تحفل المدوّنة الغنائية النسائيّة بنظائر جريئة، وتجتمع كلّها لتشكّل صورةً تحرّريةً للمرأة التونسية في تجارب عشقها وغزلها بالرجل.
عاطية رقبتي للذبح وانتَ خايف***الله يقطع القلب اللي عليك مرايف (متيّم)
يعود هذا البيت إلى نهايات القرن التاسع عشر، حيث الذكوريّة مازالت محدّدًا هويّاتيّا للمجتمع التونسي الذي كانت تتقاسمه عروش (قبائل) الهمّامة والفراشيش والمثاليث وغيرهم، وتظهر فيه المرأة البدويّة منتفضةً في وجه حبيبها الجبان ومن خلفه أعراف "الشرف" ورقابة القبيلة، وليس البيت يتيمًا في زمانه، بل تحفل المدوّنة الغنائية النسائيّة بنظائر أخرى صادمة لا تقلّ عنه جرأة، وتجتمع كلّها لتشكّل صورةً تحرّريةً للمرأة التونسية في تجارب عشقها وغزلها بالرجل.
المدوّنة الغنائية النسائية: الهويّة الضائعة
يُجمع الباحثون في أغاني النساء بتونس على حقائقَ ثلاث: الأولى أنّ أغلب صاحبات الأبيات مجهولات،1 وذلك "للتقية والخوف من العار الذي يلحق بقائلته"،2 ويرجع الباحث محمّد الطاهر اللطيفي ذلك إلى الغزل الأخضر الذي يُعتبر أهم موضوعات الشعر الشعبي؛ فهو "ليس محبّذًا من قبل أغلب العائلات التونسية التي ترى فيه جرأة كبيرة [...] ومن هذا المنظور لا يمكن للمرأة أن تجاهر بقول هذا الشعر"،3 والحقيقة الثانية أنّ هذه المدوّنة الغنائية مهدّدةٌ بالاندثار4 لاعتباراتٍ كثيرةٍ، منها مركّبات الاستعلاء التي ترى في المدوّنة مساسًا من ذكورية المجتمع، وللفهم المغلوط للحداثة الذي يرى في هذه المدوّنة صورةً لمجتمعٍ متأخّرٍ حضاريًا، ممّا جعل بعض الباحثين يترفّعون عن الخوض في هذا الموضوع، أو الموقف الديني المحافظ الذي يستنكر أصحابه "الخلاعة" في هذه الأغاني،5 والحقيقة الثالثة أنّ كثيرًا من الأغاني التي أدّتها النساء هي من تأليف الرجال "ممّا يجعل عبارة «أغاني النساء» متّصلةً بالأداء أكثر ممّا هي متّصلة بالمنشأ والتأليف"،6 والسبب يتمثّل في استنكاف الرجال عن الغناء وترفّعهم عنه نظرًا لما "تقتضيه قيم الجدّ والفتوّة"،7 فلا بد من التفريق هنا بين شعر النساء القليل، وغناء النساء الكثير.
والمدوّنة الغنائية النسائية ممتدّة التاريخ والجغرافيا،8 ونجدها في البيئة البدويّة متّصلةً بمقاماتٍ ثلاثة: أغاني الملّالية، وأغاني المحفل، وأغاني الأطراق. أمّا في المدن والبيئة الحضريّة – منذ بدايات القرن العشرين – فقد اقترضت الأغاني كثيرًا من أغاني الأطراق البدوية خاصة، وذلك "لقوّة الاختلاط وتأثير الأغلبية"،9 وهو اللون الذي سُمّي بالعروبي، كما اقترضت من الموشّحات الأندلسيّة والأزجال وغيرها.
