يتخذ الجنس بين البشر مناحيَ كثيرة، فيخرج عن كونه بيولوجيًا ومُرتبطًا بالرغبة والقدرة والبلوغ، إلى عمليةٍ في غاية التشابك محكومةٍ بمُحدّداتٍ ثقافيّةٍ ونفسيّةٍ واجتماعيّة. وحين يكون السؤال خاصًا بالنساء يبلغ الأمر قمّة التعقيد، حيث تميل المجتمعات الأبويّة إلى إسناد الإغراء والإغواء للنساء وحدهنّ. تقول أستاذة أمراض النساء بجامعة ماكجيل لوسي جيلبرت (Lucy Gilbert) في مقالٍ مُشتركٍ مع الكاتبة بولا ويبستر (Paula Webster) بعنوان "مخاطر الأنوثة"،1 إنّ "النساء اللواتي باستطاعتهنّ إثارة الرجال وخيالاتهم يجب أن يكنّ فائقات الأنوثة، جميلاتٍ ساحرات، وقادراتٍ على الإغراء".
وبينما تمنع تلك المجتمعات المحافِظة النساءَ من التعبير الحسّي والجنسيّ، يتركّز الإغراء حول شكلانيّة النموذج الأنثوي الذي يتحقّق باستهلاك العديد من المنتجات، وأهمّها قمصان النوم المُعدّة خصيصًا لممارسة الجنس، أو "اللانجيري".
تذكر معظم النساء المشارِكات في تقريرٍ أعدّه موقع "الحبّ ثقافة" كيفيّة تعبيرهنّ عن رغبتهنّ في ممارسة الجنس. يُعدُّ ارتداء اللانجيري من أبرز وسائل التعبير عن الاحتياج الجنسي، لذلك أجريتُ استبيانًا في خلال الفترة الممتدة بين كانون الثاني/يناير ونيسان/أبريل 2023، مع مئة امرأةٍ من القاهرة، تراوحَت أعمارهنّ بين 20 و50 عامًا، كما شاركَت خمس نساءٍ في مقابلاتٍ فرديةٍ مُعمّقةٍ لفهم طبيعة استهلاك النساء للانجيري وعلاقته بممارستهنّ الجنس. وأكّد 87% من النساء المُستطلَعات أنهنّ يشترين اللانجيري بوتائر مختلفةٍ وبميزانيّاتٍ شهريةٍ تراوحَت بين 30 وألفَي جنيه (حوالي دولار أميركي و65 دولارًا أميركيًا). وتتكبّد 93% منهنّ هذه التكلفة من دون مشاركة الشريك لاعتباراتٍ مختلفة، أهمّها أن اللانجيري غالبًا ما يكون مفاجأةً تجهِّزها المرأة من دون علم شريكها، فتشتريها من مالها الخاصّ أو تحسمها من دون علمه من ميزانية المصاريف المنزلية.
تقول داليا، إحدى النساء اللواتي قابلتهن: "اللانجيري زيّ أيّ حاجة، كلّما قلَّ ثمنه انخفضَت جودته. الأسواق الشعبية في منطقة الأزهر والغورية والوكالة مليئةٌ بمحلّات بيع اللانجري التي يبدأ ثمنها بنحو 30 جنيهًا (حولي دولار أميركي)، لكنّ أذواقها لا تعجبني وخاماتها رديئة. أتذكّر أنني اشتريتُ ذات مرّةٍ قطعة، وبعد أن ارتديتُها سبّبَت لي حساسيةً واحمرارًا في جلدي. غالبًا، أشتري من محلّاتٍ في وسط البلد، حيث يتراوح سعر قطعة اللانجيري بين 200 و500 جنيه (حوالي 7 دولارات أميركية و16 دولارًا أميركيًا). أمّا في الأعياد والمناسبات المهمّة، مثل عيد زواجنا، فأحبّ أن أشتري من محالّ العلامات التجارية العالمية الموجودة في المولات الكبرى، لأنّ لديها تشكيلةٌ كبيرةٌ جدًّا وتناسب الجميع".
