أثار فيديو قص شوارب الشيخ مرهج شاهين على أيدي عناصر من الأمن العام أثناء اجتياح السويداء غضبًا واسعًا بين معارضي سلطة الأمر الواقع والحكومة الانتقالية، ممّا تسبب في انتشار خبر استشهاده، قبل أن تنفي حفيدته كريستين ياسين الأمر بعد يومين. رأى البعض في هذا الفعل "هتكًا رمزيًا للعرض"، بينما اعتبر مؤيدو السلطة أن إهانة مشايخ الدروز والرجال المسنّين أمر مرفوض ولا علاقة له بأهداف "الدولة" الجديدة في فرض "سيادتها" على الأراضي والمدن السورية بعد هروب المخلوع. وفي الوقت الذي اعتبر البعض أنّ القص يرمز إلى إهانة رجولة مشايخ الجبل، رأى آخرون أنّ الإهانة استهدفت "كرامتهم المعنوية".
ترتبط رمزية الشوارب عند البعض بهوية الرجولة، وعلاقتها بمعاني القوة والكرامة والشرف والصلابة. تقول مي عبد الله إن "الشارب عند الدروز يُربى كما تُربى الكرامة: لا يُقصّ إلا موتًا أو حدادًا، ولا يُمسّ إلا بإذن صاحبه. ومن يقصه عنوة، لا يستهدف شكلًا، بل يذبح معنًى".
يركّز هذا المقال على فعل القص بوصفه أداءً سياديًا يتجاوز رمزية الشارب، إذ ينظر إليه في سياق الاجتياح العسكري بوصفه أداة لإعادة إنتاج السلطة عبر الإذلال الجسدي والرمزي للرجال والمشايخ الدروز، ليتحول حينها جسد الرجل "الآخر" إلى مساحة لتشكيل وترسيخ سيادة الدولة الجديدة المتمثلة في "هيئة تحرير الشام" باستخدام الأدوات ذاتها: المعارك والتوسع العسكري، وهي أدوات تُرسّخ لمفهوم "الشرعية السياسية" أو مبدأ "مَن يحرّر يقرّر".
تكتسب هذه النقطة أهمية خاصة في سياق السويداء، التي رسّخت منذ 2015 سيادتها المحلية برفض إرسال رجالها وشبّانها إلى جيش النظام، وبتحرير فصائلها المسلّحة في 2018 أبناءها وبناتها المختطفين/ات من داعش، كما تعزّزت هذه السيادة ليس فقط عبر العسكرة، بل أيضًا من خلال انتفاضة ساحة الكرامة التي استمرت سنة وأربعة أشهر حتى سقوط النظام الأسدي؛ هذه السيادة التي صاغها أهل السويداء تمثل سيادة "أهلية محلية"، متمايزة عن سلطة النظام وعن الثورة المضادة الممثلة بجهاديي السلطة الجديدة.
اليوم في معركة فرض سيادة "الدولة"، يُعاد تشكيل جسد الرجل الدرزي عبر أدوات الإذلال - كحلق الشارب - ليُفرغ من علاماته التقليدية كفاعل سيادي نديّ في الفضاء العام الثوري، ويتحول إلى خارطة جديدة للسيطرة العسكرية والتأديب، ليصبح جسد الرجال المختلفين عن "الهوية البصرية" الجديدة هدفًا لمحاولات انتزاع هذه السيادة وبلورتها.
"الحرب على الإرهاب" وشرعنة العنف تحت غطاء الأمن
تعتمد المقاربة المتّبعة في هذا المقال على دراسات نسوية وكويرية في العلاقات الدولية تركّز على كيفية اشتغال العنف العسكري كأداة لإعادة إنتاج السيادة من خلال السيطرة على الأجساد التي لا تتوافق مع النموذج المعياري للرجولة والأنوثة. تُسلط هذه القراءات الضوء على البنية الثنائية التي تحدّد ما يُعتبر ذكورة أو أنوثة معترفًا بها مقابل تهديد، وتدمير، ونزع الشرعية عن كل ما يتجاوز هذه التصنيفات الثابتة، سواء فيما يخص الهوية أو الجسد أو الدور السياسي والاجتماعي.