أمّا الملّالية – أو «الملّولية» في بعض المناطق – فهي أغانٍ غزلية "ذات طابع إباحيّ عامّة"،10 وسبب التسمية يرجع إلى افتتاح جميع أبياتها بلازمة هي "يا لا لا"، وهي تذكّر بلوازم مطالع الأغاني المشرقية التي تذكر الليلَ وتناجيه، وقد بلغ من لصوق الملّالية بالغزل الأنثوي -كما سنرى - أن اعتبر بعضهم أنّ "الأغاني النسائية بامتياز إنّما هي أغاني الملّالية"،11 وانتشرت هذه الأغاني في برّ الهمّامة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
أمّا أغاني المحفل فهي التي تؤدّى بمناسبة عرسٍ أو ختانٍ أو فرحٍ ما، حيث تتجمّع النساء بزينتهنّ "وراء هودج مزيّن" وفُرسانٌ حوله يطلقون أعيرةً نارية احتفالية،12 ولبعض هذه المناسبات طقوسٌ خاصّةٌ في الغناء، فالعرس الذي يمتدّ في الثقافة البدوية على سبعة أيام وسبع ليال تُعرف كلّ سهرة فيه باسم «النجمة»، وهي تسميةٌ مستمدّةٌ من إيقاد النار في الليلة الأولى من العرس والتحلّق حولها،13 "إيذانًا ببدئه وإعلانًا له"،14 ويتاح فيها للنساء الغناء في الغزل في آخر السهرة بعد أن ينسحب الشيوخ، تحرّجًا منهم، والمحفل من أقوى أسباب حفظ أغاني النساء، لالتزامهنّ بتأديتهما في كلّ مناسبة.
وأمّا أغاني «الأطراق» فاختلافها الجوهري عن أغاني المحفل هو نزوعها المحض إلى الغزل والتشبيب، ما رشّحه لتشكيل قسم «العروبي»؛ قسم الأغاني المتسرّبة من الأرياف إلى المدن، وهو محلّ لبسٍ بينهما أحيانًا،15 في حين التصقت أغاني المحفل بالثقافة البدوية لا تكاد تفارقها، وحتّى الغزل فيها يتداخل مع أغراض أخرى.
وننوّه هنا بقيمة التراث الغنائي النسائي في جهة الشمال الغربي التونسي، لاسيّما ولاية الكاف، إذ تبوح الأغاني باجتراء المرأة على التعبير عمّا يضطرم في داخلها من العشق والشهوة إلى حبيبها، ولعل ذلك راجعٌ إلى "التعايش الإنساني بين أهل الكتاب" إذ كانت موضع التقاء لأعراقٍ كثيرة عبر التاريخ، ولا أدلّ على ذلك من معالمها الأثرية التي "تعكس آثار تعاقب الحضارات".16
سننطلق في تشكلينا لصورة الرجل في أغاني المرأة من المدوّنة النسائية قديمها وحديثها، ببداوتها وحضريّتها.
المرأة المنتفضة: في رفض الدونيّة والذكورية
تجاهر الكثير من أغاني النساء برفض المرأة الصريح للرضوخ إلى ما تمليه عليها الأعراف والتقاليد من الطاعة التامة والاهتداء باختيارات أهلها في كلّ ما له صلةٌ بمستقبلها ووضعها، لاسيّما في علاقتها بالرجل، فهذه امرأة تفضّل «العزوبية» على زواج «الهانة» الذي حطّ من قيمتها، وتستذكر حبيبها الذي حرمت منه، فإذا بها كالناقة التي هدّتها أحمالٌ من حطبٍ، وتشبّه قلقها واضطرابها باضطراب «الريحانة»؛ نوعٌ من الحُلي يوضع على الصدر:
"يا لا لا يمّة ادَقْديقي (تحطّمي)***ادقديق الناقة بحطبها
صغيرة ومفارقة صاحبها
يا لالا يمّة ادَلْويحي (قلقها)***ادلويح سلاسل الريحانة
عزوبة ولا زواج الهانة"
بل قد يبلغ بها الرفض حدّ استعجال الطلاق، وتهدّد دون ذلك بأن تطيش فلا تبالي بما تجرّه من "فضائح" لأهلها:
"قولو للراجل يعجّل بالطلقةْ***لا نولّي فريخة (طائشة) ونخش الجوّة (الخلاء)"
ويبلغ من تملّكها إرادتها وحريّتها أن تهاجم المتحرّش بها، فتنعته بـ "الكلب" وتطرده باللفظ الذي تطرد به الكلاب "شِرْ!"، وتذكّره بأنّ المحبّة لا تطلب بالقوّة:
"يا كلب الصوّة (البادية)***ما تكثّر عليّ دوّة
المحبّة ما تجي بالقوّة***نا ما نحبّش صاحب ثاني
شِرْ ارقدْ!"
