​​المرور إلى الثلاثينات: عبور فوق أنقاض المثالية

أكملت بحر عامها الثلاثين ومرّت عشر سنواتٍ على ثورة 25 يناير/جانفي، لكنها ما زالت لا تستطيع أن تسامح الفتاة ذات العشرين عامًا التي كانتها، تلك التي لم تمتلك الشجاعة والجرأة الكافية لتفتح باب البيت وتخرج لتشارك في المظاهرات بجسدها الحاضر، لا من بعيد.

عندما أتممتُ عامي الثلاثين في أواخر سنة 2020، قرّرتُ الذهاب إلى طبيبة نساءٍ في المدينة الأوروبية التي أعيش فيها. أجريتُ لأوّل مرّةٍ الكشف الدوريّ لسرطان الثدي وحكيتُ لها ما أتذكّره وطلبتُ منها أن تعاين ما إذا كان هناك شيءٌ ناقصٌ منّي. فحصَتني وأعلمَتني أنّ عضوي يبدو طبيعيًا جدًا، كما أخبرَتني بأنّها رأت الكثير من حالات ختانٍ لنساءٍ إفريقيّاتٍ وأن لا مجال للمقارنة بيننا. كانت طبيبتي تتكلم الإنجليزية بصعوبةٍ شديدة، ولم يكن لديها الكثير من الوقت كي تشرح لي بشكلٍ علميّ دقيقٍ ما حصل لعضوي التناسليّ بعد تلك العمليّة. بدوري، لم تكن لدي الطاقة لمزيدٍ من الاستفسار. على الأقل قمتُ بتلك الخطوة التي أجّلتها طويلًا، بعد أن ساعدتني مُعالجتي النفسيّة.

كنت أبلغ من العمر 11 عامًا عندما نزلَت أولى قطرات دم الحيض. بدأتُ باستكشاف جسدي عن طريق إمتاع الذّات، فقد علّمتني إحدى قريباتي بعض الحركات عند الممارسة لكنّ ذاكرتي مشوّشةٌ بشأن ذلك. لا أذكر كيف أدركتُ أنّ عليّ إمتاع ذاتي في السّر. كان يُعجبني الشعور لكنّي كنت أشعر بأنّ ما أقوم به "عيب" و"حرام". كنت أغتنم الفرص لمداعبة نفسي إلى أن اكتشفَت أمّي الأمر وطلبت منّي ببالغ اللطف رؤية عضوي التناسلي، كما طلبَت منّي ألّا أكرّر فعلتي لأنّ ما أقوم به يُغضب الله، وأخبرَتني بأنّ هناك جزءٌ زائدٌ في عضوي ومن الأفضل إزالته. وبالفعل حدث ذلك. أتذكّر جيّدًا المكان الذي قصدناه لإتمام العملية. أتذكّر ألمي بعد هذه "العملية الصغيرة" وصعوبة المشي على قدميّ. أتذكّر قريبة أمّي التي هنّأتني ولم تحترم غضبي وحزني.

مرّت سنواتٌ لم أذكر فيها ذلك الحدث ولا تكلمتُ عنه حتى تزوجتُ في منتصف عشريناتي. كانت أولى علاقاتي الجنسية، ولم أدرِ ما إذا كان ذلك الحدث هو سبب شعوري بنقصانٍ ما في متعتي، أم قلة خبرتي في الجنس. سألتُ أمي عن الأمر - لا أذكر إن كان ذلك قبل زواجي أو بعده - فقالت لي إنّ العملية لم تكن ختانًا بل فقط إزالة "زيادة" ما. قلتُ لها "مصدّقاكي". قصدتُ طبيبة النساء لأبدأ ثلاثيناتي بإجابةٍ قاطعةٍ أصدّقها فعلًا.

