أن تُغرّد وحيدا داخل السرب

 لا أحد يُمكنه اكتشاف أنّني مصابة بالأسبرجر إلاّ نادرًا فقدرتي على التماهي والتضليل الإجباريّ عالية. وفي كلّ مرّة أصارح أحدهم أو إحداهنّ بأنّني على طيف التوحّد أسمع نفس الإجابة: "ولكن لا يبدو على مظهرك أنك متوحدة".

شغفي بالطيور ومراقبتها لا حد له، أستطيع تعيين هوية قرابة المائة وتسعين طائرًا المقيمين بمصر، وقرابة الثلاثمائة المهاجرين عبر فضائها كلّ عام. أحفظ الطرق الرئيسيّة التي تسلكها الطيور المهاجرة كما أحفظ راحة يديّ. أحفظ أماكن استراحتها إثر عناء هجرة دامت أشهرًا والأماكن التي اتّخذتها للتكاثر. أحفظ عادات تزاوجها وعادات درئها للمخاطر. أحفظ الأنواع التي انقطعت عن المجيء جرّاء التغيّرات المناخية إلى جانب الأنواع المستحدثة في عالم الهجرة. اقتنيت كاميرا احترافية بغرض تصويرها والتدوين عنها. 

في أحد المواقع الرقمية التي تجمعني مع القلّة أمثالي من مُحبّي الطيور، شارك أحدهم مجموعة صور وفيديو لطائر نكات (avocet) تائه عن سربه أثناء هجرته الموسمية، ممّا اضطرّه إلى الانضمام لسرب آخر من طيور أبي المغازل (stilts)، حتى يصل إلى الأماكن الدافئة مُبتغاه من الهجرة. العجيب في الأمر تأقلمه السريع مع السرب الجديد وإجادته تقليد عاداته، بل أكثر من ذلك أصبح يأتمر لقائد السرب كأي فرد من المجموعة الأصلية. علّق أحدهم على الصور ساخرًا: "يبدو أنّ طائر النكات هذا يعاني من أزمة هويّة".

لا أجد ما يمثل سنوات عمري الخمسة وثلاثين أكثر من طائر النكات الضّال، فمنذ سنوات قليلة شُخّصت بمتلازمة أسبرجر أو ما يُعرف حديثًا باضطراب الطيف التوحدي عالي الوظيفة والأداء. عندما يُذكر طيف التوحّد تقفز إلى معظم الأذهان مباشرة صورة ريموند التي أجاد تمثيلها داستن هوفمان في فيلم رجل المطر (Rain Man)، ذلك المتوحّد الساذج الذي لا ينظر أبدًا إلى عين محدّثه ولا يتحمّل الملامسة. يعيش في عالمه الخاص ويُعيد يوميًّا دون كلل أو ملل نفس العادات والطقوس، وإذا حاول أحدهم الإخلال بهذه الطقوس يُحسّ بأنّ عالمه على وشك الانهيار. يحفظ عن ظهر قلب دليل الهاتف، بارع في الأرقام والحسابات حتّى أن أخاه تشارلي استغلّ موهبته الاستثنائية في جني الأموال من نوادي المقامرة. عندما  سأل تشارلي طبيب ريموند النفسي عن ماهيّة مرضه أجابه الطبيب قائلا: "لديه توحّد وهي إعاقة تسبب خللا في المدخلات الحسية وكيفية معالجتها". لم يفهم تشارلي ما قاله الطبيب فردّ ساخرًا: "بالإنجليزية من فضلك، حدثني بلغة أفهمها".