وفي أغنية «أمان أمان يا الماني» تدعو المرأة - معابثة - على أمّها وأبيها بأن يحجّا حتّى يتسنّى لها الزواج بمن تحبّ وترحل معه، ثمّ تدعو عليهما بأن يسقطا في حفرة عميقة حتّى تتخلّص منها ثمّ "تشتري" زوجًا باختيارها، ويثوي وراء هذا العبث رفضٌ صارخ للسلطة الأبوية التي تفرض على الفتاة الامتثال لمنوالٍ محافظ في التربية يُعدّها لزواجٍ "صالح" بتدبيرهما ولا يكون لها فيه خيارٌ عادة:
"بابا وأمي يعطيهم مشية للحجّ***وناخذ راجل ونهجّ
بابا وأمي يعطيهم طيحة (سقطة) في فوسي (حفرة)***وناخذ (أتزوج) راجل بفلوسي"
ولهذه الجرأة تفسيران أساسيان، فالباحث في أغاني النساء أحمد الخصخوصي بعد أن سأل: "كيف يتسنّى لامرأةٍ بدويّة أن تقول مثل هذه الأبيات في وسط حازم وبيئة صارمة تحكمها التقاليد ويكبّلها العرف؟" يفترض أنّ هذا الشعر: "لا تكاد تغنّيه المغنّية إلّا بينها وبين نفسها عندما تكون في بعض خلواتها وقد أمنت الرقيب وتخلّصت من الحرج"،17 وفي عمله الثاني مع نعيمة غانمي، أرجع السبب إلى مقاسمة المرأة الرجل مختلف الأنشطة الفلاحية، كالحصاد والرعي وجلب الماء والحطب، وهو ما جعلها "تنعم بحريّةٍ أكثر من أختها بالمدينة، فلا تشكو رقابة الحجّاب الصارمة".18
الغزل الأنثويّ: مشتهى المرأة من جسد الرجل
وصفت أغاني النساء كلّ شيءٍ تقريبًا في مشتهى المرأة من الرجل، ويخرج الغزل أحيانًا من مجرّد التلميح إلى تصريحٍ إباحيٍّ بمكامن الإثارة في جسد معشوقها، ويفتنها الجمال كما يفتتن بجمالها الرجل، وإذْ كان النظر إليه داءٌ يفقدها صوابها، فإطالة النظر دواءٌ تؤمّل منه استرداد ما ذهب من عقلها:
"ريت الزين عندك يا ابن أمّي***إن شاء الله الحبّ يجلّي لي غمّي
نظلّ نراك ويرجع لي صوابه"
فمن الموصوفات العيون والشفاه والأسنان، وهذه أبياتٌ من الملّالية تتلمّظ فيها المرأة اشتهاءً ورغبة، مع فرادةٍ في وصف الشفاه والأسنان بالمعالم المعمارية الرومانية لمدينة سبيطلة الأثرية:
"يا لا لا يا عليه عيون***أسود من سالف روميةْ
شفّة وأنياب غرّو بيّا
يا لا لا هزّيت عيوني***قابلتني سبيطلة مبنية
شفّة وأنياب غرّو بيّا"
وقد تُشبّه العينان بعين الغزال وهو يرضع ثدي أمّه، فذلك الرنوّ الذي في عينيه يثيرها ولا تلبث أن تفضحها شهوتها، فتتهدّد الواشي وتأمره بكتم ما رأى منها:
"يا لا لا ما اسود عيونو***عين الغزال يرضع في أمّو
قول للقوّاد (الواشي) يحكم فمّو (يغلق فمه)"
وصورة الغزال متردّدة كثيرًا في أغاني النساء، وهي من التشابيه المتبادلة بين المرأة والرجل؛ كلاهما ينعت الآخر بها:
"يا للا يا القصبة (الناي) رنّت***وضربها واحد منّوبي
خالي غزال دم عروبي"
