كنتُ في الصف الخامس الابتدائي عندما سمعتُ عن أشكال الجسم المختلفة لأول مرّة.
"إنتِ يا كُمترايّة". قالت لي وهي تُقبّلني وتقرص وجنتيّ وكأنه اليوم الأخير الذي ستراني فيه. رغم أنني كنتُ قد بدأت أتعوّد على اللهجة المصرية من ابنها صبري، إلا أنني لم أفهم ما قصدَته بـ"كمترايّة"، ولكن نظرًا إلى أنّها كانت تنعت صبري الذي يُشبه البطاطس بـ"بطاطساية" وأن صبري كان يناديها بـ"فراولاية" أيضًا مُشبهًا إياها بالفراولة، استنتجتُ أنه لا بد للكمتراية أن تكون إمّا فاصوليا خضراء، أو بصلاً أخضرَ أو هليون. كنتُ قد سبق وتصالحتُ مع حقيقة أنني أشبه الفاصوليا الخضراء: طويلة ونحيفة بلا أية مُقوّمات خلفية أو أماميّة.
"شو يعني كُمتراية؟" سألت أم صبري التي أوضحت لي أنها تعني "إجاص" باللهجة المصرية.
سعدتُ بالبشرى السارة خاصة وأنها أودت بالحديث إلى الاتجاه المطلوب: "إنتِ عارفة إنو الكمثرى والبطاطس حلوين قوي مع بعض؟" سألَت الوالدة مُستنكرة، "كانوا الفراعنة يخلطوهم ويعملوا سلطة مافيش أحلى منها". نظرت إليّ ومن ثمّ إلى صبري من تحت نظارتها وواصلت تعليقها المُحملّ: "إنت بتحبي البطاطس يا تالا ولا إيه؟" يا إلهي، لا أُصدّق. هل سمعتَ ذلك يا صبري؟ علامات ربّانية تدفع بنا من كل جانب لأن نتجاوز حاجز الصداقة اللعين الذي منعني من أن أكون لك وأن تكون لي. أيُعقل أن تَبقى معميَّاً بشبح الصداقة ومن حولِكَ كل هذه الأدلة؟ أُنظر جيدًا يا صبري: أنا أُحبك، وأمك تُحبّني، والفراعنة يحبوننا نحن الاثنين. هل سمعت؟
"أكيد، أصلاً البطاطا من خضرواتي المُفضلّة". نظرتُ إلى صبري آملة أن تتلاقى أعيننا في ظل رومانسية اللحظة ولكن لخيبة ظني وجدته ملهيّاً على هاتفه وابتسامة بلهاء مرسومة على وجهه الأبله. "قُلتِ حاجة؟" سألني ببرودة مُستفزة. لقد نسيتُ لبنى! آخ منك يا لُبنى. لا زلتُ بحاجة إلى علامة ربانية تُثبت لهذا الأحمق أنّك لا تصلحين له. أعلم جيدًا أنك ساعة رملية ولكن ألم تسمعي أم صبري وهي تُرقّيني إلى رتبة الإجاص؟ نعم لم أعد فاصوليا بعد هذا اليوم. أنا كُمترايّة على خُطى أن أصبح ساعة رملية مثلكِ بإذن الله وكرم أم صبري. عندها سينحل حاجز الصداقة لا محال.
----
كنتُ في الصف الخامس الابتدائي عندما سمعتُ عن أشكال الجسم المختلفة لأول مرّة. كان قد حان وقت المحاضرة المُرتقبة التي يفصلون بها الإناث عن الذكور لحساسية المواضيع التي ستُناقش. كنّا جميعًا بانتظار هذه الفرصة لكي نسأل عن "الجنس": هذا الشبح الغامض الذي كنّا قد سمعنا عنه خلسة. ولكن لخيبة ظني لم يتم حتى التطرّق إلى الموضوع بل تركّز معظم الحديث عن الدورة الشهرية التي سبق وعَلِمنا عنها من صديقتنا عبلة التي كانت قد بلغت وهي بالصف الثاني الابتدائي.
لم تخجل عبلة من مشاركة الخبر مع بنات الفصل خاصة بعد أن أطلقت عليها مجلة "غينيس" لقب "أصغر فتاة في العالم تأتيها الدورة الشهرية". كانت هذه المرة الأولى التي تحصل فيها عبلة على المركز الأول في أي شيء ولذلك شجعناها وأتحنا لها الفرصة لأن تُخبرنا بكل التفاصيل، حتى أننا تظاهرنا بالإعجاب عندما قالت لنا أنّها علّقت المقال الذي كُتب عنها فوق سريرها، والذي كانت قد أعربَت فيه عن تقديرها وحبّها اتجاه طبيب النسائية الذي طمأنها على صحتها واتجاه عائلتها التي ساندتها في محنتها العصيبة.