حسنا، سأتولى الإجابة عن طبيب ريموند وأرجو أن تكون لغتي مفهومة، ولكن أوّلا دعنا نتفق أنّه لا يوجد شخصان متوحدان متماثلان. درجات التوحّد متفاوتة من شخص إلى آخر لذلك سُمي بـ"طيف التوحد"، ريموند مثلا ينتمي إلى نسبة لا تزيد عن العشرة في المائة من المتوحّدين الذين يملكون قدرات استثنائية حسابية كانت أو موسيقية أو متعلّقة بالذاكرة، ويُطلق عليهم بـ"المتوحّدين العالِمين". هناك من المتوحّدين من يعانون من اختلال شديد في القدرات اللغوية والذهنية وهناك من هم مثلي، الحاملون لمتلازمة أسبرجر. نحتفظ بذكاء طبيعي وقدرات لغوية طبيعية نسبيًا، غير أن إعاقة مصاب الأسبرجر تتجلّى من خلال صعوبات في التفاعل الاجتماعي وصعوبات في التواصل، مثل تجنب النظر إلى الأعين وتجنب الملامسة بأنواعها من سلام الأيدي إلى الأحضان، إلى جانب صعوبة في استيعاب السخرية والنكتة والكلام "ما بين السطور"، وحساسية مفرطة للأصوات والأضواء، والالتصاق بعادات وهوايات معينة وتكرارها دون ملل. ويزيد احتمال إصابة الذكور بنسبة أربع مرات عن الإناث، ذلك الاحتمال "المخادع" كان سبب معاناتي وتأخر تشخيصي ما يزيد عن الثلاثين عامًا.

بما أنّني أنثى فإنّني مُطالبة منذ نعومة أظافري بأدوار اجتماعية وواجبات تفوق بكثير أقراني الذكور، فالسيناريو المرسوم لي واضحٌ ودقيق؛ مرة يجب أن أكون "البنت الّي بمائة راجل"، ومرة أخرى يجب أن أندرج ضمن "البنات حنينين، كلهن طيبين"، كما غنّت سعاد حسني. يجب عليّ ارتداء القناع الاجتماعي المناسب لكلّ حالة. لا أحد يُمكنه اكتشاف أنّني مصابة بالأسبرجر إلاّ نادرًا فقدرتي على التماهي والتضليل الإجباريّ عالية. وفي كلّ مرّة أصارح أحدهم أو إحداهنّ بأنّني على طيف التوحّد أسمع نفس الإجابة: "ولكن لا يبدو على مظهرك أنك متوحدة". حسدت ريموند كثيرًا على مظهره الذي أهلّه لنيل لقب "متوحد" وتفهم الآخرين لطبيعة إعاقته، ولعنت قدراتي على محاكاة ما يبدو "طبيعيًا" في نظر من حولي وهروبي الدائم من اختلافي.

إذا استغلق عليك الفهم كتشارلي ولم تكن لغتي مفهومة ربما في ذكرياتي بعض الأمل.

 

لا أستطيع أن أكون مثل باقي البنات رغم محاولاتي الجادّة لمحاكاة تصرّفات صديقاتي الناجحات والمثيرات والطيّبات والجريئات والجميلات وتقليدهنّ في كلّ شيء.

أذكر طفولتي كومضات؛ طفلة عالمها بسيط وتحب الوحدة، ملاذها عرائسها المحشوّة بالقطن وقطّتها الصغيرة "قطيفة". تُفضي لعرائسها ولـ"قطيفة" بدواخلها، تستعيد معهم أحداث اليوم بتفاصيلها الدقيقة، وتطلب منهم المشورة في كل شيء. قالت المُدرّسة لأمي بأني لست كباقي الصغيرات؛ دائمة العزلة، بطيئة الاستيعاب، وفي حالة شرود مقيم. يعتصر الحزن قلب أمي. هي ليست المرة الأولى التي تُنعَت فيها طفلتها بتلك الصفات. أتذكر حين واجهتني أمي بمخاوفها، كانت "قطيفة" في حجري أربّت عليها كعادتي في مثل هذه المواجهات: "لماذا لا تجيبين مُدرّستك من أول مرة؟". كيف أشرح لأمّي أنّني في نفس اللحظة التي تحدثني فيها المعلّمة أسمع بذات الدرجة أصوات أقلام زميلاتي تخطّ في دفاترهن، أصوات صفحات الكتب وهي تُطوى، زقزقة عصفور الدوري على الشجرة المقابلة لنافذة حجرة الدراسة، حتى همسات زميلاتي المشاكسات المنبوذات في آخر الحجرة، كيف ألبّي صوت مدرّستي من بين جميع الأصوات التي تتنازعني؟ صرخت والدتي متوسّلة: "لماذا كلّ هذا الشرود؟ لماذا لستِ كباقي البنات؟"، ربّتُ على ظهر "قطيفة" بارتباك وأجبتها: "حسنًا يا أمي، سأكون مثل باقي البنات". أكرّر هذه الجملة دائمًا كي أطمئن قلبها المنكسر. لا أستطيع أن أكون مثل باقي البنات رغم محاولاتي الجادّة لمحاكاة تصرّفات صديقاتي الناجحات والمثيرات والطيّبات والجريئات والجميلات وتقليدهنّ في كلّ شيء. وعندما لا أجد عندهنّ الصورة المنشودة للفتاة المثاليّة أنتقل لمحاكاة وتقليد بطلات المسلسلات الأجنبيّة. أدور في الفراغ باحثة عن صور لا تشبهني، هذه هي حياتي وهكذا أطمئن قلب أمّي المُنكسر. 

