من خلال التحدث عن لحظات الرقص الشخصية وربطها بلحظات مماثلة مذكورة برواية "نساء على أجنحة الحلم" لفاطمة المرنيسي، يلقي النص الضوء على دور الرقص كتعبير ثوري يخلق عالمًا نسويًا مبني على ممارسات اجتماعية قائمة على البهجة.
وُلدت في شقةٍ صغيرةٍ بإحدى ضواحي مدينة الجيزة بمصر. من شباك غرفتي الضيقة، اعتدت النظر للأهرامات الثلاثة، بيني وبينهم بحرٌ من المباني المبنية بالطوب الأحمر. كنت أفكر كثيرًا في نساء عائلة فاطمة المرنيسي، التي وُلدت في حريم بمدينة فاس المغربية. أعلم أن شقّتي لم تكن حريمًا، ولكن كفاطمة، تعودت على تخيل نفسي فتاةً ذات أجنحة، أطير من مكان إلى مكان حينما أرغب بذلك. كبرت وسافرت، ولكن ظلّت فكرة الحريم تراودني في ذهني ووجداني.
أعيش الآن حيث لا يوجد نهرٌ ولا ورد. لم أعد أرى الأهرامات ولكني أرى بحرًا من المباني الزجاجية العملاقة، مُطلّةً على خليج. رافقتني نساء عائلة المرنيسي في فترة الحجر الصحيّ. كنتُ أفكّر فيهنّ باستمرار وفي كلّ النساء المحاصرات داخل بيوتهنّ. كرهتُ المسلسلات التركية ورومانسيّات الجواري ومكائد الحريم. أنظر من شباك غرفتي وأفكر في حبّهن للرقص، تشجعني الفكرة على ترك النافذة مفتوحة والبدء في الدوران. الحركة داخل غرفتي تُشعرني بالحرية ولو للحظات.
زادتني حياة
أريد قلب عالمي اليوم، أريد إعادة بنائه، الآن! أغمض عيناي وأفتحهما لأرى نساء المرنيسي يشددن تلافيف القفاطين قبل أن يشرعن في الرقص. أفتح ذراعيّ وأنضمّ إليهنّ. لم يشعرن بوجودي، عيونهنّ مغمضة، وشعورهن تتطاير في كل مكان. رقصهنّ بدا لي عنيفًا وفجأةً شعرت بالتعب. ولكن عندما تسارعت وتيرة الإيقاع، اعتراني شعورٌ بالغضب، غضبٌ كامنٌ في عضلاتي، شعرت بنبضات الطبول كسَيْلٍ كهربائي أعاد لي الحياة في كل أنحاء جسدي. يذكّرني إيقاعها بدقّات الدفوف والصاجات. تستحوذ جلسات الزار على تفكيري، أرى النساء وهنّ يرقصن على الأرض ويحرّكن رؤوسهن بعنف، منتزعاتٍ لحظاتٍ من الاستشفاء. رقصت معهنّ بكلّ ما لدي من طاقة. أدور حول نفسي دون توقف. يبدو أننا نرقص حين لا تسعفنا اللغة على وصف ما يدور بأذهاننا. أشعر بالتعب مرةً أخرى، ولكني لا أتوقف عن الحركة، أقفز عاليًا وأرمي بجسدي على الأرض، ألتقط أنفاسي وأحرّك ذراعيّ عاليًا وألتقطهما بصدري، أكررّ حركاتي حتى أفقد الوعي.
أفيق وحيدةً في سريري. يستعيد جسدي ذاكرته وأحسّ برغبةٍ شديدةٍ في البكاء. أفتح كتاب فاطمة "نساءٌ على أجنحة الحلم" وأقرأ: "ما كانوا ينعتونه لدينا بالهّم مرضٌ غريب، يختلف عن ذلك الذي تتسبب فيه المشاكل، ذلك أن المرأة التي تعاني مشكلا تعرف سرّ ألمها، في حين أن المرأة المهمومة لا تدري مصدر شقائها".1 أشعر بالاكتئاب وأعرف مصدر شقائي وألمي. العالم يُشعرني بالغثيان. العالم من حولي يُغضبني. غضبي متوارثٌ، تشعر به أمي، وشعرت به جدتي، وبالقطع شعرن به جدات جداتي. أصول نساء عائلتي من بلدانٍ مختلفة، من تونس والسعودية وتركيا. أتساءل: كيف وجدن طريقهنّ إلى مصر؟ هل أحببن أجدادي؟ هل شعرن بالسعادة؟ أريد أن أعرف حكاياتهنّ. أرى آثار ندوب قلقهنّ وخوفهنّ على جسدي. أشعر بالألم، وبعضه لا يمكنني تفسيره. يتجمّد جسدي عند المواجهة وتؤلمني معدتي عندما يشتدّ النقاش، أشعر بارتعاش أحبالي الصوتية وبغصّةٍ في حلقي تمنعني من التعبير عن مشاعري. أسأل كيف يرث الإنسان ذكرياتٍ لا يعرفها، وأجد قصاصاتٍ لأحجية فقدت أغلب إشارات حلها. أخبرتني أمّي مرّةً أن جدّتي كانت تحبّ الغناء، أرادت أن تُصبح مغنيةً ونجحت في مسابقاتٍ كان يُنظّمها محمد عبد الوهاب. ولكن توقف ذلك كله عندما علم والدها بالأمر. لا أتذكّر صوت جدتي، ولكنها تزورني في الأحلام. تغنّي وتطلب مني الانضمام إليها. أفتح فمي وأحاول دون جدوى. ذكرياتٌ تحاصرني، ذكرياتٌ لم أعشها ولكني سمعت عنها من أمي وجدّاتي. لم يورّثنني أسماءهنّ ولكني ورثت آلامهنّ. أشعر بالغضب، من أجلهنّ ومن أجلي. سأظل غاضبةً، وسأغضب أكثر حين يقولون أنّ الغضب ليس من حقي.
