الحمراء" إنما يصلون إلى "الحبة السوداء" التي يأملون أن تُحرّرهم من الضغوط الاجتماعية عبر التخلّي المطلق عن الجنس والعلاقات والزواج.

أما "فنانو الإغواء" (Pick-up Artists) فيشكّلون مجموعةً أخرى داخل المانوسفير تتكوّن من مؤثّرين يدّعون امتلاك الوصفات والحيل اللازمة التي تمكن  الرجل من الحصول على أي امرأة يريدها. بَنَتْ هذه المجموعة قطاعًا اقتصاديًا تُقدّر قيمته بمئة مليون دولار أمريكي سنويًا من خلال استغلال قلق الرجال بشأن مكانتهم مجتمعيًا في ظل الأزمات المتعدّدة التي يرزحون تحت وطأتها، إذ كثيرًا ما يروِّج هؤلاء "الفنّانون" لفكرة السعي إلى تحقيق طموحات رأسمالية باعتبارها وسيلة لزيادة فرص الحصول على امرأة "عالية القيمة" ومن أجل الارتقاء من مرتبة "موظّف بيتا" إلى "رائد أعمال ألفا"، كما يروّج هؤلاء المؤثرون لمفهوم تحقيق النجاح المالي بمفهومه النيوليبرالي الذي يعفي الدولة من توفير فرص عمل أو حقوق عمالية.

آندرو تيت هو إحدى أبرز الشخصيات في هذا المجال وقد وصف منصّته "جامعة هاسلرز" (Hustlers University) بأنها "أعظم شيء موجود على وجه الأرض لصالح الأشخاص الساعين إلى الهروب من المصفوفة (the matrix)"، ويُعاد إنتاج هذا النموذج من المنصات في المانوسفير العربي، فمثلًا كان "كوتش كريم" أوّل مّن أسّس "قناةً عربية على اليوتيوب تشرح فلسفة الحبة الحمراء باللغة العربية"، ويقدم من خلالها مجموعة من الجلسات الاستشارية والخدمات بأسعار باهظة، إذ يبلغ سعر الساعة الاستشارية الواحدة 140 دولار أميركي، وبرنامج الإرشاد المالي ألف دولار، والاشتراك في "مجموعة الرجال الخاصة" 50 دولار شهريًا. 

أخيرًا، تعد مجموعة "حقوق الرجال" امتدادًا لخطاب ونظريات المجموعات الأخرى في المانوسفير، مع فارق يتمثل في أن ناشطي هذه الفئة يتمتعون بحضور خارج نطاق المانوسفير الرقمي. ومن اللافت أن نشاط "حقوق الرجال" (men's rights activism) بدأ في أوائل سبعينات القرن الماضي كحراك داعم للنسوية، سعى إلى إدراك الطرق التي يُلحِق بها النظام الأبوي الضرر بالرجال أيضًا والعمل على حلّ المشكلات الحقيقية التي تواجههم، إلا أن الحركة انقسمت بعد عقدٍ من الزمن وتحوّل فصيلٌ منها إلى حركة حقوق الرجال الحالية التي باتت ترى المساواة بين الجنسين التي تسعى النسويات إلى تحقيقها كمؤامرة تهدف إلى تمكين النساء من التمييز ضد الرجال. لا يبدو أن لتلك الحركة جذورًا تنظيمية في منطقتنا، لكن العديد من الشخصيات المؤثِّرة داخل المانوسفير العربي تناقش القضايا التي تشكّل محور اهتمامات حركة حقوق الرجال العالمية، مثل النفقة وحضانة الأطفال والاتهامات الموصوفة بـ"التشهيرية".

تناقضات في العلاقة مع الغرب

مع أن أسطورة نظام حكم النساء عمّمها أوّلًا رجالٌ بيض في المانوسفير الغربي يتمتّعون بكل امتيازات العالم ويقدّمون أنفسهم كناجين من نظام حكمٍ وهمي لم يعطِهم فرصةً للنجاح، إلا أننا نجد أن مبادئها تغلغلت تمامًا في المانوسفير العربي، إذ يُلاحظ امتداد واضح للأفكار التي تنتشر في المانوسفير الناطق بالإنجليزية. ومع أن المؤثرين والمشاركين في المانوسفير العربي يُشيطِنون النسوية و"أيديولوجيا الجندر" بوصفها مفاهيم غربية تهدف إلي تدمير مجتمعات منطقتنا، إلا أنهم يستوردون اللغة والسرديات والأطر الأيديولوجية ذاتها من المانوسفير الغربي دون الالتفات بتاتًا إلى هذه المفارقة. 

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن المانوسفير هو فضاء عنصري بقدر ما هو فضاء ذكوري، ذلك أنه نابع من حركة اليمين المتطرّف الأمريكي حيث تتجلّى العنصرية بشكل هرمي يفصل بين الرجال البيض وغير البيض.

