كيف يساعدنا فيلم "الرباط المقدس" في قراءة القضايا الجندريّة في السينما المصريّة؟ وكيف يمكن أن يكون وعاءً للإنتاج الثقافي ويطرح أسئلةً تُزعزع رؤيتنا لذواتنا ومُحيطنا النسائي؟
*****
"مش غلطتَك، لو كان جوزي مهذّب مكانش سمح لنفسه إنه يِطِّلِع على أوراقي الخاصّة من غير إذني، وكمان يِطْلِع عليها الأغراب (...) جوزي أهملني، ولما حسّيت بالفراغ العاطفي لجأتلَِك. كان عندي أمل إني ألاقي عند طبيب الأرواح علاج لطبيب الأجسام، لكن سيادتك طردتني بمجرّد ما عرفت إنّي زوجة. طردتِني عشان تثبت لنفسك إنك راجل دُغري. المبادئ بتسيّرك زيْ القاطرة المُسيّرة على القُضبان. إنت اللي أخرَجتِني من الواقع، جوزي غايب وحضرتك مخاصمني. لقيت نفسي لوحدي، قرّرت أنا والفراغ إنّنا نلعب بالحُبّ. حبّ عرَضه عليَّ شاب بسخاء. لو كان جوزي قدّملي الحُب، لو كنتِ إنتَ قدّمتلي الفهم لمشكلتي، يمكن كُنت ابتسمت للشاب دا برَثاء وصرفتُه من حياتي".
بهذه الكلمات كانت سميحة، الزوجة المُتهمة بـ"الزنا"، تدافع عن نفسها، أمام الأديب المعروف بـ"راهب الفكر" الذي يؤدّي دور الوسيط أو بالأحرى القاضي المُنحاز للزوج في فيلم "الرباط المقدس" (1960). يستند الاتهام إلى مذكّراتها الشخصيّة، التي قرأها زوجها في إحدى الليالي، عندما عاد إلى المنزل، ووجدها نائمة على المكتب أمام كرّاس مفتوح، وتفوح منها رائحة الخمر… ففي هذا المشهد من الفيلم نرى الزوج يقرأ الكرّاس، يستشيط غضبًا، ومن ثمّ يلجأ إلى أحد أصدقائه لمناقشته في الموضوع. يتوجّه إلى راهب الفكر، الكاتب الشهير الذي يثق برأيه وأفكاره، ويُشارك معه دفتر مذكّرات زوجته طالبًا النصح.
تظهر سميحة طوال الفيلم بدور الزوجة التي تحصُر اهتماماتها بالعناية بأناقتها، والذهاب إلى النادي، والاستماع إلى أغانٍ على الراديو، فيما تلعب بعصا الإغراء مع الأديب حينًا، والنحّات الذي اتُهمت بارتكاب الخيانة معه في أحيانٍ أخرى. لكن، بدءًا من ذلك المشهد، تنتقل سميحة إلى الدفاع عن حقّها في التعبير عن خصوصيّتها وخيالاتها ورغباتها، وإلقاء تُهمة الخيانة الزوجيّة عن نفسها كونها لم ترتكبها في الأساس.
تُقدّم هذه المقالة قراءةً لفيلم "الرباط المُقدّس" بالتركيز على نقطتين أساسيّتين: أوّلًا، وضع الفيلم في سياق عام مُرتبط بكيفيّة تقديم القضايا الجندريّة في السينما المصريّة. وثانيًا، تقديم الفيلم كوعاءٍ للإنتاج الثقافي وطرح أسئلةٍ تُزعزع رؤيتنا لذواتنا ومُحيطنا النسائي.
"الرباط المُقدّس" هو فيلم مصريّ من كتابة يوسف جوهر وإخراج محمود ذو الفقار،1 مُقتبس عن رواية لتوفيق الحكيم، وأُنتِج في العام 1960 بعد سنوات عدّة من صدور الرواية. يختلف الفيلم في بعض تفاصيله عن الرواية، لكنّه يحمل عمومًا العديد من الخطوط الدراميّة المُرتبطة بذاتيّة الأديب الذي كرّس حياته لعالم الفكر بعيدًا من الملذّات الدنيويّة؛ قُدسيّة الزواج التي تتكلّل بإنجاب الأبناء، وقضايا فرعيّة أخرى مثل الجسد الرياضي باعتباره أحد معالم الرجولة والذكورة الهشّة. مع ذلك، أركّز في هذا المقال على كيفيّة دفاع سميحة عن نفسها، ومطالبتها بحقّها في التعبير عن إحباطها العاطفي وإنهاكها الجنسي ورغبتها في البحث عن الحميميّة العاطفيّة والشعور بالاهتمام والحبّ.