في الحادية عشرة استجاب جسدي لنداء هرموناته الجنسيّة. أتذكر خوفي الهستيريّ عندما نما شعر إبطي وعانتي. لا أحتمل شيئًا يلمس جسدي لذلك أجدت جميع طرق إزالة الشعر حتى قبل أن أجيد استخدام فوط العادة الشهرية. أخفقت أن أكون "مثل باقي البنات" وأرتدي الملابس التي تبرز مفاتني، ليس تمردًا بل لأنّي لا أقدر على احتمال الملابس الضيّقة. كنت أرتدي دائمًا ملابس رياضية فضفاضة تكبرني على الأقل بمقاسين، لذلك كنت في نظر صديقاتي "البنت المسترجلة" وعزّز ذلك تفضيلي مصادقة الذكور. عالمهم أبسط كثيرًا من عالمنا، لا يجيدون الأكروبات الاجتماعية، لا يهتمون كثيرًا بتأويل كل إيماءة وشذرة، وطريق تواصلهم سالكٌ خالٍ من المنعطفات الحادة والمطبّات المباغتة. هكذا كنت أظن. 

في الصف الثالث إعدادي شرحت لنا مُدرّسة البيولوجي الجهاز التناسليّ للإنسان ودورة التكاثر، وكان امتحان هذه المادّة رسمًا بيانيًا لجهاز تناسلي ذكري وسؤال "اكتب اسم ما يشير إليه السهم". تمنيت أن تكون الحياة العاطفية والحميميّة سلسة وسهلة كما امتحان البيولوجي. العلاقات مُعقّدة ويجب أن تجيد قراءة ما بين السطور حتّى تستمرّ وهذا ما لا أجيده حتمًا. اقتنيت جميع ما وقع بين يدي من كتب تتحدث عن سيكولوجية العلاقة بين المرأة والرجل ولم أفهم شيئًا منها. أريد أن أؤلّف كتابي الخاص وأضع فيه كل الأشياء التي أحبّها ولا أحبّها، أوّلها كليشيه "الاهتمام مش بيطلب". معي أنا بالذات يجب أن تطلبه وهذا ليس دلالا مني أو تمنّعًا بل لأني لا أجيد قراءة الأوجه وتعابير الجسد وبالتالي لا أبدي التعاطف المطلوب. سأضيف بابًا عن الأحضان والملامسة ليكون شرطها الأوّل: قبل أن تقدم على احتضاني اسألني إن كنت مستعدّة لذلك، وبابًا آخر للتفاصيل الصغيرة؛ عندما أقف أمام المرآة لإصلاح زينتي لا تراقبني ولو بإعجاب، حسنًا أعلم أن هذا رومانسي ولكنه يزعجني. لم أتخيل قارئًا واحدًا لكتابي فأجّلت الموضوع. 

