المكان: مصلحة الهجرة والجوازات، محافظة تعز، وسط اليمن.
الزمان: 2017.
كنت أقفُ في طابورٍ طويل، رغم أني وصلتُ في السادسة صباحًا. يبدو أن المئات سبقوني لاستصدار جواز سفر، وبعضهم جاء منذ البارحة. الإرهاق واضح في قسمات الوجوه. اللهجات متنوّعة، ما يعني أنهم أتوا من محافظاتٍ عدّة. النساء أكثر من نصف المنتظرين. كنّ متّشحاتٍ بالسواد، منقّبات، حتى العجائز منهنّ.
وقفتُ لأكثر من ساعةٍ ونصف، حتى تنمّلت قدماي. كنتُ أبدو مميزةً بلباسي الرمادي ووجهي غير المستور. أتاني عسكري، كان قد تأمّل وقفتي طويلًا، ليعرض خدماته. أخبرته بأني لم آتِ للتنزُّه، وما أريده هو جواز سفر، كباقي المواطنات المنتظرات هنا.
كان لطيفًا بما يكفي ليخبرني أن انتظاري لا فائدة منه ولا طائل، لأن أوراقي ينقصها "إذن ولي الأمر".
لم يكن مهمًّا أنني طالبة جامعية، ومرشّحة لمنحة التبادل الثقافي بين "جامعة تعز اليمنية" و"جامعة النهضة المصرية" لتفوّقي العلمي وتميُّزي في الأنشطة الجامعية؛ ولم يكن مهمًّا أنني في الثالثة والعشرين من عمري (أي أنني تجاوزتُ سنّ الرشد منذ زمن)؛ ولم يكن مهمًّا أنني اتصلتُ بوالدي المريض المقيم في قرية نائية تبعد 8 ساعات في السيارة، لأخذ "الإذن الشفهي" منه. كلّ ذلك لم يكن مهمًَا. كان لا بدّ من الحصول على إذن والدي بوكالةٍ رسميةٍ مختومة.
حمدتُ الله حينها لأنني لم أضطر للانتظار أكثر، وإلا لكنتُ فقدتُ الوعي من الجوع والعطش. وحسبتُ المطلب قانونيًا، فاحترمته.
قبل مغادرتي بدقائق، لاحظتُ مجموعة نساءٍ في الثلاثينات والأربعينات من العمر، ومعهنّ سيّدة مُسنّة. سمعتُ صوت نشيجٍ خلف النقاب، ودفعني فضولي لسؤالهنّ عمّا حصل معهنّ. اكتشفتُ أن العجوز هي أمّ إحداهنّ، وأنها بحاجةٍ لعمليةٍ جراحيةٍ في الهند، لكنها تحتاج للحصول على إذن ذَكَرٍ من العائلة لإصدار الجواز. قالت إنه ليس في عائلتهنّ أيّ رجال، وأن ابنتها أستاذةٌ جامعيةٌ لكن من دون أن يكون لذلك أيّ اعتبار!
كان هناك أخريات، لكل واحدةٍ منهنّ طموحٌ أو شوقٌ مكبوتٌ لقريبٍ ما خلف الحدود. كلهنّ كنّ ينتظرن في مصلحة الجوازات منذ أيام. بعضهنّ جئن من مدنٍ متباعدةٍ مثل صنعاء، وذمار، والمحويت، وهي من المناطق التي تخضع لسيطرة حركة "أنصار الله" (الحوثيّين) منذ عام 2014، وتُفرض قيودٌ على جوازات السفر الصادرة عنها.
عدتُ أدراجي من المصلحة برفقة السيدات الأخريات، نجرّ ذيول الخيبة.
اتصلتُ بوالدي ليتكبّد الكثير من صحته وماله، ويرسل لي وكالة تفويضٍ رسميةٍ بكل أمرٍ يخصني، وليس لاستصدار جواز سفرٍ فقط. وصلَتني الوكالة بعد ثلاثة أيام، لكن كان موعد التقدّم إلى المنحة قد انتهى، فخسِرتها.
العرف فوق القانون
شرط مرافقة المحرم شأنٌ عرفي في اليمن، ولا يقتصر فقط على إصدار جواز سفر.
أن نصادف قصص نساء عانَين من ذلك التمييز في أدقّ تفاصيل حياتهنّ، ليس بالأمر الغريب على أيّ واحدة منا.
