في ساحة التحرير ومن أمام خيمة إحدى المنظمات النسوية سألتُ إحدى الفتيات المتظاهرات: "ما هي مطالبكن؟" فأجابت: "ليس لدينا مطالب، بل حقوق. والحقوق لا تُطلب، بل تُنتزع".
"شماغچ (كوفيتك) والحُمرة، محلیات (يُجَملنَّ) الثورة". تُطالعنا هذه العبارة مكتوبة بخط كبير على حافة نفق ساحة التحرير في بغداد والذي تحوّل إلى معرض فنيّ من جداريات تخاطب بشكل أو بآخر صورة المرأة، سواء كانت تقليدية مثل أم الشهيد أو الحبيبة، أو متظاهرة مثل الطالبة أو الطبيبة أو الناشطة. "نساء ثورة تشرين ثائرات ولسن عاهرات". نقرأ جدارية أخرى، کردٍ على ما روّجته قنوات الإعلام الموالية للأحزاب الحاكمة من تشهير استهدف النساء المشاركات في الثورة. الكثير من الشبان المتظاهرين كبروا في أُسَرٍ تقودها النساء. فالحروب المستمرة والاغتيالات والخطف الذي مارسته الأنظمة المتعاقبة على العراق خلّفت الكثير من الأُسر الأحادية، التي عادة ما تكون فيها الأم هي المربي والمُعيل الوحيد. لذلك تلعب المرأة، خاصة الأم، دورًا مركزيًا في حياة معظم هؤلاء الشبان، وشكّلت الرمز الأهم للثورة. فحتى أيقونة ثورة أكتوبر الشاب الثائر صفاء السراي، والذي اغتيل في بداية الثورة بقنبلة غاز في الرأس، كان قد أطلق على نفسه اسم "ابن ثَنْوة" تيمنًا بأمّه "ثنوة" التي رحلت وهي تصارع مرض السرطان، ليصبح يتيمًا متطلعًا للُقياها. وأصبح اسم "ابن ثنوة" رمزًا لكل الثوار. لذلك عندما توجّه وفد من الأمهات إلى ساتر جسر السنك في بغداد لمنع بعضهم من الاحتكاك بعناصر الشغب المرابطة هناك خوفًا على حياة المتظاهرين ومحافظةً على سلمية التظاهرات، كانت استجابة الشبان للأمهات كاملة.
منذ انطلاقة الثورة العراقية في الأوّل من تشرين الأوّل سنة 2019 ثم استمرارها في الخامس والعشرين من نفس الشهر، كانت النساء العراقيات حاضرات في الشوارع بل أكثر من ذلك، فقد خلقن تغييرًا ملموسًا في الفضاء العمومي. ذلك الشارع الذي غُيبّت عنه المرأة عمدًا منذ تسعينيات القرن الماضي، وتدهور وضعها في العقود التي تلت لأسباب عديدة منها أنّ صدام حسين قام بعد الانتفاضة العراقية ضد نظام حكمه سنة 1991، بإطلاق ما سُميَ آنذاك بـ"الحملة الإيمانية" والتي جامل فيها الإسلام السنّي السلفي، حيث شنَّ خلالها حملات عنف مُمنهج وذات طابع استعراضي ضد عاملات الجنس، خاصةً في العاصمة بغداد، بينما شجّع في الخفاء تحويل الفن الاستعراضي والمسرحي، من فنٍ نقديّ له وزنه في المجتمع العراقي إلى فنٍ مُبتذل جعل من المرأة سلعة وقدّمها بصورة مبتذلة. تزامن ذلك مع استنهاضه للعشائرية وتدعيمها، بعد أن كانت قد ضعفت واختفت تقريبًا خاصة في المدن، بمنحه العشائر شرعية جديدة ليقرّبها منه فتكون حامية له من الغضب الشعبي الذي شهده الشارع خلال انتفاضة 1991 وبعدها. من هنا، صار الاحتكام لـ"قوانين" العشائر هو السائد فوق دستور البلاد المدني؛ فعادت العشائرية التقليدية تتعامل مع المرأة على أنها في مرتبةٍ أدنى من الرجل، بالرغم من أنّ المرأة العراقية سدّت فراغًا إنتاجيًا وتربويًا كبيرين خلال حرب الثماني سنوات مع إيران، في ثمانينيات القرن الماضي. ولولا المرأة لما استمرت مؤسسات البلد ومعامله ومزارعه ومؤسساته التربوية في العمل، بعد استنزاف نصف طاقاته الشابة في حربٍ عبثية طويلة.
