ظننتُ طويلًا أنني تركتُ خوفَ الطفولة خلفي، لكنني اكتشفت أنه كان ينتظرني ليعودَ ويجتاحني في شوارع بيروت ويزداد مع الوقت حجمًا وقسوة. لم أخاف هذه المرّة من الظلام، بل من الأيادي والعيون المتربّصة في الزوايا المظلمة، والتي تلاحقك حتى في وضح النهار.
تتضاعف المخاوف وتتكاثر الحكايات خاصة في الليل، ولهذا مع الوقت صرتُ أقلّل من نزهاتي الخارجية، لا سيما في السنتين الأخيرتين. الرهاب الاجتماعي الذي تسلّل إليّ أبعدني عن الناس وجعلني أختصر لياليّ إلى الحد الأدنى. وإن خرجتُ من المنزل، أراقب ظلّي على الجدران خشيةً أن ينضم إليه ظلّ آخر بلا إنذار. هكذا صار الخروج وحدي مغامرةً محفوفةً بالقلق في مدينة تتكاثر فيها جرائم التحرش والاغتصاب والسرقات وحتى الخطف، من دون أن يتوقف عندها أحد كما ينبغي، وكأن الخوف صار جزءًا من حقيبة النساء يسبق مفاتيحهن وهواتفهن.
لم يعد الخوف شعورًا طارئًا إذًا، بل أصبح لنا عادة يومية، فوسط هذا الواقع تلجأ نساء كثيرات إلى حمل أدوات صغيرة للدفاع عن أنفسهن مثل: مفاتيح حادة، بخاخ فلفل، سكاكين، دبابيس شعر… أشياء قد تبدو عادية، لكنها بالنسبة إليهن طوق نجاة في مواجهة العنف الذي يلاحقهن.
قبل أيام كنت أصوّر إحدى الشخصيات لهذه المادّة، وأثناء عودتي إلى البيت اكتشفتُ أنني نسيت مفتاحي في إحدى الحقائب، فذهبت أنا وسارة - التي ستتعرّفون/ن إلى قصتها لاحقًا - لاسترجاعه. في الطريق ظهرتْ فجأةً فتاةٌ تركض في اتجاهنا، ثم اندفعت بيننا كأنها تبحث عن ملاذ، وخلفها كان رجل على دراجة نارية يمسك شيئًا بيده. صرختُ به بلا تفكير فابتعد مسرعًا.
رافقْنا الفتاة إلى وجهتها وحذّرناها: "احملي معكِ شيئًا يحميكِ… وتجنّبي هذا الشارع… فالأوضاع خطرة". أجابت بجملة واحدة ظلّت عالقة في ذهني: "بعرف… بس منحبس حالنا بالبيت؟".
أوصلناها ثم أكملنا الحديث عن المدينة والخطر الذي يحيط بنا. لحظة أمان قصيرة تبعتْها ومضةُ خوفٍ حاد. مفتاح نسيتُه أعادني إلى مشهدٍ يعرّي هشاشتنا في هذه المدينة، ويمحو ما تبقّى من ثقتي بها. لم أسأل الفتاة عن اسمها أو رقمها… أتمنى أن تكون بخير. لكنني أخبرتُها حين رافقتُها مع سارة، عن رغبتي بإضافة ما تعرّضتْ له إلى مادتي وقالت إنها ستتابع "جيم":
"عزيزتي، إن صادفتِ يومًا هذه الكلمات، لا أريدكِ أن تحبسي نفسكِ في البيت… بل أريد تصديق أن هذه المدينة قادرة على حمايتنا من الوحوش التي تتربّص بنا في شوارعها".
لم تكن تلك اللحظة سوى انعكاس لواقع تعيشه نساء كثيرات هنا، حيث لكل واحدة حكايتها مع الخوف والطرق التي غيّرت بها ملامحها، والأدوات الصغيرة التي تخبئها في حقيبتها كخط دفاعٍ أخير.
هالا ناصر الدين، 29 سنة
تقول هالا ناصر الدين وهي صحافية تعيش وتعمل في العاصمة "لم نعد نشعر بالأمان في بيروت"، تستعيد هالا المرحلة الأولى من الأزمة الاقتصادية التي انقطعت فيها الكهرباء تمامًا عن شوارع البلاد ومنازلها، حينها كانت تمشي بين بيوت مظلمة ومهجورة، متجنّبةً الأحياء المعتمة مساءً. "في تلك الفترة لم أشعر بالراحة يومًا".