في يوم عيد ميلادي الثلاثين، أهديتُ جسدي جلسة تصوير. أردتُ أن أودّع عقدًا مرّ عليه. عقدٌ تعرفتُ فيه إلى جسدي أكثر، واتخذتُ في منتصفه قرارًا واعيًا بالاعتناء به وبصحّته وشكله، وتغلّبتُ فيه على الكثير من هواجسي واستطعتُ أن أقدّر وأفتخر بأنوثتي علانيةً من دون مواربةٍ أو خوفٍ أو خجل. أردتُ أن أوقف الزمن لجسدي في تلك اللحظة بين العقدَين، أن أسجّل تضاريسه وندوبه وملمسه وحجمه من دون غطاء. كانت لحظةً مثاليةً له؛ كنتُ في الوزن المثالي بالنسبة لي، لا شديدة النحافة كما كنتُ في فترةٍ ما من الأعوام الماضية ولم أحب مظهري وقتها، ولا بوزنٍ زائدٍ على نحوٍ لا أحبّذه. لا تستطيع أجسادنا الأنثوية أن توقف الزمن بل يصارعها وتسابقه. تتعرّض للضغط لتنجب، لتخفّف وزنها أو تزيده، لتكون جميلةً بمعايير معينة، لتكون دائمة الشباب لا تظهر عليها ملامح الشيخوخة أو أيّ تشوهاتٍ أو ندوب. أردتُ أن أهدي جسدي صورة، لحظةً مجمّدةً من الزمن. أردتُ أن تكون له سرديّته الخاصة، سردية يحبّها ويفخر بها ويذكرها في عقوده القادمة. يقولون إنّ الثلاثينات تُحدث تغييراتٍ في جسم المرأة، في هرموناته وشكله وقدرته على التأقلم السريع. فلتأتِ بما تأتي. صُور جسدي في هذه اللحظة ستكون هي استقبالي لهذا العقد وعنوانه.

أتممتُ عامِيَ الثلاثين ومرّت عشر سنواتٍ على ثورة 25 يناير/جانفي، لكني ما زلتُ لا أستطيع أن أسامح الفتاة ذات العشرين عامًا التي كنتُها، تلك التي لم تمتلك الشجاعة والجرأة الكافية لتفتح باب البيت وتخرج لتشارك في المظاهرات يومَي 25 و28 يناير/جانفي، ولتتحدّى سلطة أهلها وتدافع عمّا آمنَت به حقًا، بجسدها الحاضر، لا من بعيد. الحقيقة أن خيار التحدّي في تلك اللحظة لم يكن ممكن التحقّق في خيالها حتى. تمرّ السنوات بعيدًا عن هاتين السنتَين اللتين شكّلَتا عالمنا، وتبدو الثورة بعيدةً كحلمٍ كلما ازدهرَت الفاشية التي نشهدها اليوم. لكنّ ندمي على عدم مشاركتي بجسدي وأنفاسي في الشارع يظلّ يطاردني كشبحٍ ليذكّرني بحدود خيالي وحركتي وقتذاك. ببساطة، ثمّة أحداثٌ لا مثيل لها ولا يمكن أن تتكرر، كما هناك مشاعر وتجارب لا يكفي أن تسمعي عنها أو تشاهديها على الشاشات أو عبر حكايات الأصدقاء، بل عليك أن تشهديها بجسدك وعينيك وحواسك كلّها؛ مثل تلك الساعات والأيام التي فقدتُها في يناير/جانفي 2011.