السينما المصريّة والقضايا الجندرية
إنّ الحديث عن إشكاليّة القضايا النسائيّة والنسويّة في السينما ليس جديدًا، بل يُعدُّ من المحاور الرئيسة التي تهم العديد من الباحثات والباحثين،2 لاسيّما ما تطرحه الأفلام القديمة بشأن المساواة بين الرجل والمرأة عبر تقديم نماذج عدّة لنساءٍ يسعَين إلى تحقيق ذواتهنّ وينجحن في ذلك بجدارة.
على سبيل المثال، ربط المخرج والكاتب إسلام ميلبا، في هذا الإطار، علاقة وسائل الإنتاج وأفكار الصحوة الإسلاميّة بإشكاليّة تحرّر المرأة وتمثيلاتها في السينما المصريّة، وعرض أمثلةً عدّة مثل "مراتي مدير عام" (1966) و"كرامة زوجتي" (1967)، وقارنها بأفلامٍ حديثة، مثل "تيمور وشفيقة" (2007)، تُعزّز الصور الذكوريّة عن الرجال والمُرتبطة بالعُنف والتسلّط والسيطرة والغضب، وقدّم طرحًا مُغايرًا عن الصورة التقدّميّة لهذه الأفلام. أيضًا، قدّم ميلبا أمثلةً أخرى، إذ تناول إشكاليّة تعدّد الزوجات التي عُرِضت في فيلم "الزوجة رقم 13" (1962) من دون الدخول في جدلٍ ديني، بل نقدها في إطارٍ كوميدي رومانسي، بالمقارنة مع مسلسلَي "عائلة الحاج متولي" (2001) و"الزوجة الرابعة" (2012) اللذين يُرسِّخان "استباحة النساء" عبر "استخدام الكوميديا بشكلٍ رجعي"، كما أشار ميلبا.
بعيدًا من أيّ نقاشٍ أيديولوجي عن حتميّة ربط الصحوة بصورة المرأة في السينما المصريّة، تشير المقارنات التي قدّمها ميلبا إلى أهمّية السينما كوعاء إنتاجٍ ثقافي ومعرفي يطرح قضايا ويساهم في ترسيخها، بدلًا من التعامل معها كأداة تسليةٍ يقتصر دورنا فيها على تلقّي المُحتوى الترفيهي.
لا تكفّ السينما المصريّة عن طرح مواضيع شائكةٍ مجتمعيًا وإن قُدِّمت في إطارٍ كوميدي ساخر
لا يمكن حصر الأفلام المصريّة القديمة التي قدّمت طرحًا نسويًا؛ من فيلم "الباب المفتوح" (1963) الذي قدّم شخصية ليلى الرافضة لتناقضات المنظومة القيَميّة لمجتمعها، إلى فيلم "الحقيقة العارية" (1963) الذي طرحَت بطلتُه الفكرة نفسها عن المساواة بين الرجل والمرأة بالإضافة إلى شروط تقييد تعدّد الزوجات. لا تكفّ السينما المصريّة عن طرح مواضيع شائكةٍ مجتمعيًا وإن قُدِّمت في إطارٍ كوميدي ساخر. وفق إسكندر عبدالله، تعمل السينما على "خلخلة رسوخ الفوارق الجسديّة بين الرجل والمرأة وقداستها". في هذا السياق، يدعو عبدالله إلى إعادة النظر في "ثوريّة" بعض الأفلام المصريّة عند تناول قضية العبور الجنسي مثل "الآنسة حنفي"3 (1954)، "بنت اسمها محمود" (1975) و"السادة الرجال" (1978)، ويُناقش في مقالةٍ أخرى تقديم العديد من الفنّانات، مثل شادية وشريهان ونادية الجندي، "نماذج مُلهمةً للكويريّات والكويريّين العرب"، ساعدَت بشكلٍ كبيرٍ في "مجاوزة معياريّة شكل الجسد الذكوري".
الأنوثة، الغواية والبحث عن الحميميّة
بالعودة إلى "الرباط المُقدّس"، يُقدّم الفيلم رؤيةً مختلفةً لمعاني الحبّ والبحث عن الحميميّة. وعلى الرغم من أنّه لا يهدف إلى طرح قضايا المساواة بطريقةٍ مباشرة، أسوةً بالأفلام السابقة، إلّا أنّ تقديم الأنوثة والإغراء في شخصيّة سميحة يُداعب تفكيرنا ويُغازل موروثنا القيَمي بشأن ماهيّة حدود الجسد والمعاني المختلفة للخيانة الزوجيّة.