يؤكّد الاستبيان أيضًا أنّ %61 من المشارِكات يجدن صعوبةً في العثور على ما يروقهنّ، ويرى 52% منهنّ أنّ الشركات الصّانعة تهتمّ بالشّكل على حساب راحة الملبَس، وأنّ تحقيق التوازن بين قطعةٍ مريحةٍ وجميلةٍ يتطلّب منهنّ شراء العلامات التجارية العالمية.
خياراتٌ قليلةٌ للأجسام الأكبر حجمًا
إلى ذلك، يعجز 21% من المشارِكات في الاستبيان عن العثور على مقاساتهنّ من اللانجيري لأسبابٍ مُتعلّقةٍ بحجم أجسامهنّ، لاسيّما أنّ غالبية القطَع مقبولة السّعر تكون موحّدة المقاس. وفي هذا السياق، ينتقد أستاذ العلوم السياسية الانجليزي مات كيفور تراب في مقاله "المُحدِّدات الاجتماعية للسمنة"2 نظرة المجتمع للبدينات، قائلًا: "ينصبّ النظر على شكل جسد النساء بحيث تتحوّل السمنة إلى مصدر لإثارة غضب معظمهن".
عن تجربتها، تقول أروى: "بعد ولادة ابني بشهور، عبّرتُ لصديقتي عن رغبتي بشراء لانجيري، فنصحَتني بزيارة فرعٍ لمحلٍّ عالمي يجري تخفيضاتٍ بمناسبة يوم الجمعة الأسود. وبالفعل ذهبتُ يومها، واستقبلَتني البائعةُ التي سارعَتني بالقول "إنتِ تفاحة، هنبصّ على موديلات الكيرفي اللي تنفع الجسم التفّاحي (Apple shape)". لم أفهم الكلمة واستهجنتُها، فأخرجَت كتالوغًا وشرحَت لي أنّ أجسام النساء تكون إما على شكل تفّاحة، أو كمثرى، أو موزة أو فراولة، وأنّ شركتها جمعَت الموديلات المناسبة لكلّ جسمٍ بحسب شكله لتسهّل على النساء مهمّة الاختيار. كانت القمصان تشبه بعضها البعض إلى حدٍّ كبير، معظمها ضيّقٌ ومفتوحٌ عند الصدر لإظهار انتفاخ الثديَين المرغوب فيه، وواسعٌ وداكنٌ عند منطقة البطن غالبًا لإخفاء الترهّلات غير المرغوب فيها".
وجه "العذراء" ووجه "العاهرة"
في مقاله بعنوان "الإغراء"، المُقدّم ضمن سلسلةٍ من المقالات عن علم النفس الجنسيّ لدى النساء، يتحدّث الكاتب والمتخصص في العلاقات الجنسية إروان ديفن (Erwan Davon) عن وجود "ذاتٍ جنسيّة" وأخرى "غير جنسيّة" لدى النساء. ويؤكّد أن الأولى تُدفَن في اللاوعي، وتُدفَن طويلًا، لا بل تُلغى، ما يحرم المرأة من التطوّر الطبيعي إلى حين زواجها. عندها، وبعد طمسٍ طويل، تُطالَب المرأة باستحضار الذات الجنسيّة فور زواجها، بحيث يجد معظم النساء أنفسهنّ مشتّتاتٍ بين أدوارٍ متناقضة، مثل الإغراء والإغواء إنّما بشكلٍ يحفظ "أخلاقيّة" السلوك الجنسيّ للزوجة، وهي مسألةٌ مُحيّرةٌ وضعَت لها المجتمعاتُ المحافِظة تقاليد لتنقل المرأة من ذاتها غير الجنسيّة إلى الجنسيّة، أو من كونها "عذراء" لا تملك تجارب أو معلوماتٍ كافيةً عن الجنس إلى زوجةٍ تجيد ممارسة الجنس وإرضاء الزوج. لكنّ تلك التقاليد لم تنجح في إنقاذ النساء من براثن ازدواجيّة3 المجتمع التي تحصر النساء بين الطهارة والدنس.