أحلم بأن أكون مثل الفتيات والنساء اللّاتي يعِشن في الميدان، ويخرجن كما يشأنَ ويُشاركن في كل ما يُردن المشاركة فيه. كُنت مُكبّلةً بالكثير من الحدود التي يجب الالتزام بها في البيت. نشأتُ بشكلٍ مربك. كانت لديّ مساحةٌ من التعليم والإبداع والإمكانيات المتوفرة، ما يسمّونه "امتيازات". لكنّ حركتي ظلّت مُقيّدة وكنت أخضع أحيانًا إلى حمايةٍ ورقابةٍ مفرطتين من أهلي. في بعض الأحيان، كنت أحاول التفكير في حلولٍ براغماتية، إذ لم أشأ أن أخسر الامتيازات التي تمنحني إيّاها عائلتي، لكنّي في الوقت عينه أردتُ أن أفعل ما أشاء. كنتُ أخلق طريقًا متعرّجًا بين تلك القيود، لحظاتٌ مسروقةٌ هنا وهناك. خلقتُ مساحةً من الحرية مبتورةً غير مكتملة، فلم أندمج تمامًا في مجموعةٍ أو صداقةٍ أو تجربةٍ ما. كانت حياتي كالرقص على السلالم. يعتبر البعض هذه الحلول "علوقية"، بينما يراها البعض الآخر استراتيجيةً للتحايل على القيود، وآخرون يرونها حلًا أنانيًا للحصول على كل شيء. أظن أنها كل ما سبق. مع زواجي وانتقالي من بيت أهلي إلى خارج البلد والحصول على مساحةٍ واسعةٍ من الحرية، ارتبكت. لم يكن سهلًا أن أدرك أنّي فعلًا حرة، وأنّ بمقدوري أن أختار، وأنّ ما أختاره الآن هو ما يتناسب مع رغباتي أنا وليس حلًا مواربًا لإرضاء الجميع من دون خسائر. تحولتُ إلى طفلةٍ حصلَت على ما كانت تبحث عنه فنسيَت وتناست العالم وما حولها. تجلّت أنانيتي في أبشع صورها، ولم أعد أرى غير رغباتي واهتماماتي فقط. لم أفكر في مسؤولياتي. ودفعتُ ثمن تلك الأنانية خسارات، فخسرتُ صداقاتٍ وعلاقاتٍ كانت صمّام أمانٍ ودعمٍ لسنوات.

هناك مشاعر وتجارب لا يكفي أن تسمعي عنها أو تشاهديها على الشاشات أو عبر حكايات الأصدقاء، بل عليك أن تشهديها بجسدك وعينيك وحواسك كلّها

كانت آخر عشريناتي - كما تقول صديقتي - حصادًا مكثفًا لكلّ دروس العشرينات. عشتُ أيام الحظر الكوروني وحيدةً باختياري وكامل وعيي. قضيتُ أيامًا ولياليَ أبكي وأتألم وأكتب وأرسم وأتكلم مع صديقاتٍ وأصدقاء ومعالجاتٍ عمّا حدث ويحدث. بدأتُ رحلةً مؤلمةً من الوعي. أدركتُ أني آذيتُ بعض المُقرّبين. ليس سهلًا أن تواجهي نفسك بالحقيقة. نعم، "عكّيتي"، وتعلّمي ألّا تكرّري ذلك. نعم، لستِ سهلة الإرضاء وتبحثين دائمًا عن كمالٍ غير موجود. انهار أمامي صنم الفتاة المثالية التي كنت أسعى لأن أكونها. انهار أمام وعيي بنفسي أكثر، كما بأخطائها وإدراكها مسؤولية اختياراتها وأفعالها. أدخل ثلاثيناتي بخطواتٍ أحسبها أكثر ثباتًا، مارّةً على أنقاض صنم المثالية ذاك.

"ستكفّين عن التفكير في ما حدث عندما تسامحين نفسك، وقتها فقط سيسكتُ صوتها في عقلك"، هذا ما قالته لي معالجتي في إحدى جلساتنا. أن أسامح نفسي، أن أتسامح مع أخطائها وأتعلّم منها، أن أعرفها وأتقبّلها كما هي. طاردني سؤال يبدو كليشيهًا: من أنا؟ ماذا أريد؟ وما هي مبادئي؟ أدركتُ أنّي لن أكون يومًا تلك المرأة التي عاشت في عشريناتها الكثير من التجارب والحرية، والتي كنت أنظر إليها بانبهارٍ وأتحسّر لأنّي لم أعِش ما عاشته. كما لن أكون تلك السيدة التي لديها طفلان وتعيش مع زوجها في إحدى الفيلّات في ضواحي القاهرة. تهتُ كثيرًا في عشريناتي بين كل أولئك السيدات، لم أعرف ما أريد حقًا. سأكون ببساطةٍ أنا. وبرغم بساطة تلك الجملة وسهولتها، ليس سهلًا أن تعيشي في جلدك بعد سنواتٍ من عدم معرفته أصلًا، وليس سهلًا أن تسامحي نفسك، خاصةً إن كنتِ نشأتِ على أن تكوني الفتاة المثالية التي لا يحقّ لها ارتكاب الأخطاء.