كان الموضوع الآخر الذي تحدّثت عنه المُرشدة يُعنى بأشكال الجسم المختلفة: الساعة الرملية والإجاص والتفاح والتي أرتنا صورًا لكل منها. بدأ الشرح بالساعة الرملية التي تميّزت أجساد صاحباتها بمقاس متقارب جدًا بين الأوراك والنصف العلوي من الجسم والأمثلة على ذلك أنجيلينا جولي ومونيكا لوينسكي التي لم تُعرّفها المُرشدة ولكنني كنت أعلم أنها كانت عشيقة بيل كلينتون المتزوج من هيلاري والذي خانها معها.
في البداية حزنتُ لأنني لم أندرج تحت أي شكل من الأشكال
أما الجسم الآخذ شكل الإجاص فتمثل بأوراك عريضة ومؤخرة بارزة والأمثلة على ذلك هيلاري كلينتون. أمّا الجسم التُفاحي، فله أكتافٌ عريضة وبطنٌ ملآنة والأمثلة على ذلك ملكة جمال بدينات العرب، والخُلاصة؟ أننا "يجب أن نحب أجسادنا مهما كانت أشكالها أو أحجامها، لأنها جميعها جميلة بالمقدار نفسه"، نصيحة قيّمة قالتها المرشدة بنبرة توحي بالعكس تمامًا.
في البداية حزنتُ لأنني لم أندرج تحت أي شكل من الأشكال ولكن تعاطفي مع عبلة التي كان وضعها يسوء وضعي، هوّن عنّي. "على الأقل انتِ بتشبهي الفاصوليا، أنا مو حتى قادرة ألاقي اشي أشبهه"، هكذا أتتني وهي تندب حظها وجسدها الذي بدلاً من أن يكوّم الدهن إما في الأوراك أو الأكتاف أو المؤخرة اختار أن يكوّمه في إبهاميها. فكرنا مليًّا باحتمالات قد توفي حقها دون أن نصل إلى نتيجة. وهكذا زُجِجتُ أنا تحت بند البقوليات بينما بقيت عبلة المسكينة عديمة الملامح، لا شكل ولا لون لها.
أما صبري، فمسكين هو الآخر. كنت قد اتفقتُ معه أن نتبادل المعلومات فور انتهائنا من المحاضرتين واتضح فيما بعد أنها كانت فكرة سيئة جدًا. بدأ هو بمشاركة النقاش الذي دار مع المُرشد وتبيّن أن محاضرة الذكور كانت أمتع بكثير من محاضرتنا وإن لم تتطرّق إلى الجنس بشكل مباشر. فبينما أُجبرنا نحن أن نسمع عن الحيض وأنواع الجسم المختلفة، تكلّم الذكور عن الاحتلام والاستمناء. المهم، عندما حان دوري أخبرتُهُ عن الدورة الشهرية، ويا ليتني لم أخبره! اصفرّ وجهه وتضخمّت مُقلتاه. كان يعتقد المسكين أن الفتيات عبارة عن ملائكة لا تتغوط وها هنّ الآن قد تحولنّ إلى وحوش مُضرَّجة بالدماء. كانت صدمة غير مهيّئٍ لها ما جعله يأخذ خطوات احترازية من جميع الفتيات، فلم يتكلمّ مع أيّ منّا لمدة ثلاثة شهور تخللها زياراتٌ مُنتظمة إلى مرشد نفسي نجح والحمد لله في إعادة تأهيله إلى حالته الطبيعيّة.
----
"إنتِ يا كُرمبايّة" قالت لي وهي تُقبلني مُرحبة بي كعادتها. أخ منك يا أُم صبري لماذا تحبين أن تستخدمي كلمات عصيبة. ما أدراني ما الكُرمباية؟ آه كم أتمنى أن تكون فاكهة مصرية تُشبه الساعة الرملية، ألستِ أنتِ التي رفّعتيني إلى رُتبة الإجاص؟ لا بد لك أن تفعليها ثانية. قولي لي هيا، قولي. "ام صبري شو الكرمباية؟". "آه انتوا بتقولوا ايه عن الكُرمب يا ربي؟ صبري، الشّوام بيقولوا ايه عن الكُرمب؟". نظرَ إليّ وهو يضحك بسخرية. "ملفوف، الكرمب يعني ملفوف". انهرت. جُننت. ما هذا اليوم الأسود؟ اهدأي تالا، اهدأي. لا بد أنهم في مصر لا يعرفون الملفوف إلا وهو محشي. نعم هذا مؤكد. ملفوف محشي طويل ونحيف كالفاصوليا. "قصدك ملفوف محشي مزبوط"؟
إضافة تعليق جديد