أغمض عينيّ مرّةً أخرى وأستدعي نساء عائلة المرنيسي. أحكي لهنً عن غضبي وعن رغبتي الشديدة في الصراخ. تسألني إحداهنّ: "هل ترين الطبيعة؟" أفتح عينيً وأتذكر أنّه لا يمكنني الخروج. كم أودّ أن أذهب إلى البحر وألمس بقدمي الرّمال المبلّلة. لا يمكنني الخروج. ألعن هذا الكوكب، وألعن فشل وظلم أهله. وأقرأ: "الطبيعة هي أفضل صديقةٍ للمرأة، وإذا ما كانت لديك مشاكل، يكفي أن تسبحي في نهر أو تستلقي في حقل وردٍ أو تراقبي النجوم. هكذا تبرأ المرأة من خوفها". أتذكر كلماتها كلما راقبت القمر. سأرقص وحدي الليلة. أفتح النافذة، أتجه برأسي نحو السماء، أدور وأستمتع بنسمات الهواء وهي تتخللّ شعري. الرقص وسيلتي الوحيدة للنجاة من هذا العالم الموحش. أرقص رغمًا عنكم. أتذكر الكتاب وأقرأ: "بإمكان الأحلام أن تغير حياتك، كما أن بإمكانها أن تغير العالم في النهاية. التحرر يبدأ حين ترقص الصور في ذهنك". أرقص للقمر، أرقص مع القمر، أرقص لجمهورٍ افتراضي، يصفقن ويغنين، تبعث ابتساماتهن فيّ البهجة، أمتلكها وحدي، أمتلك تلك اللحظات السعيدة ويعلم قلبي أنها ثورة حقيقيّة على كلّ من لعن جسدي.
تقول أمي إن السجن هو سجن العقل والقلب وليس الجسد. ولكني يا أمي أحتاج إلى جسدي. جسدي الوارث لكل تلك الندوب. لم يعد بإمكاننا ترك العالم من حولنا ينتهكنا بهذا الشكل، لم تعد أجسادنا قادرةً على تحمّل كلّ هذه الكراهية. أعلم يا أمي أن السماء رحبةٌ، ولكني أريد العيش هنا على الأرض. أريد أن أتعلّم كيف أقاوم الاحتقار. وأقرأ: "إذا قاومت الاحتقار وحلمت بعالمٍ مخالفٍ تتغير وجهة الأرض. ولكن ما عليك تجنّبه بأي ثمن، هو أن يمتد هذا الاحتقار الذي يحيط بك إلى داخلك".
الثورة النسوية آتيةٌ، وسَنُغرِق العالم غضبًا. غضبنا يدفعنا نحو الحركة والتغيير. أفتح كتاب فاطمة وأقرأ: "على الثورة النسائية أن تغرق الرجال والنساء في بحرٍ من الحنان". لا، لن أسمّيه حنانًا، بل هي ألفة التواجد في أجسادنا. أقولها بصوتٍ عال: كيف سيبدو عالمنا عندما تكون نقطة البداية هي المتعة والسعادة؟ نمارس المتعة والسعادة الآن لنخلق ذكرياتٍ جديدة لأجساد المستقبل. راديكالية حب الذات ستخلق عالمًا عادلًا، وبإمكاني تخيل أول رقصةٍ في هذا العالم الجديد: رقصة جماعية، تخلو من توترات فقدان السيطرة، وتخلو من التعب. لا يمكنني أن أمحي الماضي، ولكن برقصتي، يرقص نسبي ونسلي، وسويًا، نخلق مساحةً جديدةً تعطي من كانت مساحةً للتداوي من الإرث المؤلم، وتعطي من تكون جسدًا جديدًا أكثرُ خفةً.
- 1جميع الاقتباسات بين ظفرين مأخوذة من كتاب فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، منشورات الفنك، 2007
إضافة تعليق جديد