أن تسامحي نفسك هو أيضًا أن تسامحي الآخرين الذين علّقتِ عليهم لسنواتٍ أسبابَ معاناتك وأخطائك. أن تسامحي هو أن تنضجي. كانت شهور العزل الكوروني حاسمةً أيضًا في علاقتي بعائلتي. تسامحتُ مع حياتي الموازية التي لا يعلمون عنها شيئًا. أدركتُ بالفعل أنّني كنتُ أهرب منهم، وما زلتُ بشكلٍ ما. لكن في الوقت عينه، اعترفتُ لنفسي بأنّي أجد معهم أمانًا وراحةً لا أجدها إلّا بينهم. أصبحتُ أقلّ غضبًا من أبي وأمي. أدركتُ قيمة أشياء كنت أحسبها من المسلّمات، مثل الدعم والونس وصعوبة الحصول عليهما من بعض الأشخاص. بلغتُ الثلاثين وقد راجعتُ الكثير من علاقاتي، وأدركتُ عبر الألم أنّ بعض العلاقات لا تكون إلا لإرضاء رغباتٍ أنانيةٍ تُحرّكنا أو تُحرّك الطرف الآخر. هذه العلاقات منهكةٌ للجميع. ثمّة أناسٌ في حياتك يقبلونك ويحبّونك كما أنتِ، تمسّكي بهنّ/م، وآخرون غير مقدّرٍ لكنّ/م تشارُكَ الحياة معًا. كان عليّ تقبّل هذا الأمر المؤلم، لكنّه ترك غصّةً في قلبي تأتي وتذهب، أشاهدها وأقول لنفسي إنها ندبة الفقد والتجربة.

أن تسامحي نفسك هو أيضًا أن تسامحي الآخرين الذين علّقتِ عليهم لسنواتٍ أسبابَ معاناتك وأخطائك. أن تسامحي هو أن تنضجي

لا أسعى إلى علاقاتٍ وصداقاتٍ جديدة، بل أريد أن أركّز على علاقاتي الحالية وأتعمّق في دائرتي الصغيرة، أرعاهم/ن ويرعونني. أريد التركيز في مشاريعي المهنية التي أحبّ أن أكون جزءًا منها بلا تشتّت. أريد أن أكوّن عائلتي الخاصة. برغم زواجي في منتصف العشرينات، لم يكن الأمر ناضجًا وواضحًا لي كما الآن. أدخل الثلاثينات بقلقٍ على جسدي متوارثٍ لدى كثيرٍ من السيدات. أخشى السنوات التي تمضي وتقلّل من قدرتي على الإنجاب. أتساءل ما إذا كان هذا القلق هو ما يجعلني أفكر بجديةٍ في الإنجاب، أم رغبتي في تكوين عائلةٍ أكبر وإنجاب أطفالٍ أعتني بهم/ن وأتعلم منهم/ن ويفتحون أمامي مجالًا جديدًا للحياة. أتساءل. جلّ ما أعرفه هو أنّ رغبتي في الإنجاب أصبحَت أكثر إلحاحًا من أيّ وقتٍ مضى. يزداد قلقي من فقدان الأشخاص الذين أحبّهم/ن في الفترة الآتية من حياتي، ولا أدري ما إذا كنتُ مستعدةً لمزيدٍ من الندوب والغصّات. من الواضح أنّي سأصطحبُ معي قلقي من عقدٍ إلى آخر.

أستقبل ثلاثيناتي بدائرة دعمي الصغيرة وصُور جسدي بين العقدَين، أكثر تسامحًا مع نفسي، عابرةً فوق أنقاض مثاليّتي، حاملةً معي قلقي، آملةً في أن تكون قدماي أكثر ثباتًا أينما عشتُ وكيفما تحرّكتُ بين السنوات، غير ساعيةٍ إلى الكثير بل إلى القليل المثمر. لعلّ هذا ما يُسمّونه "النضج". لعلّي الآن مستعدّة للثلاثينات.

___________________________

 - الرسومات لبحر

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.