وتجد المرأة في روائح لباس الرجل نشوةً تذكّرها بروائح العطور بدكاكين المدينة العتيقة في ولاية صفاقس، وقد شرعت أبوابها جميعًا على ما فيها من روائح أخّاذة، وترى السعيدة من "حازته" قبل غيرها، وهذا الترابط بين الرائحة والحيازة يدلّ على الرغبة في قضاء وطرٍ أثارته الروائح:
"يا لا لا يا ريحة برانيسو *** حوانيت صفاقس محلولةْ"
ويحدث أن يؤثّر فيها بعض لباسه، فإذا هي "جسد بلا روح" من وقع منظر حذائه الرفيع من نوع "عنق حمامة" فيها مثلا، إذ كانت هذه الماركات من علامات الأناقة:
"يا لا لا واش (ماذا) ريتو لابس***لابس صبّاط (حذاء) عنق حمامة
خلّاني جهامة (بدن بلا روح) نترامى (أتساقط)"
ويظهر التعالق قويًّا بين لباس الرجل واشتهائه في الأبيات التالية التي تجاهر فيها المرأة برغبتها في الذهاب مع معشوقها الأنيق إلى بيته، وترى أنّ السعيدة من تحوزه و"تقبض" عليه:
"ما اسمحْ خيالهْ ولبستو برنوسو***وكان شهوتي إرّوح معاه لُحوشَه
ما اسمح خيالَهْ لبسته في بلوزة***ويا سعد من تسهبه وتحوزَه"
وربّما تستعيض عن جسده بأغراضٍ له، لاسيّما البندقيّة، وهي في الثقافة البدويّة معادلٌ رمزيّ للرجولة والفحولة المطلوبين في الرغائب الشهوانية للمرأة، ولعلنا لا نبالغ إن اعتبرنا السلاح معادلًا كذلك لقضيب الرجل، فهذا البيت الذي تذكر فيه المرأة أثر السلاح في نفسها وقد "شحن" بالرصاص، فيه إلماحٌ خفيّ إلى التشوّف للفحولة والإشباع، ويستثيرها فيه ترصيعه بالمعادن الثمينة كالفضّة وغيرها:
"يا لا لا يمّة مقرونه (بندقيته)***راهو معمّر بالحربي
صالح ومحاذيه العربي
يا لالا يا قولو يجينا***يجيب الواد ويتسلهب
مقرونو بالفضّة يلهب"
وقد تجاوز الظاهر ممّا تشتهيه في معشوقها، فتصف منه المستتر من نصفه الأسفل في إباحية صريحة، فتكنّي عن قضيبه بـ "البالة" (أصله سيف تركي، وهو الرفش) وبـ "الخنجر المسلول"، وعن خصيتيه بـ "الزوجين الصغيرين"، وقد عرّى نفسه إذ دخل عليها بيتها:
"جاني للدار***بالبالةْ والزوج الصغارْ
فرخ الدينارْ***في يدّه الخنجر مسلولْ"
ويكثر ذكر حضن المعشوق اختزالًا لكلّ ما في التجربة من مشتهى، وما أكثر مناجاتها طلبًا للارتماء بين ذراعيه:
"راه (إنّ) وحشك عنّي طال***إمتين تلفى (تهتم أو ألقاك) ونجي ما بين يديك"19
لقاء الجسدين: في حضن المعشوق
هذا الجوع إلى جسد المعشوق وأحضانه لم يقف في أغاني النساء عند حدّ التشوّف وتأميل النفس، بل سجّلت أغانٍ كثيرة تفاصيل حميميّة لتجارب ممارسة الحبّ أو مجرّد الجنس أحيانًا، والأمكنة التي تجري فيها وقائع هذه التجارب دائرة في الغالب بين بيت المرأة أو بيت الرجل، مع أمكنة قليلة أخرى، كالبحر والغابة والحديقة.
