بريشة السودانيات وألوانهنّ: ذاكرةُ العنف وشفاءٌ واستمرار

تستمدّ أماني أزهري إلهامها من جلسات الفتيات الخاصة، وتقول الفنانة التشكيلية النسوية السودانية: "في تلك الجلسات تُعبّر الفتيات عن أفكارهن وخبراتهن في مجتمعات تفرض عليهن القيود والقوانين والحدود. في هذه اللقاءات المكثفة والعميقة، نشارك آلامنا ومخاوفنا وحتى الأشياء الجميلة، والمشاعر التي يصعب البوح بها علنًا."

في أعمال أماني تحتلّ الفتيات الصدارة، وهي تستلهم وجوههن من ملامحها الشخصية لتكون "صوت كلّ امرأة سودانية خُفض صوتها"، كما تقول. 

بالنسبة لأماني فإنّ جلسات الفتيات كانت تاريخيًا وسيلة استخدمتها النساء كعلاج وآلية للتكيّف والشفاء الجماعي. تضيف: "في تلك الجلسات، كانت النساء قادرات على مشاركة كل شيء بدون خوف من الحكم أو الانتقاد."

أماني واحدة من وجوه جيلٍ جديد صاعد من التشكيليات السودانيات اللواتي يرسمن واقع النساء في بلدهنّ؛ جيل يتميّز بجرأة في الطرح، وبقدرة على تحويل القضايا إلى شهادات بصرية تحفظ ذاكرة النساء في الحرب، وقصص من فقدن أحبّائهن أو من اضطررن إلى مغادرة منازلهن قسرًا أو من تعرّضن لمختلف أنواع القهر والعنف والإساءة. 

في خضم ويلات الحرب والنزوح والتشرّد، فقدت فنانات كثيرات في السودان أدوات الرسم ومساحات العمل وأحيانًا حتى منازلهن. ومع ذلك ظلّ الرسم وسيلة أساسية للشفاء وللاستمرار.

تروي التشكيلية والناقدة السودانية راحيل كمال العريفي تجربتها بعد خروجها من الخرطوم، قائلة: "غادرتُ منزلي بعد أشهر طويلة من اندلاع الحرب. كانت فترة قاسية جدًا، كنا خلالها أنا وعائلتي تحت القصف. وبعد انتقالي إلى دولة آمنة بدأت بالرسم للتخفيف من الضغط النفسي. رسمتُ العديد من الأزهار، لأن عمر الأزهار قصير لكنها جميلة وتعبّر عن الحب والأمل".

وتتحدّث العريفي عن دور الفن التشكيلي النسوي في توثيق أحداث الحرب: "من أحداث دارفور إلى مجازر 2013 وصولًا إلى ثورة ديسمبر (2018)، كان هناك دائمًا هاجس لدى الفنانات التشكيليات بشأن العنف الممارس على الإنسان، وخاصة العنف المُوجّه ضد النساء والأطفال. وفي هذه الفترة أبدعت الفنانات في تناول موضوعات العنف بكافة أشكاله، من خلال تفاعل إبداعي حيّ مع قضايا ملموسة لم يكن من السهل التطرّق إليها في السابق."

تاريخٌ ترسمه النساء 

نشأ الفن التشكيلي الأكاديمي النسوي في السودان بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية، إحدى أقدم الكليات في البلاد. تأسست الكلية عام 1936 تحت اسم "مدرسة التصميم والتشكيل"، ثم تحوّلت إلى كلية بأقسام محدودة عام 1946، ولاحقًا أصبحت جزءًا من معهد الكليات التكنولوجية، وهي اليوم تُعرف بـ"جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا / كلية الفنون الجميلة والتطبيقية".

من أبرز رائدات الفن التشكيلي النسوي في السودان هي الدكتورة كمالا إبراهيم إسحاق، المولودة عام 1939، والتي تصف فنها ولوحاتها بأنها فن نسوي يعكس تفاصيل حياة النساء وتجاربهن في السودان. 

درست كمالا في كلية الفنون الجميلة، المعروفة آنذاك بـ"القسم العالي للفنون بمعهد الخرطوم التقني"، ثم تابعت دراستها العليا في الكلية الملكية للفنون بلندن بين عامي 1964 و1966. 

عام 1976 شاركت كمالا في تأسيس مجموعة فنية مفاهيمية عُرفت باسم "البلورية" (Crystalists)، وهي حركة تصدّت للمنظور الذكوري لمدرسة الخرطوم، وتُجسّد في لوحاتها وجوهًا نسائية مشوهة تعبّر عن وقوع النساء في شرك المصير والقدر.

من أبرز أعمالها لوحة بلا عنوان تُعرف بـ"أوجه حواء الأربعة"، والتي تعدّ تجسيدًا بصريًا قويًا لما تعيشه النساء من صراعات داخلية وخارجية.