تدور أحداث فيلم "الرباط المُقدس" حول سميحة، وهي زوجةٌ جميلةٌ وأمّ لطفلةٍ صغيرة، تعاني من إهمال زوجها لها، وانغماسه في حياته المهنيّة، وتعلّقه الشديد بالأدب لا سيّما أعمال الأديب "راهب الفكر". تقرّر سميحة زيارة الأديب في مكتبه بحجّة اهتمامها بالأدب، إلّا أنّ جمالها وأناقتها الظاهرَين في ردائها الأسود البهيّ وكعبها العالي الذي أضاف مزيدًا من الإثارة إلى ساقيها، فضلًا عن تسريحة شعرها وعقدها، دفعا بالأديب إلى الشكّ في هدفها الحقيقي، فأخذ يطرح عليها أسئلةً عدّة كشفَت جهلها بالأدب، قبل أن يطلب منها في النهاية تعلّم "التريكو… حاجة تنفعك". هنا، تصارحه سميحة بهدفها الأساسي وتخرج من مكتبه:
"أنا جاية أستنجد بيك وأطلب منك تعلّمني إزاي أتذوّق الأدب عشان أقترب من ذوق خطيبي وأتخطّى الهوّة اللي بتفصل بيننا".
يوافق الأديب على طلبها ويعطيها كتبًا لتقرأها بالتوازي مع زيارته. بالفعل، تلفت هواية سميحة الجديدة انتباه زوجها، إلّا أن اهتمامه بذاتها الأنثويّة يبقى محدودًا أو غير مُرضٍ.
اللافت أنّ سميحة لم تُعرِّف عن نفسها كامرأةٍ متزوّجةٍ أمام "راهب الفكر"، بل بنَت صورةً جديدةً عن نفسها بصفتها امرأة مخطوبة. عندما يكتشف الأديب أمرها يستشيط غضبًا، فيخرج من صومعته الفكريّة بعد أن فتنته سميحة ويواجها بكذب ادعائها. لكنّ ردّ سميحة يحمل الكثير من الدلال والإغواء لتبرير موقفها:
"أنا مش شايفة إنّ الكذب مزعج للدرجادي، أنا بعتبره من المجوهرات اللي بتتحلّى بيها الستّ، أو شوية بودرة بتترشّ على وجه الحقيقة عشان يبقى شكلها مقبول".
بعد انتهاء صداقتها المطليّة بالافتتان والإغواء مع "راهب الفكر"، تعود سميحة إلى حياتها الرتيبة، إلى حين ظهور رجلٍ آخر يحاول استدراجها بشتّى الألاعيب ويغدق عليها من المشاعر ما تفتقد، حتى تبادله الحبّ في منزله. يومذاك، تتراقص أشواقُ جسدها… ثم تتراجع عمّا كان مُخططًا له ضمنيًا. لكن الرجل يُصرّ على التمادي، فتضربه بإحدى منحوتاته وتلوذ بالفرار عائدةً إلى منزلها وابنتها. تغفو سميحة وهي تُسجّل خواطرها في كرّاسها، قبل أن يقع الزوج على كتاباتها:
"قُرب زوجي مني لم يعد يُثير أيّ نشوةٍ قويّة، إنّي أفكر في الهروب من بيتي كي تكون أحضان حبيبي هي مقرّي إلى الأبد. هل من الضروري أنّ أهرب معه؟ لقد طلب ذلك مني ونحن في نشوة الغرام، ولكنّي أقنعته أنّه يكفيني أن نختلس بعض الوقت أثناء انشغال زوجي".
واقعيّة الأحداث التي تُسجلها سميحة، سواء لناحية التفاصيل الحقيقيّة التي تسردها من مُحيطها أو تعبيرها الصريح عن رغباتها، تدفع بالزوج إلى محاولة التأكّد من وقوع خيانةٍ زوجيّة، فيُعيّن صديقه "راهب الفكر" وسيطًا بالنيابة عنه ليطلب إلى زوجته الانفصال والتخلّي عن ابنتها.
"إنني ظمأى إلى حُبّ وإعجاب عدّة رجال، لا لرجلٍ واحد".