في قريتي بمحافظة إب وسط اليمن، كانت جارتي متعبة صحيًا، وبحاجةٍ لأن تزور طبيبًا في أقرب مدينة، وهي تبعد عنا مسافة نصف ساعةٍ بالسيارة. كانت تحمل بين ذراعَيها طفلًا عمره ثلاث سنوات، سألتُها: "هل هو المريض؟"، قالت: "أنا المريضة، وهو مَحرَم"!
تفرض الأعراف المجتمعية على النساء مرافقة محرمٍ (أحد الأقارب الذكور المباشرين) للتحرّك، من دون استثناءاتٍ أو شروط. وفي حالة جارتي القروية، فقد تحملَت عبئًا إضافيًا باضطرارها لحمل طفلها، وهي في واقع الحال أمه وحارسته والمسؤولة عنه، ولكنه هو، رغم سنّه الصغير، محرمها!
فرض الوصاية على النساء الراشدات غير قانوني، وللنساء اليمنيات الحقّ بالحصول جواز السفر من دون شروطٍ بحسب القانون رقم 7 لعام 1990، والذي أكده القرار الرئاسي رقم 7 لعام 1994. ورغم ذلك، يستجيب الواقع على الأرض للأعراف التي تعدّ فوق القوانين.
على الورق، يحقّ لجميع اليمنيّين/ات فوق سن 16 عامًا الحصول على جواز سفر، لكن السلطات تشترط عمليًا على النساء الحصول على إذن ولي الأمر، أو حضوره، لاستصدار بطاقة الهوية الشخصية أو جواز السفر، أو تجديدهما.
تعدّ القيود المفروضة على تنقل النساء في اليمن، منذ 27 عامًا تقريبًا، أكثر من أن تُحصى، بعد تولّي جماعات دينية متطرّفة السلطة. وحتى بعد سقوط تلك الجماعات، بقي ما سنّته وفرضَته من الأعراف، معمولًا به.
ويبدأ دور المحرم بضرورة إثبات علمه، والحصول على إذنه، ولا ينتهي بمرافقته للمرأة في السفر. وقد يتحوّل الأمر إلى نوع من الابتزاز لقاء موافقة الذكور على سفر المرأة ومرافقتها.
من مبرّرات شرط وجود المحرم، الخوف "من هرب النساء ضد رغبة أهاليهن". فإذا أبلغ ولي الأمر الشرطةَ عن قريبته بسبب سفرها ضد رغبته، يمكن لوزارة الداخلية والأجهزة الأمنية اعتقالها عند نقاط التفتيش بغضّ النظر عن أسباب هروبها، فتُعاد إلى حتفها أو إلى تعنيفٍ هربَت منه في حالاتٍ كثيرة.
ينصّ الدستور اليمني على أن "جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات العامة" حسب المادة 41، وأن "حرية التنقل من مكانٍ إلى آخر في الأراضي اليمنية مكفولة لكل مواطن، ولا يجوز تقييدها إلا في الحالات التي يبيّنها القانون لمقتضيات أمن وسلامة المواطنين".
كما تكفل المادة 57 "حرية الدخول إلى الجمهورية والخروج منها مكفولة لكل مواطن (...) ولا يجوز تقييدها إلا في الحالات التي يبينها القانون لمقتضيات أمن وسلامة المواطنين"، من دون توضيح طبيعة تلك الحالات والتي قد تخضع للتفسير بحسب الأهواء.
وهذه ثغرة تعطي السلطات الحق بحدّ سفر بعض المواطنين، ومن الوارد استخدامها لتقييد حركة النساء اليمنيات.
جواز السفر "عيب؟"
أطلقَت ناشطاتٌ يمنياتٌ في شباط/فبراير 2022 حملة #جوازي_بلا_وصاية، بعد أن رسخَت هذه الوصاية صورة المرأة اليمنية "بالنافرة" التي تتحيّن الفرصة "لتهرب وتتمرّد".
فإلى جانب العواقب الإجرائية، هناك وصمةٌ اجتماعيةٌ على اللواتي يرغبن بإصدار جواز سفر، خاصةً إن لم يكنّ متزوجات.
ويمكن أن يؤدي السعي إلى إصدار هذه الوثيقة - التي يُفترض أنها حقّ لكلّ مواطن ومواطنة - إلى اتهاماتٍ وتعيير، من نوع أن "لديها حبيب" مثلًا، أو أنها تعرّضَت لـ"غسيل الدماغ من قبل المنظمات الدولية"، أو أنها "ستهرب وتتمرد". وحتى إن كانت تسعى للهرب فعلًا من تعذيبٍ أو تعنيف، فإنّ العرف يقول "فَلتمُت في منزلها خيرٌ من أن تخرج من دون إذنٍ ورقابة".