تستعدّ سارة للزواج في خلال شهرَين، وفي هذا السياق تروي تجربتها مع أمّها التي حاولَت بطريقةٍ غير مباشرةٍ نقل مفاهيم المجتمع عن اللانجيري ربطًا بليلة الزواج الأولى والتنميطات المُسقطة على النساء. تقول سارة: "خصّصَت أمّي 5 آلاف جنيه (حوالي 161 دولارًا أميركيًا) لشراء اللانجيري، لم تجبرني على اختيار أشكالٍ أو كمّيةٍ مُحدّدة، لكنّها طلبَت مني الاهتمام بشراء طقم الدُخلة، وهو عبارةٌ عن قميصٍ أبيض مع روبٍ لا يكشف معالم الجسد، وذلك كي أتغلّب به على خجلي في ليلتي الأولى مع الجنس، ولأنه التقليد المُتبع. كما اقترحَت ألوانًا أخرى مثيرةً مثل الأحمر والأسود، ونصحَت بالابتعاد عن الألوان الباهتة".
الجنس هو علاقة انفتاحٍ بين الشريكَين، وكلّما زاد هذا الانفتاح أدّى الجنس وظيفته في ترسيخ العلاقة بينهما
أمّا فاطمة، فلا تحبّ اللانجيري، وتودّ لو يرغبها زوجها من دون استعداداتٍ كثيرة. تقول: "اختارني زوجي لأنني خجولةٌ وبريئة وليسَت لديّ أي تجارب، كنتُ أعيش في بلدٍ عربي متديّنٍ ومحافظ، وعندما عدتُ لدراستي الجامعية في مصر، تعرّفتُ إلى زوجي في عامي الجامعي الثاني وأتممنا الخطبة، ثم تزوّجنا في ختام دراستي. بعد عام، بدأ يطلب مني أن أكون "زيّ الستات"، وطلب مني ارتداء ما لديّ من لانجيري، وشراء قطعٍ أخرى أكثر إثارة لتضفي روح التجديد على علاقتنا الجنسية. كما أنه يقترح دومًا مشاهدة الأفلام الإباحية سويًا، لأنه يراها مفيدةً لي، وستعلّمني الكثير عن الجنس. ليس لديّ موقفٌ واضحٌ تجاه اللانجيري، لكني عمومًا غير مرتاحةٍ لربط الجنس بتحضيراتٍ مُتعدّدة، ولا لأن يكون له نموذجٌ يُفترض تعلّمه".
على النقيض من فاطمة، تحبّ رنا شراء اللانجيري، وتقول: "أنا سعيدة لأنّ السوق فتح في مصر"، وتعني بذلك أن العديد من المحلّات العالمية فتحَت فروعًا لها في مصر، وبالتالي لم تعد مُضطرةً للطلب إلى صديقاتها العائدات من الخارج جلب ما تحتاجه من لانجيري. وتؤكّد رنا أن هذه المحلّات دفعَت المصانع المحلّية إلى صنع طرازاتٍ مختلفة، عدا عن أنّ الانفتاح على الإنترنت وشبكاتٍ مثل نتفليكس أتاح عرض ومشاهدة أفلامٍ إيروتيكيةٍ تستعرض تفضيلاتٍ جنسيةً مختلفة، مثل فيلم "خمسون ظلًا من غراي" (50 Shades of Gray)، الذي ظهرَت بعد عرضه أدواتٌ متنوعةٌ ترتبط بالممارسات السادية والمازوشية.
بالعودة إلى الاستبيان، نرى أن 87% من النساء يجدن علاقةً وثيقةً بين الأفلام ذات المحتوى الجنسيّ وصيحات تصاميم اللانجيري. لكن 42% فقط رحّبن باستهلاك التصاميم المُخصّصة للعب أدوارٍ مثل الجلّادة، أو الممرّضة أو التلميذة، إلخ…، بينما صرّح 7% منهنّ فقط عن استخدامهنّ الأدوات الجنسية مثل الأصفاد، والكرباج وحبال الربط.