أما راحيل كمال فترى أن أفكار تحرير النساء كانت مطروحة منذ زمن بعيد، وتحديدًا خلال فترات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، في ظل وجود الاتحاد الاشتراكي واتحاد المرأة. في تلك المرحلة أصبحت النساء قادرات على دخول مجال الفن التشكيلي ومنافسة الرجال. 

تقول: "النساء المنخرطات في العمل العام والسياسي عانين عبر العصور من نقص التوثيق، سواء داخل الأحزاب السياسية أو في الجانب الاقتصادي والفني عمومًا، إذ لم يكن هناك توثيق كافٍ لإنجازاتهن أو مبادراتهن أو أثرهن."

وتأسّس الاتحاد النسائي السوداني عام 1952، بمبادرة من النساء المتعلمات في المدن الكبرى، وزوجات الموظفين الحكوميين وكبار ضباط الجيش. وبعد عام من تأسيسه نجحت السودانيات بانتزاع حق التصويت للنساء المتعلمات.

واصل الاتحاد النسائي جهوده عقب ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964، بانتخاب أول امرأة في البرلمان، وهي فاطمة أحمد إبراهيم عام 1965. صمد الاتحاد أيضًا عبر إصدار مجلة "صوت المرأة" رغم التحديات. 

وفي عهد الديكتاتور جعفر نميري (تولّى الحكم بين 1969 - 1985) صار تأسيس منظمات مجتمع مدني ممنوعًا، لكن الحركة النسوية تطوّرت بشكل آخر، وظهر اتحاد نساء السودان تحت مظلّة الاتحاد الاشتراكي الذي نشط في جنوب السودان على وجه الخصوص. شهدت تلك المرحلة تحولًا ملحوظًا في أوضاع المرأة العاملة، إذ تدرجت النساء في المناصب الدبلوماسية والقضائية.

فن راديكالي

تقول الفنانة التشكيلية من الجيل الحديث (في العشرينيات والثلاثينيات من العمر) إسراء رحمة: "الفن التشكيلي النسوي بالنسبة لي لا ينفصل عن الحركة النسوية بوصفه مفهومًا، لأن الحركة النسوية تهدف إلى إنهاء المظالم وتحقيق العدالة والمساواة. والفن التشكيلي النسوي يستخدم نفس الآليات بمختلف وسائطه، سواء كان في صورة جداريات - كما ظهر على نطاق واسع منذ بداية ثورة ديسمبر -  أو لوحات أو فن تشكيلي رقمي" .

وتضيف إسراء: "الفن التشكيلي النسوي لا يشترط أن تكون الفنانة امرأة، فهناك أيضًا رجال مهتمون بالقضايا النسوية التي يعكسونها في أعمالهم."

غالبية الفن النسوي يُصنَّف بأنه راديكالي، وذلك منذ لحظة ظهوره في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مع صعود الموجات النسوية. في السياق السوداني أيضًا برز في السنوات القليلة الماضية بصورة ملحوظة مع اندلاع ثورة 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، حين خصصت الفنانات التشكيليات لوحاتهنّ لطرح مواضيع العنف المؤسسي، والعنف المبني على النوع الاجتماعي وقضايا مثل الصحة الإنجابية بكل انفتاح ودون قيود.

يُعدّ السودان من أكثر الدول تنوعًا إثنيًا وقبليًا وجغرافيًا، وبسبب ذلك فإنه قد شهد حروبًا طويلة الأمد. وغالبًا ما استُخدمت أجساد النساء كسلاح في تلك الحروب، إذ تعرّضن لانتهاكات جنسية ونفسية مثل الاغتصاب والاسترقاق والقتل والإذلال والتهجير القسري. 

لا تجسد اللوحات النسوية الانتهاكات باعتبارها انعكاسًا لواقع مرير فقط، لكنها أيضًا تصوّر الإنجاز والانتصار وانتفاضة النساء، كما بدا واضحًا في الجداريات التي رُسمت في الشوارع والطرقات وداخل أسوار الجامعات، خلال فترة اندلاع ثورة ديسمبر.

ومع هذا البروز المتزايد للفنّ التشكيلي النسوي، بدأت منصات ومبادرات نسوية في إطلاق فعاليات ومعارض سواء كانت فعلية أو رقمية، لعرض أعمال الفنانات التشكيليات من بينها: بيت التشكيليات السودانيات ومنصة بيت النساء ومركز أم درمان الثقافي وبيت التراث بالخرطوم.

تقول التشكيلية يثرب حسن: "تحاول الفنانة أن تُسقط تجربتها على العمل بشكل انفعالي، سواء كان نحتًا أو تصويرًا أو تلوينًا، مع عكس التجارب بمصداقية، فلكل فنانة طريقتها في ترجمة الأحداث إلى تشكيل نسوي."

في إحدى لوحاتها تعبّر الفنانة التشكيلية ترتيل عثمان عن العنف الجسدي، وتحديدًا ما يتعرضن له من ضرب على يد الذكور لتقييد حريتهن وحقهن في التعبير. تحاول المرأة في هذه اللوحة أن تقف بوجه تلك العداوات طويلة الأمد، وتتصدى لها بكل شجاعة وتحدٍّ واضح.