على سبيل المثال، تشرح د. جاسبر بوار (Jasbir Puar) كيف أعادت "الحرب على الإرهاب" تشكيل مفهوم الرجولة ضمن خطاب أمني عنصري، إذ صُوّرت الرجولة المسلمة كتهديد أمني، مفرَطة في الذكورة، بدائية وعنيفة، أو في حالات أخرى، كذكورة "مخنثة" وخاضعة، مع بقاء الرجل المسلم خارج إطار الرجولة المقبولة في الخيال القومي الأمريكي. تحلّل بوار تصوّر الذكورة المسلمة في الولايات المتحدة بعد 11 أيلول/سبتمبر كذكورة إرهابية بالضرورة، ما عرّض كل من يُقرأ كمسلم أو عربي لرؤية إرهابية، وقد تأثر بذلك رجال وفتيان مهاجرون ليسوا بالضرورة عربًا أو مسلمين، في أحيائهم وشوارعهم التي شهدت تغيرًا في أجوائها الثقافية والمادية.
بعد 11 أيلول/سبتمبر، أصبحت السيادة الجنسية في الولايات المتحدة مرهونةً بأمْنَنة مفاهيم الذكورة والرجولة، إذ تُعتبر رجولة الرجال غير البيض والمسلمين خصوصًا، تهديدًا لأمن الدولة في سياق ما يسمى "الحرب على الإرهاب". تُبيّن بوار أن تعرية الرجال وتعذيبهم، كما في سجون مثل أبو غريب، لم يكن فقط لإذلالهم جسديًا، بل كان يحمل أيضًا وظيفة رمزية تهدف إلى إهانة رجولتهم وفرض الهيمنة السياسية عليهم من خلال الجسد ذاته. بهذه الطريقة، تنتج السيادة الأمريكية خطابًا جنسيًا عنصريًا يُشرعن العنف تحت غطاء الأمن.
وفي السياق الفلسطيني والاحتلال، تركّز الباحثة الكويرية جيل هوشبيرغ (Gil Z. Hochberg) في مقالها "فتّشني على الحاجز" على العلاقة البنيوية بين الرجولة المعيارية ودولة الاحتلال، موضحة كيف يعتمد الثاني على فرض نموذج محدّد من الرجولة قائم على الأمننة، والاستيطان الاستعماري، واحتلال الجسد في الحيز العام. هذا النموذج هو أداة قمع استيطاني استعماري تُمارَس يوميًا في نقاط التفتيش، حيث يتحول الجسد الفلسطيني إلى موقع استعراض للسلطة. تجادل هوشبيرغ بأن إجبار الرجال الفلسطينيين على خلع ملابسهم عند الحواجز ليس مجرد إجراءً أمنيًا، بل هو أداء رمزي يعيد إنتاج السلطة الاستيطانية عبر إهانة الرجولة المعيارية الفلسطينية وتفكيكها علنًا. تعكس عملية التفتيش الجسدي اليومية هيمنة الذكورة الاستيطانية على السلطة عبر تعرية جسد الرجل الفلسطيني المتصوَّر كمقاوم ومهدِّد للمشروع الاستيطاني بهدف كسر رجولته والسيطرة عليه، ليس فقط كتهديد أمني بل كتجسيد لهوية وطنية مقاومة.
التحجيب القسري في إدلب: سيادة تُرسَّخ عبر الجسد
لا بد من التذكير هنا - رغم محاولات البعض نسيان ما قبل 7 كانون الأول/ديسمبر 2024 - بأنّ ممارسات فرض السيادة على الأجساد لدى السلطة الحاكمة قد بدأت في إدلب، حيث لم تقتصر على المعارك وتوسيع رقعة النفوذ بين الفصائل، بل امتدت لقمع الجسد وفرض أدوار سياسية واجتماعية مرتبطة بمعايير وتعبيرات جندرية محددة، من بينها ممارسات التحجيب القسري.