وتظهر المرأة في كثير من الأغاني قاصدةً بيت "خالها"، وتغتنم لذلك المناسبات التي تخلي طريقها إلى منزله من الناس، كاختيار وقت الدراسة لزيارته:
"يا لا لا والطلبةْ تقرى***دزّيت الباب وولّيتْ
ما لقيتش خالي ولّيتْ"
وهذه اللقاءات تحدث أحيانًا تحت جِنْح الليل، حيث تتسلّل العاشقة بين رغبةٍ في حبيبها ورهبةٍ من أهلها، لكنها قطعت وعدًا باللقاء، فلا سبيل إلى نقضه:
"يا لا لا آش (ماذا) درت (فعلت) لربّي***نطلع حفيانة في الظلمة
صغيرة واعطيت الكلمةْ"
وفي أحيانٍ أخرى يأتيها هو، فينام الليل بين أحضانها:
"الليلة يا الليلة***خالي جاني
الليلة يا الليلة***رقد ما بين أحضاني"
وقد يُمثّل لها حبيبها في المنام، فإذا هو معها على "السدّة" (الفراش العالي)، حتّى إذا تيقّظت رغبتها انتبهت من نومها، فيمرّ خياله تاركًا بها لوعةً وحرقةً يؤرّقانها:
"يا لا لا يا البارح نحلم***نلقى الغزال فوق السدّة
حيّر منامي وتعدّى"
والفراش والسرير والسدّة كثيرة التواتر في هذا اللون الشعريّ، فنجد العاشقة مثلا في أغنية "قالولي جاي" تعدّ نفسها لمّا سمعت بمقدم حبيبها، فتهيّئ جسدها بالزينة والتعطّر، وتعدّ السدّة بالغطاء الناعم والمخدّات، وإن كانت ترى ذلك قليلًا في حقّ حبيبها الذي حرم منها مدّةً:
"قالولي جاي***قلت نكحّلِ ونفوّحْ
حضّرت رداي***للي من لبعاد مروّحْ
صدّقتْ الغير***قلتْ نعلّي في السدّةْ
وفراش حرير***عليه ملاحف مخدّةْ
شاشن في يديا***حرام وسورية
ونقول شوية***على ولفي غايب من مدّةْ"
ونجد هذا المخيال لدى المرأة أيضًا في أغنيةٍ لإسماعيل الحطّاب (من أهم الفنانين الشعبيين، من جهة صفاقس) "والله ما يرويني كاس الحياة بالذلّ"؛ إذ تناجي حبيبها الغائب عنها فتطلب منه العودة وتكنّي عن تمكّن الشوق والاشتهاء منها ببكاء الفراش ونواح المخدّة:
"يزي (يكفي) من سهر الليل قلو يروح***الفرش يبكي والمخدّة (الوسادة) تنوّحْ"
وقد تتواتر مقاطع كاملة في بعض الأغاني تصوّر تفاصيل الوصال؛ حيث تَشِي العاشقة برغبتها الشهوانية في حبيبها داعية إياه إلى التمتّع بها معبّرة عن ذلك بــ "الزهاء (الزهو)" كما في أغنية "لسمر خويا":
"البارح جاني يلقاني راقدة عالمخدة يا مخر الليل تعدّى...
يا لسمر خويا نحبّ نزهه معاك، يا لالي يا لالي...
وارقد وأرقد وتوسد زندي يا لسمر وتمتع يا لسمر..."