أما الفنانة التشكيلية إكرام حماد، فقدّمت عام 2023 لوحة بعنوان "ذاكرة الصمت"، والتي تُجسّد فيها ما تحمله النساء من مآسٍ سواء في دواخلهن أو في محيطهن، حيث ترمز الخطوط في اللوحة إلى الجراح المفتوحة لهن. وتشير إكرام إلى أن النساء كُنّ يحملن أعباءً ثقيلة حتى قبل الحرب، لكن بعد اندلاعها تضاعفت هذه الأعباء، وألقيت على كاهلهن المسؤوليات كافة، من توفير الرعاية الأساسية إلى إعالة الأسرة، وبالتي استمر بحثهن عن الأمان والاستقرار.

تضيف إكرام أنّ الفن التشكيلي النسوي في السودان يتميّز بقدرته على إعادة تشكيل ورواية الأحداث من منظور النساء، فهو لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يسلّط الضوء على التجارب العاطفية والجسدية والنفسية التي تعيشها النساء في سياقات متعددة.

وتوضح: "عندما نتناول أحداثًا مثل الحرب أو الأزمات السياسية، لا نركّز فقط على مشاهد العنف والدمار، بل نسلّط الضوء على التأثير العميق لتلك الأحداث على النساء، من فقدان الأسرة والنزوح والاستغلال، إلى الصمود وإعادة البناء."

وترى أن الفن التشكيلي النسوي يصبح من خلال هذه الأعمال "بمثابة وثيقة بصرية تحفظ الذاكرة النسائية، فهو يُظهر كيف تعيش النساء السودانيات هذه الأحداث، بعيدًا عن السرديات التقليدية التي كثيرًا ما تروي الحروب والأزمات من زوايا أخرى، وتُهمل تفاصيل الحياة اليومية للنساء في هذه الظروف."

وهي ترى أن الفن التشكيلي أصبح جزءًا لا يتجزأ من طرق وعمليات التوثيق، سواء لتاريخ النساء ونضالهن أو لتجسيد قضاياهن، خاصة أنه بات من السهل تداول هذه اللوحات بين الأجيال والعثور عليها، سواء في معارض محددة أو عبر مكتبات فنية إلكترونية.

وتُضيف: "من وجهة نظري يُوثّق الفن التشكيلي النسوي تجربة المرأة في الحرب من منظورها، لأن أوجاعنا لا يشعر بها سوانا".  

طريق للشفاء 

يمكن اعتبار الفن النسوي - في حدّ ذاته - إحدى أدوات التفريغ والمعالجة النفسية. في إحدى لوحاتها تصوّر راحيل كمال العريفي نساء تعرضن للانتهاك والعنف، لكنهن يواجهن العالم بنظرات قوية وثابتة رغم ما مررن به من معاناة. يظهر اللون الأحمر على وجوههن كعلامة على الانتهاك، بينما يرمز اللون الأخضر إلى الشفاء. أما الدوائر أو الهالات فتمثل: الحماية والمستقبل المشرق واستمرار الحياة.

في السياق نفسه قدّمت الفنانة إسراء رحمة لوحة بعنوان "Self-Embrace" (احتضان النفس) تظهر فيها عدة أبواب، بعضها واضح والآخر غير مكتمل، مع حزمة مفاتيح معلّقة.

تُعبّر هذه اللوحة عن لحظات الضعف والضغوط والتغيرات الخارجية التي تمر بها النساء، فرغم أن الأبواب تبدو أحيانًا مغلقة أو غائبة، إلا أن التمسك بالأمل والاعتناء بالنفس خاصة في لحظات الانكسار، يمكن أن يفتح أمامهن طريقًا جديدًا للمقاومة.

كما قدّمت إسراء لوحة أخرى بعنوان "Go to Hell"، تظهر فيها امرأة مستلقية على الأرض وتحمل كأسًا. إلى جانبها امرأة أخرى واقفة تحمل مرآة وبقربها عين تتطلع إلى المستقبل، على نحو ما تفعل الساحرات وقارئات الطالع في استبصار رمزي لممكنات التغيير. يظهر في اللوحة أيضًا رمز الشمس والزهرة والشباك كدلالة على أن التغيير ممكن، وأن الحزن والعتمة يمكن أن ينقلبا إلى ضياء وفرح، ليذهب كل ألم "إلى الجحيم".

تتعدد أدوات المقاومة لدى النساء في السودان، وتتشكل بتغير الأحداث لتلائم معالجتها. وهكذا يصبح التوثيق الفني وسيلة للمحاسبة، ولعلو أصوات النساء في مختلف مجالاتهن، في سعيٍ مستمر لخلق واقع آمن وحياة كريمة تستحقها كل امرأة سودانيّة. 

    ملاك جمال بلة

    صحافية مستقلة، وفاعلة نسوية مهتمة بقضايا النساء وتغطية الحرب.

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.