تحظى النساء البيضاوات اللواتي يخترن شركاء من عرقٍ آخر باهتمام خاص، بل بكراهية خاصة، داخل المانوسفير نتيجة خيانتهن المفترضة لعرقهن، إذ يستمدّ هذا المانوسفير بعضًا من أفكاره من نظرية "الاستبدال العظيم" (the great replacement) وهي نظرية يمينية متطرّفة تتمحور حول فكرة استبدال (أو حتى انقراض) العرق الأبيض في أوروبا وأمريكا الشمالية بسبب الهجرة، وفي حالة المانوسفير فهو بسبب ما يروه كخيانة النساء البيضاوات لأبناء عرقهنّ؛ والحل بالنسبة إلى هؤلاء يكمن في وجوب التحكّم بخيارات البيضاوات لإجبارهن على إنجاب أطفال بيض ينقذون عرقهم، إلى جانب شيطنة -أو على الأقل التقليل من مكانة- الرجال غير البيض، وتبرز في هذا الإطار مصطلحات مثل "كوريسيل" (currycel) و"بلاكسيل" (blackcel) و"راسيل" (ricel) و"إثنيكال" (ethnical) التي تُشير إلى "العازبين غير الطوعيين" من الهنود والسود والآسيويين وغيرها من الإثنيات غير البيضاء لتولّد هرميةً بين الرجال الـincels على أساس العرق.

في المقابل، يقلّل المانوسفير الغربي من مكانة الرجال العرب والمسلمين مقارنةً بمكانة الرجال البيض وفي الوقت نفسه يمجّد الإسلام بوصفه المعقل الأخير في وجه النسوية ونظام حكم النساء، فمصطلح "الشريعة البيضاء" مثلاً يشير إلى دعوة الرجال البيض إلى تبنّي نسخة بيضاء للشريعة الإسلامية يرون أنها توفّر إطارًا ناجحًا لاستعباد النساء يمكن تداوله في المانوسفير الغربي، كما أن هناك تعاونًا بين المؤثرين في فضاءات المانوسفير الغربي والعربي حول دور الإسلام في التصدّي لنظام حكم النساء، والذي جسّدته الجلسة الحوارية التي ضمّت شخصيات مختلفة للحديث عن "قدرة الإسلام على الصمود في ظل نظام حكم النساء الذي نعيش فيه".

التمسّك بالموقف في وجه العدوان على النساء والنسويات

تُطرَح في الدوائر النسوية داخل المنطقة تساؤلاتٌ عدّة حول مدى قدرة الحركة على إشراك الرجال في العمل النسوي. لكن المؤكّد أنه من غير السهل أبدًا تعريض المساحات التي عملنا بجهد على جعلها آمنة للنساء بكل خلفياتهنّ للخطر، فالعمل مع الرجال يتطلّب وجود رجال نسويين مهتمّين وقادرين على خلق مساحات للحديث عن مفهوم الرجولة في ظل منظومة القمع، أي في ظل تحالف الأبوية مع الرأسمالية والإمبريالية، والتي تتسبّب بالأزمات المتعدّدة التي تواجهنا وتواجه الرجال بالتحديد. من هنا صار ضرورة على الرجال المؤمنين بقضايا التحرّر السعي إلى مواجهة العزلة والكراهية والانفصال عن الواقع الذي تشهده مجموعات المانوسفير من أجل خلق حسّ مُجتمعي يحوي الرجال والفتيان قائم على قيم الحب والرعاية بدلًا من المنافسة والحقد والتراتبية.

في الوقت نفسه، على الناشطات النسويات أن يأخذن المخاطر التي يشكّلها المانوسفير على محمل الجد؛ فهناك سعي جدّي وممنهج لتصوريهنّ كتهديد جوهري لمجتمعاتنا وأُسرِنا، بموافقة أو حتى تحريض من قبل دول المنطقة. لذا ينبغي وضع خطط تستجيب للمخاطر، لا الرقمية وحسب بل تلك التي يمكنها التصدي للمخاطر على أرض الواقع أيضًا.

وعلى الرغم من أن البحث في خطاب المانوسفير العربي وتكتيكاته والديناميّات المختلفة التي تحرّكه وصل متأخّرًا إلى حد ما، غير أن هناك اهتمامًا متزايدًا اليوم بدراسة هذا الفضاء الموالي للأبوية والرأسمالية والذي يتّسم بتبعية للمانوسفير الغربي العنصري، ما يساعد في فتح الباب أمام تخطيط استراتيجي لمواجهة هذا العدوان على النساء والفتيات والنسويات في منطقتنا. 

أخيرًا، لربّما من المريع تذكّر أن كل الحركات التحرّرية في العالم واجهت اتهاماتٍ مُلفّقة حول دوافعها، غير أنه ممارسة ضرورية أيضًا، فالحركة الداعمة للقضية الفلسطينية تُتّهم بمعاداة السامية ومناصرة الإرهاب، كما تُتّهم حركة تحرير السود في الولايات المتحدة بأنها إرهابية تهدف إلى زعزعة الأمن القومي، فيما تُتّهم الحركة النسوية بأنها مؤامرة لإخفاء نظام حكم النساء وتدمير العائلة والمجتمع. 

من هنا بإمكاننا الاستلهام من الطرق التي اعتمدتها تلك الحركات في مواجهة الادّعاءات الكاذبة حول أهدافها، وأبرزها التمسّك بمبدأ عدم الانجرار نحو التبرير أو الدخول في حوار حول ادّعاءاتٍ لا أساس لها من الصحة، والتمسّك عوضًا عن ذلك بالعزيمة والإيمان بجدوى النضال.

فرح دعيبس

ناشطة وباحثة نسوية

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • سيتم تحويل عناوين المواقع الإلكترونية وعناوين البريد الإلكتروني إلى روابط تلقائياً.