المرأة العراقيّة ظلّت الدافع والمُحفّز الأكبر تقريبًا لكلّ ما يحدث في ذلك الشارع
لم يتحسن وضع النساء في العراق في السنوات التي تلت، بل تدهور أكثر، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي وما سبّبه من فوضى أدت إلى اختفاء النساء تقريبًا من الشارع بسبب حوادث الخطف والجرائم الجنسيّة. ولعلّ اغتصاب الطفلة عبير ذات الـ14 سنة من قبل جنود الاحتلال خير دليل على ذلك. المرأة العراقيّة في وضع هشاشة دائمة بسبب الأوضاع السياسيّة وتحكّم الميليشيّات الدينيّة التي أعادت زواج القاصرات وأحكام الشريعة الإسلامية والمذهبية، وصولاً إلى ما ارتكبه تنظيم داعش الإرهابي من جرائم وحشيّة خاصة في حق الأزيديّات.
ولكن بالرغم من كلّ ما سبق من التحجيم والقمع والترهيب الذي ارتُكب ضد النساء، وما ترتّب على ذلك من سيطرة ذكورية على الشارع العراقي بشكل عام، إلا أنّ المرأة العراقية ظلّت الدافع والمُحفّز الأكبر تقريبًا لكلّ ما يحدث في ذلك الشارع، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فهي التي قادت الحملة ضدّ تمرير وإقرار قانون الأحوال الشخصية الجعفري سنة 2014 الذي حاول تشريع زواج القاصرات، وكانت في مقدّمة التظاهرات التي طالبت بتوظيف حَملَة الشهادات العليا، والتي جُوبهت أيضًا بالعنف من قبل الحكومة العراقية. هذا ما أدركته حكومة الميليشيات مبكرًا، إذ كانت دائمًا تبدأ بقمع المرأة أولًا لتفرض سيطرتها على الشارع، كما حدث في فترة الحراك الشعبي في البصرة (2018)؛ عندما شنّت الميليشيات المسلحة سلسلة اغتيالات ضدّ نساء معروفات سواء ناشطات أم شخصيّات معروفة على صفحات التواصل الاجتماعي، وقامت بتهديد شخصيّات نسائيّة أخرى مما أدّى إلى مُغادرة بعضهن البلاد أو اختفائهن عن الأنظار.
ومنذ أن بدأت ثورة تشرين الحالية، كانت النساء من أوائل المستَهدفين، حيث اغتال مُسلحو الميليشيات الناشطة المدنية سارة طالب مع زوجها عادل حسين في منزلهما في البصرة بعد عودتهما من التظاهرات. ومن ثم خُطفت الناشطة والمُسعِفة صبا المهداوي بعد عودتها من ساحة التحرير في بغداد وتعرّضت للتعذيب قبل إطلاق سراحها بعد أسابيع. ثم خُطفت الناشطة ماري محمد والتي أُطلق سراحها بعد أيام قليلة، وصولاً إلى قتل الشابة زهراء علي ذات الـ19 ربيعًا بعد تعذيبٍ وحشيّ وإلقاء جثتها في الطريق عقابًا لوالدها المساند للثوّار والذّي كان يصطحبها معه إلى ساحة التحرير في بغداد. حتى المذبحة الأخيرة التي نفّذتها الميليشيات ضدّ المُتظاهرين في منطقة السنك وتوارد أخبار على لسان المتظاهرين عن اعتقال إحدى الطبيبات المسعفات وتعريتها وحلق شعرها من قبل المسلحين. لكن يبدو أن محاولات الترهيب هذه المرة لم تنجح في ردع النساء بل ساهمت في زيادة أعدادهن في ساحات الاحتجاج والتظاهر. فبعد فشل حظر التجوال الذي فرضته الحكومة على مدينة بغداد بخروج أهالي المدينة في احتفاليات ملأت الشوارع وشكلت درعًا بشريًا من العوائل لحماية المتظاهرين السلميين ضد الميليشيات المسلحة، استمر تدفق النساء بأعداد كبيرة إلى ساحات التظاهر في كل المدن مثل كربلاء والبصرة والنجف والناصرية والديوانية والعمارة وغيرها من المدن التي وقعت منذ تسعينيات القرن الفائت تحت سيطرة العشائرية والميليشيات الدينية.