حاولت مرّات عديدة أن أطاوع أمي وقابلت رجالا كثيرين أو بالأحرى مشاريع أزواج مستقبليّين. في المقابلات الأولى أستطيع ارتداء أقنعتي المعتادة وبمجرد أن يصطحبني أحدهم إلى مكان عام إلا وتغمرني الأصوات والأضواء من جميع الاتجاهات وتخترق حواسّي وتنخرها، وممّا يزيد الموقف حدّة وارتباكًا أني مجبرة على النظر إلى عينيه ومتابعة إيماءاته وانفعالاته وتفسيرها التفسير المناسب والتفاعل معها. تغمرني المشاعر وتفيض، وأشعر برغبة جامحة في الغرق. أستسلم لهذا الشعور، ويتحوّل محدثي فجأة إلى حركات شفاه لا صوت لها وإيماءات بلا معنى وأنسحب أنا إلى الأعماق. 

خبرته مرّة أنّي مصابة بمتلازمة أسبرجر، ولم يغير ذلك شيئًا من شغف حديثنا.

شغفي بالطيور ومراقبتها لا حدّ له، وهو كذلك. تعرّفت عليه في أحد المواقع الرقمية التي تجمعنا مع القلّة أمثالنا من محبي هذه الهواية. في البدء جمعنا الحديث عن هوايتنا، تولّدت الألفة شيئًا فشيئًا، عرجنا عرضًا ثم عمدًا إلى الحياة الخاصة. ألبسني اختبائي خلف لوحة المفاتيح شجاعةً لا عهد لي بها في تلك المواقف، وفتحت نافذة الدردشة الزرقاء قلبي على عالم جديد. وَجَدَتْ كلماته طريقها إليّ في سلاسة ويسر؛ ربما لأني لم أنشغل بالنظر إلى عينيه وتأويل نظراته وخلجاته أو الهروب منها، أو ربما لأني لم أضطر إلى ارتداء أقنعتي. أخبرته مرّة أنّي مصابة بمتلازمة أسبرجر، ولم يغير ذلك شيئًا من شغف حديثنا. أخيرًا التقينا، وجهًا لوجه، في تجمّع لمراقبة الطيور في القناطر الخيرية، أحد المستنقعات النادرة المتبقية داخل نطاق القاهرة الكبرى والتي تعدّ ملاذًا للطيور المهاجرة. لم أختبئ خلف كاميرتي كعادتي، تكلّمنا بنفس أريحية وحميميّة الفضاء الافتراضيّ. 

توالت لقاءاتنا، حتّى أنّه طلب منّي أن نحتفل بعيد ميلادي سويّة. فرحت كثيرًا، فقد توقفت عن الاحتفال بهذا اليوم لأنّي أضطرب في وجود الناس. اقترح مكانًا هادئًا على طرف جزيرة الروضة؛ حيث ينفصل النيل الصغير عن النيل الكبير كفرع نما من أصل. أهداني اسطوانة مُدمجة مُسجّل عليها صوت طائر زيبرا فينش  قائلا: "هذا النوع من الطيور تعلّم التواصل مع بعضه البعض في روتين حياته اليومية وتخطيطه للهجرة وحتى في فترة التزاوج بتغريدات عذبة توارثها جيلا عن جيل"، ثم تابع قوله: "يحدث أحيانًا أن يغرّد أحد الصغار بطريقة مختلفة عن باقي الفصيل، ورغم أنّه بذلك يُصبح غريبًا عن السرب إلاّ أنّه بمرور الوقت يجد وليفًا يفهم نغماته الشاذّة ويردّد صداها". صمت قليلا ثمّ نظر مباشرة في عينيّ وقال: "أود أن أفهم لغتك وأردّد صداها". أشحتُ بنظري إلى قارب يتهادى على صفحة النيل الصغير، يحمل رجلا يجدف وامرأة تجمع برويّة وثبات شباك الصيد. "لماذا شردت؟"، أجبته: "كنت أفكر في طائر النكات الضال، الذي انضم مضطرًا إلى سرب أبي المغازل، هل أكمل معهم الهجرة، أم جازف واختار أن يبحث عن سربه الأصلي، أم قرر أخيرًا أن يكمل هجرته وحيدًا".   

 

 

*محمد جعفر يستكمل تخصصه في الطب النفسي، وهذه القصة نتاج قصص عديدة مرّت عليه أثناء مسيرته العملية.

محمّد جعفر

طبيب من مصر

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.