منذ ذلك الوقت وحقيبتُها لا تخلو من بخاخ الفلفل وسكين صغيرة وجهاز إنذار. تضحك وهي تخبرنا كيف جلبت لها صديقتها من تركيا سكينًا كهديّة، بعدما اشتهرت بين معارفها بحمل هذه الأدوات. "أحملها للأن وجودها يمنحني شيئًا من الاطمئنان… فهي وسيلة للدفاع عن نفسي إذا اضطرني الأمر".
لم تُجبر حتى الآن على استخدامها، لكنها في مواقف عديدة أمسكتْ ببخاخ الفلفل وهي تسير من باب التأهّب. تضع هذه الأدوات في أماكن يسهل الوصول إليها، وتحمل أيضًا جهاز إنذار صغيرًا يصدر صوتًا مزعجًا عند الضغط عليه، لجذب الانتباه إذا تعرّضت للخطر.
بالنسبة إليها فإن غياب الرادع هو السبب في تفاقم المخاطر: "لا المجتمع ولا النظامان القضائي أو الأمني يأخذان هذه القضايا بالجدية المطلوبة، إذ إننا ما زلنا في مجتمع ذكوري يتعامل مع التحرش والاغتصاب بسطحية، ورغم وجود تغيّرًا ملحوظًا على مستوى الوعي النسوي لكنه غير سائد".
غياب المحاسبة هذا يجعلها أكثر حذرًا، خصوصًا مع انتشار جرائم السرقة وحوادث القتل العشوائي. "البلد مليء بالإجرام المنفلت ولا أحد يحاسب. والدليل انفجار المرفأ الذي أودى بحياة أكثر من مئتي شخص… بعد خمس سنوات لم يُحاسب أحد".
ترى هالا أن غياب الأمن يفرض خيارين، فإما أن تحمي نفسك بنفسك، أو تبقين عرضة للخطر. "الناس يخافون من التدخّل، خاصة إذا كان المعتدي مسلّحًا". خوفُها ليس فقط من السرقة، بل من الاعتداءات الجسدية والاغتصاب: "هذه الجرائم تترك أثرًا نفسيًا لا يزول". ولذلك تفضّل بخاخ الفلفل أو جهاز الصعق الكهربائي على السكين، وتثق بجهاز الإنذار الصغير الذي تعلّمت أهمية حيازته في إحدى جلسات التدريب على الأمان الشخصي. "صوته القوي يربك المعتدي، ما قد يمنحك فرصة للهروب".
وتكمل هالا: أينما أذهب - حتى خلال السفر - أحرص على أن تكون هذه الأدوات معي، ففي مجتمعات لا تمنح النساء شعورًا بالأمان، لا تعرفين أبدًا ما الذي قد يحدث. فأنت هنا لست في مأمن كإنسان، وإذا كنت امرأة فلا أمان على الإطلاق.
ليلى عيسى، 25 سنة
في شوارع حي "فرن الشباك" ببيروت، خلال ساعات متأخرة من الليل وطرقات مُعتمة، تسير ليلى وهي ناشطة وعاملة اجتماعيّة في إحدى المنظمات غير الحكومية بالعاصمة حيث تسكن، والتي توضح أنها حتى حين تكون بالقرب من بيتها في منطقة تعرفها جيدًا، يبقى تركيزها مشدودًا خلفها، لتراقب ما إذا كان أحد يتبعها أو يثير الريبة، فيما تحمل دائمًا بخاخ فلفل وسكينًا صغيرة. تقول ليلى "قرّرتُ أن أحمل هذه الأدوات بعد مواقف مررت بها أو سمعت عنها، إذ شعرتُ بضرورة أن أحمل أية وسيلة تساعدني في الدفاع عن نفسي".
المواقف التي واجهتْها لم تكن عابرة. في إحدى المرات شعرت ليلى أن أحدهم يتتبّعها، ومرةً أخرى كانت قرب مدرسة "الفرير" (Collège des Frères) في "فرن الشباك" حين أطلق شخص طلقتَين، وفي اليوم التالي لم يتحدث أحد عن الأمر، وفي حادثة ثالثة رأت رجلًا داخل سيارته يمارس العادة السرية في الشارع.
بالنسبة إليها، فإن غياب رد فعل السلطات هو ما يجعل الخوف مضاعفًا، إذ توضح: لو أن الجهات المسؤولة تقوم بواجبها، لشعرنا بالحد الأدنى من الأمان، لكننا للأسف لا نزال نخاف من السرقة، من التحرش، من القتل، من نظرات الناس، ومن كل شيء حولنا.