ربما تفاجأ البعض، بمن فيهم المتظاهرون الذكور أنفسهم، من حضور النساء بهذه الكثافة وهنّ المُغيّبات قسرًا عن الفضاء العام. ولم تسجّل ساحات التظاهر في العراق أيّة حالة تحرش أو مضايقة للنساء على أساس جنسهن. وصار وجود الفتيات في ساحات التحرير، في بغداد والمحافظات، حافزًا أكبر لاستمرار المظاهرات، فأنهَت ظواهر فَصل الجنسين التي طالما حاولت الأنظمة السياسية ترويجها. "اللي يجرالكم يجرالي!" كان رد مُسعِفة عراقية اقتربت من ساتر جسر السنك الشهير بعنف قوات الشغب المرابطة عليه. كان المتظاهرون يحاولون إقناعها بعدم الاقتراب لإسعاف أحد المصابين خوفًا عليها من الأذى، لكنها وبجملتها تلك أسكتت الجميع، فراقبوها وهي تُسعف المتظاهر المصاب مرتدية كمّامتها الطبية وصدريتها البيضاء، بل وصاروا يتلقون الأوامر منها في كيفية الإسعاف.
لم تنفع معهن حجة "العيب" التقليدية وكنّ يجابهنها بالهتاف والصراخ في وجه من يردّدها
صار العراقيون يتبادلون فيديوهات تبيّن شجاعة الفتيات والنساء العراقيات في الوصول إلى أخطر مناطق الاشتباكات لإبعاد قنابل الغاز المسيلة للدموع وإطفائها كما في نفق ساحة التحرير، أو لإسعاف المصابين سواء على جسر الأحرار أو السنك أو تحت الجسر وفوق أعمدته العالية وعلى جرف نهر دجلة، والتي تُعَدّ من أخطر المناطق لقرب قوات الشغب منها ولسهولة إطلاق النار على المتظاهرين من قوارب القوات الأمنية. كما أصبحت طالبات المدارس رمزًا للثورة وتحدي السلطة، حين أعلنت العديد من الطالبات في محافظات مُختلفة الإضراب عن الدوام الرسمي وخَرجن في تظاهرات انطلقت من مدارسهن الإعدادية رغم القمع البوليسي وتهديدات وزارة التربية. لم تنفع معهن حجة "العيب" التقليدية وكنّ يجابهنها بالهتاف والصراخ في وجه من يردّدها. "بعد لا تقول بنيّة وولد، هذي راحت بعد" ردّت إحدى الطالبات المضربات على مُدير مدرستها عندما كان يصرخ بهنّ أن التظاهر لا يصح للفتيات فأسكتته تمامًا. وأصبح مدير آخر لإحدى المدارس الإعدادية للبنات مادة للتندُّر على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن انتشر فيديو له وهو يصيح بالطالبات بطريقة هستيرية "عيب... عيب" بينما هن مستمرات بالهتاف ضد الحكومة. في الكثير من الأحيان كانت الطالبات يذهبن إلى مدارس أخرى ليفتحن الأبواب و"يحرّرن" طلاب وطالبات تلك المدارس لينطلقوا معًا إلى ساحات التظاهر، فتُسمع هتافاتهم في الشوارع المؤدية إلى ساحة التحرير تعلو أصوات السيارات والمآذن والباعة المتجولين. الكثير منهن تمردن على قيود الأهل وما زلن حاضرات يوميًّا في ساحة التحرير وسط بغداد. يوزّعْن المؤن والتبرعات، ويُسعفن الجرحى، ويُطفئن قنابل الغاز، ويرسمن، ويُصوّرن، ويعزفن ويغنين، ويشتركن في فرق الشارع المسرحية، ويقدن حملة تشجيع المنتجات المحلية، ويلعبن كرة اليد في فرق مختلطة على شاطئ دجلة أو يهتفن ضد الميليشيات والأحزاب الحاكمة الفاسدة. النساء العراقيات يَخلقن تغييرًا مجتمعيًا كبيرًا ويأخذن مكانتهن دون إذن من أحد.
"قوموا اوقفوا، وامسحوا دموعكم" كانت هذه كلمات إحدى المتظاهرات في ساحة التحرير في بغداد مخاطبة مجموعة من الشبان الجالسين على الأرض يبكون صديقهم المصوّر الذي اختطفته الميليشيات. امتثل الشبان ونهضوا ليرددوا النشيد الوطني معًا. قد يشكك البعض في التغيير الحاصل لعدم إيمانهم بأن الشعوب يمكن تغييرها بهذه السرعة. شكوك ستبدّدها النساء في فترة ما بعد الثورة، فالجيل الجديد من الفتيات اللواتي أدركن قوتهن وقدرتهن على كسر قيود الأب المتسلط ومدير المدرسة وإمام الجامع والمتحرش والسياسي الفاسد والإعلامي المتملق، لن يقفن متفرجات إن حاول أي كان إعادة تلك القيود. في ساحة التحرير ومن أمام خيمة إحدى المنظمات النسوية سألتُ إحدى الفتيات المتظاهرات: "ما هي مطالبكن؟" فأجابت: "ليس لدينا مطالب، بل حقوق. والحقوق لا تُطلب، بل تُنتزع".
إضافة تعليق جديد