وربّما يكون طقس الممارسة في مكانٍ طلق، لا بين جدران الغرفة، فيحدث أن يأتيها إلى حديقة بيتها، حيث تصف المرأة بعض إباحيات المشهد، مقدّمةً ذلك بكون دين حبيبها "على دينها"، والأرجح حسب الصادق الرزقي أنهما على اليهوديّة:
"جاني للجنينة***يا الأغنج يا مذبّل عينَه
ديني على دينَه***عضّ الشفة مع البزّول"
وقد يفاجئها وهي في "السانية" (أرض فلاحية صغيرة) وهي تزرع الذرّة، فيسألها بخبثٍ إن كانت أرضها قد أنبت سنابل، وهي تعلم جيّدا أنّه يشير إلى نضج جسدها، لاسيّما أنه نعتها بالزانية:
"جاني للسانية***لقاني نزرع في القطانيه
قال لي يا زانية***سانيتك عملتشي سبول"
ويحضر الخمر والسكر أحيانًا في مغامرتها، فيصعدان إلى سطح دارها بعيدًا عن الأعين، ويتراميان سكارى، وهي في ذلك الجوّ المجنون تفقد عقلها انتشاء:
"جاني لسطحنا***حلّيت المطلع وطلعنا
سكارى تلوّحنا***خلّاني عقلي مخبول"
وربّما تتخلَّف المرأة عن صواحبها عند جمع الحطب من الغابة، لتلّهيها مع خالها في موضع ناءٍ بعيد عن الأنظار، ولا بدّ من زجرٍ تلقاه من أهلها:
"يا لا لا يا مشيت نحطّب***نلقى الحطّابة فاتوني
روّحت لدارنا عايروني"
والليل يهيّج بها رغائبها في معشوقها واشتهاءها له، لاسيّما وقد "نضج المشماش"، كنايةٌ خفيّةٌ عن نضج ثمرات جسد تتشوّف للقِطاف، فتناجي القمر والناس حتّى يأتوا لها بخالها:
"طاح (نضج) المشماش***وخالي ما جاش
عاود يا قمر الليل***جيبولي خالي"20
وقد تدعوه إلى جسدها بكناياتٍ خاصّة، كأن تطلب منه شمّ "الحرقوس" (كالوشم لكنه زائل) لعلمها بأثره في إهاجة غلمته:
"تعالى شِم الحرقوس***هو عاتي وليه ركوب الخيل"21
ومن دلائل أثر الحرقوس في استثارة رغبة الرجل بيتٌ ذكره الصادق الرزقي:
"وشمة على البزّول (الصدر) يا ما ازرقها***حرقت قلبي قبل ما نلحقها"22
أو تغري عشيقها الذي تناديه بـ "عمّها" وتصغّره تدلّلا "العميّم" فتدعوه إلى ما تحت سُرّتها من "حلاوات"، وهذا أجرأ ما عثرنا عليه من الأغاني، لأن منطقة الأرحام لا تكاد تُذكر حتّى في شعر الرجال:
"يا العميّم خوذ وهاتْ***تحت السرّة حلاوات
ثمّة مقَيّل (قيلولة) ثمّة مبات (مبيت)***ثمّة نعديّ سبعة أيامْ"
وقد تبلغ الجرأة حدّ وصف وضعياتٍ حميمةٍ جدًّا بينهما، من ذلك هذه الأبيات التي تبوح فيها لحبيبها بخوفها من أن يبدّلها بغيرها إذا ما ماتت، وتذكّره بـ "خيرها" عليه ومروءتها معه، كأن أباحت له مداعبة حلماتها:
"آه يا عشيري***بالك شي (ربّما) نموت تعمل غيري (تعوضّني بغيري)
تنسى مروّتي عليك وخيري***تنسى دحْنيسك (تمسّحك) على الزيزات (الحلمات)"23
إنّ أغاني النساء شهادةٌ على أنّ المرأة في المجتمع التونسي جُبِلت على الحريّة، ولم تنتظر تشريعات الدولة الحديثة لتفرض ذاتها في ثقافةٍ ذكوريّةٍ شرّعتها تعاليم الفقهاء وأعراف القبيلة، هذا رغم المدّ الظلامي اليوم الذي يحاول طمس هذه الذاكرة الغنائية بالنسيان والتجاهل والإنكار، ورغم الجهود المبذولة من قبل باحثين واعدين في الشعر الشعبي وأغاني النساء فإنّ البحث ما يزال يحتاج استحثاثًا للهمم ومراكمةً الجهود في أعمالٍ جماعية لحفظ ما أمكن من هذه الثروة التي يتهدّدها التفسّخ.