أذكر جيدًا الدفاعات المستميتة التي قدّمها ناشطو إدلب وإعلاميو كفرنبل في مواجهة حواجز فصائل مثل النصرة وأحرار الشام والجيش الحر عام 2013، الذين شرحوا للعناصر المسلحة أنني "دكتورة سنيّة" ولست "علوية"، في محاولة لحمايتي من الملاحقة، كما لو أن امتناعي عن ارتداء الحجاب يحتاج إلى تبرير طائفي أو مهني كي أستحق عبور الحواجز. كان البقاء على قيد الحياة مرهقًا، فكيف حين يُطلب منك على كل حاجز أن تشرح سبب عدم ارتدائك الحجاب، وقد كنت أردّد على الحواجز: "ما كنت محجبة بالشام، ليش لازم أتحجب هون؟"، بينما كان النشطاء - بحسن نية - يستنجدون بلغة الامتياز العلمي: "هي دكتورة! هي دكتورتنا في الضيعة". بدا أنّ لقب "الصحفية" أو "الدكتورة" أكثر أمانًا، أو كما نقول في الثورة، "صديقًا" أفضل من كوني ثائرة ضد النظام أو معلّمة.
كنتُ في نظر هذه الحواجز، امرأة يجب أن تُنضبط عبر جسدها وزيّها، إذ إنه من الضروري أن يُختزل كل هذا التاريخ النضالي والسياسي لأصبح امرأة "صالحة للعبور"، وفق تصوّرات سيادة جبهة النصرة آنذاك. لم أستطيع الاستمرار بعملي كمعلّمة وبنشاطي لولا كلمات الشهيد رائد الفارس، صاحب لافتات كفرنبل التي لا تزال ترصد الثورة بروحها الساخرة والحكيمة، إذ قال لي آنذاك: "ما حدا حيخليكي تتحجبي طول ما أنا عايش". لكنّه لم يعش طويلًا.
لم تُجدِ حجج "الصحفية" أو "الدكتورة" نفعًا. أصبحتُ "مطلوبة" ليس فقط لدى النظام، بل من عدة فصائل جهادية مسلّحة. يكشف المشهد عن تشابك أشكال السلطة بين النظام وفصائل الثورة المضادة، والتي مع اختلافها في نقطتي الإيديولوجيات والدعم الخارجي، تتقاطع فيما يخص قمع الحريات الفردية والسيطرة على كل ما يخرج عن نظامها. حتى "الأمير" الجهادي وجّه تهديدًا صريحًا: "العلمانية يا بتغطي راسا يا ما بتفوت الضيعة". وهكذا أصبح "الشمال المُحرّر" امتدادًا لسيادة مركّبة؛ جوُّه مُحتل بطائرات النظام وروسيا وأرضُه محتلة من فصائل فرضت سيادة وحوكمة تقومان على القتل والاعتقال والتهجير والإقصاء.
لم يكن تهجيري من سوريا للمرة الثانية ناجمًا عن "وصمة العلمانية" فقط، بل لأنه لم يعد هناك مكان للأشخاص المختلفين، فالسيادة التي فرضتها الفصائل الجهادية استخدمت الجسد الأنثوي فضاءً للانضباط، وفرضت نموذجًا واحدًا للمرأة "المثالية": محجبة، غير نسوية، أو كما عبّرت عائشة الدبس مسؤوليتها و"فطرتها" وأولوياتها متمثلة في أسرتها وزوجها. في هذا السياق يتحول التحجيب القسري إلى أداة بناء سياسية بامتياز، وليس مجرد ممارسة دينية، بل تعبير عن السيادة، والهيمنة على الفضاء العام، ورسم حدود المقبول والممنوع لكل من يخرج عن النموذج المعياري للذكورة والأنوثة كما تراهما قوى الأمر الواقع.
اغتيال الرجولة البديلة: إعلاميو كفرنبل نموذجًا
بالاستمرار في الحديث عن الماضي المنسي، كانت ملاحقات وجرائم اغتيالُ النشطاء والإعلاميين/ في إدلب على يد داعش وهيئة تحرير الشام إفراغًا لخطاب ورؤية ثورية بديلة حدّدت مَن هو الرجل المستحق للحياة ومن هو المعرّض للموت. فإذا كانت السيادة تُمارس عبر إدارة الأجساد والتحكم في قابليتها للحياة، فإن السيادة الجهادية في إدلب أعادت إنتاج ذاتها عبر تصفية أشكال الرجولة التي لا تتوافق مع نموذجها الجهادي المسلّح.