جنسنا أم جنسهم؟
ترى ندى جمال، طبيبة نفسية، أن الجنس هو علاقة انفتاحٍ بين الشريكَين، وكلّما زاد هذا الانفتاح أدّى الجنس وظيفته في ترسيخ العلاقة بينهما. لذا لا يمكن فهم أزياء الإغراء المنزلي إلّا بعد فهم طبيعة العلاقة الجنسية بين الطرفَين، ومدى ارتياح كلّ امرأةٍ مع جسدها. إذ يمكن للانجيري أن يكون وسيلة المرأة في مداراة أجزاءٍ من جسدها عن الشريك، كما يمكن أن يكون طريقتها في استكشاف ذلك الجسد المُغطّى بأحكام المجتمع التي تقمعهنّ وتحاربهنّ إذا ما خالَفن "قواعد اللّباس" المفروضة. كذلك يمكن أن يحافظ اللانجيري على تجدّد العلاقة الجنسية وأن يعبِّر عن اهتمام المرأة بذاتها وبالشريك. لذا، لكلّ امرأةٍ مهتمّةٍ باللانجيري الحقّ في أن تتأمّل في علاقتها الفريدة به، وأن تقدّر احتياجها له بشكلٍ مستقلٍّ عن التصوّرات التي يضعها المجتمع لدور النساء في الجنس.
تتداخل ملاحظات ندى مع طرح المفكّرة والمنظّرة النسوية الماركسيّة، سيلفيا فيدريتشي (Silvia Federici)، في مقالها "الجنسانية كشُغل: كيف دمّرت قدرتنا على الاستمتاع بالجنس"، والذي تعتبر فيه "الجنس مساحةً للحرّية يمكننا فيها أن نكون أنفسنا الحقيقية، وفرصةً للاتصال الحميم الصادق في عالمٍ من العلاقات الاجتماعية يُضطرّنا باستمرارٍ لكبت رغباتنا وقمعها وتأجيلها وإخفائها، حتى أمام أنفسنا. هذا ما نوعَد به، لكن ما نناله حقيقةً مختلفٌ وبعيدٌ عن توقّعاتنا في ظلّ ارتباط الجنس بأبعادٍ اقتصاديةٍ واجتماعية. إنّنا لا نستطيع العودة إلى طبيعتنا بمجرّد خلع ملابسنا، لأنّ علينا تزييف العفوية والتظاهر بالاستثارة في خلال العملية الجنسية في حال غياب النشوة، لينتهي الأمر بنا متظاهراتٍ أكثر ممّا يجب، خوفًا من ألا نكون قد تظاهرنا بما يكفي".
كي لا ينتهي الأمر بنا متظاهِرات، نحن النساء نحتاج للإنصات إلى أجسادنا والتعرّف إلى طُرقنا الخاصة في المتعة، ومشاركتها مع الشركاء. قد يكون اللانجيري اختيارنا وقد لا يكون، لكنّ الأكيد أنه لم يعد الاختيار الوحيد والدائم لخوض تجربةٍ حسّيةٍ مثل الجنس، بينما نحاول في كلّ مرّةٍ التخلّص من سطوة التوقّعات التي تنتقل إلينا عبر خطاباتٍ مباشرة وأخرى غير مباشرةٍ عن ذاتٍ جنسيّةٍ مُتناقضةٍ وهاويةٍ ومُتصنّعة، كي نصِل إلى ذاتِنا الأصيلة، الصادقة، المُتحرّرة والمُنفتحة.
- 1Lucy Gilbert and Pamla Webester, ”Bound by Love: The Sweet Trap of Daughterhood”, Beacon Press, Boston, USA, 1983.
- 2مات كيفور تراب، "المحددات الاجتماعية للسمنة"، في كتاب "قضايا فى السمنة بين علم الاجتماع والعلوم الأخرى"، تحرير جينا تشيليا وألكسندرا جونستون، ترجمة محمد السقّا، المركز القومي للترجمة، مصر، 2015.
- 3سو سكوت وديفيد مورغان (تحرير)، "قضايا الجسد: إدارة الجسد في الطهارة والتلوث - مقالات عن سوسيولوجيا الجسد"، سوريا، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، 2019.
إضافة تعليق جديد