- 1أحمد الخصخوصي ونعيمة غانمي، أغاني النساء في برّ الهمّامة، تقديم مبروك المنّاعي، الأطلسيّة للنشر، ط 1، 2010، ص 25.
- 2الباحث في الشعر الشعبي الأستاذ محيي الدين الخريف ورئيس قسم الأدب الشعبي بوزارة الثقافة التونسية سابقًا، من تقديمه لكتاب أحمد الخصخوصي، من معاني الشعر الشعبي ومعانيه، وزارة الثقافة، 2013، ص 8.
- 3محمد الطاهر اللطيفي، الشعر الشعبي التونسي، المغاربية للطباعة والنشر، 2004، ص 9.
- 4الطاهر اللطيفي، المصدر نفسه، ص 20.
- 5محمد الصادق الرزقي، وهو أول تونسي يؤلّف في الأغاني التونسية، في كتابه «الأغاني التونسية»، دار سحر للمعرفة، المغاربية للطباعة، د.ت، ص 12.
- 6أستاذ الشعر القديم بالجامعة التونسية مبروك المناعي، من تقديمه لكتاب الخصخوصي وغانمي المذكور، ص 11.
- 7الخصخوصي، من مغاني الشعر الشعبي، المصدر السابق، ص 20.
- 8انظروا مقالنا على موقع جيم «إباحيات الجسد في الشعر الشعبي التونسي» للتعمّق في تاريخية البحث في هذا الموضوع.
- 9الصادق الرزقي، المصدر نفسه، ص 239.
- 10الخصخوصي، من مغاني الشعر الشعبي، المصدر السابق، ص 40.
- 11الخصخوصي وغانمي، المصدر السابق، ص 154.
- 12مسطاري بوكثير، خمسون أهزوجة من عمق الذاكرة، إسهام في تدوين التراث الشفوي لمنطقة السند من ولاية قفصة، ط 1، مطبعة قطيف، تونس 2010، ص 11.
- 13بوكثير، المصدر نفسه، ص 11.
- 14بوكثير، المصدر نفسه، ص 91.
- 15بوكثير، المصدر نفسه، ص 84 و89.
- 16 يسرى الشيخاوي، الغناء في الشمال الغربي يتمرد على السلطة الذكورية بالأنوثة. وكذلك، الكاف.. "أزيز أبواب الجنة" ونفحات الآلهة "فينوس".
- 17الخصخوصي، المرجع السابق، ص 21 و26.
- 18الخصخوصي وغانمي، المرجع السابق، ص 154.
- 19الرزقي، المرجع نفسه، ص 263.
- 20هانس شتومهْ، أشعار وأغاني تونسيّة من القرن 19، ترجمة محمّد كبيبو، دار الورّاق، 2015، ص 38، وقد نشر هذا الباحث الألماني المختصّ في الفولكلور التونسي عمله هذا بالاستعانة بتونسيَيْن اثنين مدّاه بمجموعة من الأغاني، وهما حمدة زويتن وعمور بن مرجان حوالي سنة 1893.
- 21الرزقي، المرجع نفسه، ص 263.
- 22الرزقي، المرجع نفس، ص 246.
- 23الرزقي، المرجع نفس، ص 266.
إضافة تعليق جديد