نسمع هذه العبارة أكثر من مرّةٍ في الفيلم، تارةً على لسان الزوجة أثناء تدوين خواطرها، وتارةً أخرى على لسان الزوج عند قراءته السطور واستشاطته غضباً، وطورًا عند قراءة "راهب الفكر" الكرّاس بنفسه. تُثير هذه الجملة حفيظة الزوج والأديب على حدّ سواء، وتُداعب منظومة المُشاهد القيميّة والثقافيّة:
"ما فيش ستّ مهما تكون عاقلة ما بتحلمش بالمغامرات".
تُردّد سميحة هذه الجملة وتدعونا إلى التساؤل: متى يُعتبر تبادل كلمات وأفعال الإطراء والغزل والإغراء خيانةً؟
الجسد توّاقٌ لمن يشتهيه، والنفس توّاقةٌ لمن يحنو عليها، وبين هذا وذاك تتشابك مفاهيمُ ودلالات الحميميّة التي نتناساها من خلال مبرّراتٍ معياريّةٍ وجندريّةٍ عدّة
في النهاية، تنتصر سميحة مرّاتٍ عدّة: عند تبرئتها أمام الجميع، ومن ثمّ عند مواجهتها الأديب الشهير بتناقضاته الفكريّة ورجولته الهشّة، وأخيرًا عند إثبات قدرتها على الإبداع والكتابة والتعبير الفصيح عن عوالم محظورة. في الواقع، يدعو الفيلم إلى الاعتراف صراحةً بالمسؤوليّة المُشتركة بين الرجل والمرأة، فالزوج مسؤولٌ بإهماله زوجته، لكنّ مغزى الرسالة أبعد من ذلك. لقد ساعدني الفيلم في استحضار كلّ عبارات الإطراء والغزل التي رأيتُ العديد من النساء من مختلف الأجيال والطبقات الاجتماعية يتبادلنها في الأسواق والنقل العام وغيرها من الأماكن. وعلى نحوٍ أكثر خصوصيّة، دفعني الفيلم - الذي أُنتِج في الستينات - إلى إعادة التفكير في جدّتي، وأمّي، وخالتي، وزوجات عمّي والعديد من الصديقات المتزوّجات حديثًا، ونزع الصور النمطيّة التي فُرِضت على أدوارهنّ الاجتماعية. كيف يشعرن، بل كيف يُعبّرن عن إحباطهنّ العاطفي والجنسي؟ كيف يتعايشن مع لحظات إجهاض مشاعرهنّ وبتر أشواقهنّ المُبتَسَرة؟ كيف تحفّز عبارات الغزل ونظرات الإغراء عوالم مُتخيّلة من المغامرات كردّ فعلٍ على الإحباطات العاطفية والجنسية؟
الجسد توّاقٌ لمن يشتهيه، والنفس توّاقةٌ لمن يحنو عليها، وبين هذا وذاك تتشابك مفاهيمُ ودلالات الحميميّة التي نتناساها من خلال مبرّراتٍ معياريّةٍ وجندريّةٍ عدّة. الإغراء فنٌّ وكذلك الأمومة؛ أمورٌ تؤكّدها سميحة في الفيلم، وتدعونا إلى إعادة التفكير فيها من خلال التشبّث بالحقّ في التعبير عن الخيالات والتفضيلات والرغبات الحسّية والعاطفية والجنسية. وهذا أحد أدوار السينما. إنّها وعاءٌ وأرشيفٌ للتعبير عن مشاعرنا ومُعايشة تجارب أخرى نطرح من خلالها أسئلةً تهزّ وتتحدّى ثوابتنا ورؤيتنا المحدودة للجسد والحميميّة.
- 1تعاونا أيضًا على تحويل رواية "الأيدي الناعمة" لتوفيق الحكيم إلى فيلم سينمائي.
- 2 تعرض الباحثة فيولا شفيق في كتابها "عن صور الجندر، الطبقة الاجتماعيّة، والوطن في السينما المصرية"، العديد من الدراسات التي تناولت صورة المرأة، وتقتصر على تحليل الصورة المُقدّمة من دون الخوض في عمليّة إنتاج الصورة. لهذا تطرح شفيق إعادة قراءة السينما المصريّة من خلال تسليط الضوء على القضايا النسائيّة والنسويّة عبر مناقشة دور المخرجات كأحد القائمين/ات بالعمل.
- 3اللافت للانتباه أنّ مخرج هذا الفيلم هو أيضًا مخرج "كرامة زوجتي"، و"مراتي مدير عام" اللذين سبق ذكرهما.
إضافة تعليق جديد