صحيح أنّ حمل البخاخ والسكين يمنح ليلى شيئًا من الراحة وشعورًا بامتلاك وسيلةً للدفاع عن نفسها، لكنها في الوقت نفسه تعترف: أعلم أنني إذا وُضعتُ في الموقف مباشرةً، فقد أتسمّر في مكاني دون أن أعلم ماذا أفعل.
سارة إسماعيل، 23 سنة
تقول سارة "هناك دائمًا بعض الخوف"، إذ تصف الخوف كشعور يرافقها ويشتدّ حين تعود إلى البيت في وقتٍ متأخر. تمشي وهي تلتفت يمينًا ويسارًا فيما تراقب المفارق خشية ظهور أحدهم فجأة. تحرص على أن تبقى قريبة من الحائط، وكأنها تبحث عن جهة آمنة تحمي فيها ظهرها.
لا تفارق سكينتُها الصغيرة المسماة بـ "سكين الستّ طقات" حقيبتَها أبدًا، والتي قرّرت حملها منذ انتقالها إلى بيروت لدراسة الصحافة والإعلام في الجامعة اللبنانية، خاصة أنها كانت تمضي معظم وقتها خارج المنزل.
تقول سارة: صرتُ أفكّر بالأدوات التي بإمكاني حملها، فوجدتُ أن السكين أنسبُها. كنتُ في إحدى الأسواق، ولفت انتباهي سكين قديمة فاشتريتها، ومنذ ذلك الحين وهي لا تفارقني.
أكثر المواقف التي طبعت في ذاكرتها اختبرتْها سارة قبل أن تعود الحياة بعض الشيء إلى وسط بيروت، حين كان المكان شبه مظلمًاً وخاليًا من البشر، حوالي الساعة نحو التاسعة مساءً، ثم فجأةً ظهر رجل أمامها وحاول الهجوم عليها. "التقطتُ السكين فورًا وفتحتها موجهة إياها لوجهه قائلة: لا تحاول أن تقترب، وإلا سأقتلك! لكنه حاول الاقتراب، ورغم ذلك بقيتُ ثابتة ودفعته عني بقوّة وهربت". في تلك اللحظة امتزج الخوف مع شعور بالقوة منحتها إياه قدرتها على مواجهة الموقف حتى النهاية. "بالطبع لم أكن سأقتله، لكنني كنتُ مستعدة للدفاع عن نفسي حتى آخر لحظة".
بالنسبة إلى سارة، فالسنوات الأخيرة التي مرّت بها البلاد جعلت المدينة مكانًا أخطر، لا سيما في الليل. "المعتدون يسرحون ويمرحون ولا جهات تلاحقهم، وإذا قرّرت المرأة أن تبلّغ يسألونها إذا كانت تمتلك دليلًا على ما حصل، وكأن شهادتها لا تكفي لفتح تحقيق".
تشير سارة إلى أن حالات الخطف بحق نساء وفتيات، والتي تزايدت خلال شهر آب/أغسطس 2025 في لبنان، تشكل دليلًا إضافيًا على غياب الحماية. "لا الدولة عم تحمي النساء، ولا في إجراءات جدية تمنع تكرار الحوادث".
الخوف الذي نحمله ليس وهمًا، بل تجربة يومية تتسلّل إلى خطواتنا وقراراتنا وأشيائنا الصغيرة؛ من هالا التي تضع بخاخ الفلفل وجهاز الإنذار في متناول يدها، مرورًا بليلى التي تسير في شوارع تعرفها كأنها أرض غريبة، إلى سارة التي أمسكت سكينها ودافعت عن نفسها، وصولًا إلى تلك الفتاة المجهولة التي أنقذها مفتاح المنزل الضائع… جميعنا نعرف أن هذه الأدوات لا تغيّر قواعد اللعبة، لكنها تمنحنا شعورًا بأننا لسنا تمامًا بلا حيلة.
ما لم تتحمّل الدولة مسؤولياتها وتُعامَل الانتهاكات بحق النساء كجرائم تستحق المساءلة والعقاب، سنبقى نمشي على الأرصفة متلاصقات مع الحيطان، حاملات حقائب تملؤها "أسلحة صغيرة"، مع علمنا في قرارة أنفسنا، بأن الخطر قادر على الانبثاق من أي زاوية وفي أي وقت.
إضافة تعليق جديد