جسّد إعلاميو كفرنبل، مثل: حمود الجنيد ورائد الفارس وخالد العيسى، بدائل مختلفة عن الرجولة المهيمنة والمسلّحة والتي تقوم على: بناء مجتمعات أهلية، إدماج فنّ اللافتات بالسخرية السياسية، وتعزيز ثقافة الاحتجاج بعيدًا عن منطق السلاح. لم تكن هذه الرجولة المدنية محايدة، بل كانت تحديًا مباشرًا لسيادة الفصائل الجهادية وحوكمتها. لذلك شكّل اغتيال إعلاميي كفرنبل وباقي نشطاء الثورة من قبل هيئة تحرير الشام جزءًا من مشروع لإعادة إنتاج السيادة، والذي يعتمد على إقصاء أي شكل من أشكال الرجولة التي تعطي الأولوية للكلمة على الرصاصة، وللجماعة المدنية على الفصيل المسلّح، وللمقاومة السلمية على المعارك والاجتياح العسكري.
قص الشوارب كبسط لسيادة الرجولة الجهادية المسلحة
في الختام، لا يمكن قراءة قص الشوارب بعيدًا عن منظور جندري-سيادي، بل باعتباره استمرارًا لممارسة منهجية بدأت في إدلب من أجل هندسة السلطة عبر الجسد، حيث تتحوّل الذكورة إلى أداة مركزية لترسيم حدود السيادة الجهادية العسكرية التي تصوّر سلطة الأمر الواقع رجولة مشايخ الجبل وشبانهم ورجالهم على أنها رجولة "غير حقيقية"، فاقدة لعلاماتها التقليدية كالشوارب، لأنها لا تتطابق مع صورة "المجاهد المقاتل" صاحب شرعية حمل السلاح و"التحرير".
لا يقتصر هذا التصوير على نزع الاعتراف السياسي والاجتماعي عن بدائل الرجولة الجهادية المسلحة، المتغيرة والمتباينة بحسب التحوّلات العسكرية والتحالفات السياسية، بل يصبح قص الشارب أكثر من مجرد فعل إذلال فردي؛ كأداء سيادي يُعيد ترتيب الهرمية الجندرية عبر تفكيك رجولة الدروز، وتحويل صاحبها من فاعل ندّيّ في الفضاء العام إلى جسد مقصيّ فاقد لشرعية السيادة الشخصية. تستهدف هذه الممارسة إذلال الرجال الدروز وترسم الحدود السيادية بين الرجولة المهيمنة والرجولة المختلفة، وبين مَن يُسمح له بممارسة السلطة ومن يُحكَم عليه بالخضوع. بهذا المعنى، يمثل قصّ الشارب نموذجًا مصغّرًا لآلية بلورة السيادة الجهادية المسلحة، عبر السيطرة على الرموز الجندرية للهيمنة، وإعادة تعريفها بما يخدم "بناء الدولة" والتي تستخدم التحكم في مظهر الجسد كأداة لإعادة إنتاج السلطة.
إن كانت ممارسات الفرض القسري للحجاب في إدلب إحدى الأدوات لضبط الجسد الأنثوي المختلف وإخضاعه لتجانس السيادة الرجولة الجهادية المسلّحة، فإنّ استهداف رجولة الدروز في السويداء يعد استهدافًا طائفيًا من جهة، واستمرارًا لممارسات الرجولة الجهادية لصياغة سيادتها باستخدام السلاح من جهة أخرى.
أخيرًا، إن كانت ثورة 2011 ثورة كرامة وحرية، فإن تجديدها اليوم يتضمّن استمرار نهج ثوار كفرنبل الأوائل وثوار السويداء معًا من أجل بناء سيادة محلية بعيدة عن كل أشكال الثورات المضادة سواء من الأسد وهيئة تحرير الشام، أو دولة الاحتلال.
إضافة تعليق جديد