لذلك، قوبلَت حملة "جوازي بلا وصاية" بهجومٍ شرسٍ استهدف القائمات عليها والمتعاطفين معها، أطلقته الجماعات الدينية المتشددة التي حاولَت تحريف مسار الحملة بالإيحاء بأنّ النساء يتمرّدن على محارمهنّ من الذكور.
لكن رغم ذلك، صمدَت الحملة ونجحَت في انتزاع توجيهٍ من رئيس الوزراء السابق معين عبد الملك، لوزير الداخلية ووزير الشؤون القانونية وحقوق الإنسان، بمراجعة الشروط المعيقة لحصول النساء على جواز سفر والاقتداء بالقانون.
بعد أشهرٍ قليلة، عاد العُرف للواجهة من جديدٍ بعد تغيير رئيس الوزراء. وللمرة الأولى، تسقط قرارات مسؤول سابقٍ بتعيين مسؤولٍ جديد، وما كان ذلك ليحدث إلا بحقّ النساء.
في ذلك الحين، برّر موظفون في مصلحة الهجرة والجوازات القرار، بأنّ عدة فتيات هربن إلى الخارج من دون رضا أهاليهن، وقد تعرّضت الهيئة لمساءلة الأهالي بعد رفع الوصاية عن النساء خلال فترةٍ تجريبيةٍ مؤقتة. وكأن مصلحة الجوازات هيئةٌ رعويةٌ تعمل لحلّ مشاكل العائلات، وليسَت جهةً حكوميةً تشرف على مصالح شعبٍ يزيد تعداده عن 50 مليون نسمة!
وما يحزّ في النفس، أنهم يعاقبون كلّ نساء البلد بحرمانهنّ من حقٍّ بسيطٍ هو الحصول على تلك الوثيقة، استجابةً لهواجس بعض الأوصياء والأهالي الخائفين من هرب بناتهم - علمًا أن من بين الهاربات مَن تبحث عن طوق نجاةٍ من عنفٍ وتنكيل.
قيود سفر مضاعفة
في عام 2017، احتلّت اليمن المرتبة 144 والأخيرة في المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسَين الصادر عن "المنتدى الاقتصادي العالمي". وفي عام 2021، جاءت اليمن في المرتبة ما قبل الأخيرة في المؤشر نفسه.
وبحسب الأمم المتحدة، فإنّ عدم المساواة بين الجنسَين في البلاد يجعل "النساء عرضةً لقيود التحرك".
فمن جهة، تحدّ القيود العرفية من قدرة النساء اليمنيات على العمل والتعلّم والحصول على الرعاية الصحية، بحسب تقرير نشرَته منظّمة هيومن رايتس ووتش في مارس/آذار الماضي
ومن جهةٍ أخرى، فُرضَت عقوبات على سفر اليمنيّين واليمنيات من حمَلَة الجوازات الصادرة عن مناطق شمال اليمن. وكانت وزارة الخارجية اليمنية سمحَت مؤقتًا بسفر هؤلاء استجابةً لمبادراتٍ أممية. لكن تلك الأذونات بقيَت محصورةً غالبًا بالقيادات السياسية، ومن النادر أن يستفيد المواطنون منها، فما بالكِ بالمواطنات اللواتي قد لا يستطعن استصدار جوازٍ أصلًا؟
في آذار/مارس 2024، انطلقَت حملة #اشتي_جواز #وين_الجواز، لتحاكي الحملة السابقة وتكمل ما بدأته، لكن هذه المرة بمطالب أوسع وبزخمٍ إعلامي أكبر، بعد انخراط أكثر من 10 منصاتٍ إعلامية فيها.
وتطالب الحملة بتسيير إجراءات استخراج الجواز للنساء والرجال، وتسريع وتيرتها، واعتماد الجوازات الصادرة عن شمال اليمن، كون العقوبات الدولية لا يدفع ثمنها سوى المواطنون والمواطنات.
وبات ذلك المطلب أكثر إلحاحًا عقب افتتاح مطار صنعاء الدولي، بعد توقّفه عن العمل طيلة سبع سنوات، رغم محدودية الرحلات.
من المعروف أن هناك جوازاتٌ تصدر عن بُعدٍ (من دون حضور طالب الجواز) في السوق السوداء، إما عن السفارات اليمنية في الخارج لصالح أشخاصٍ في اليمن، أو عن مصالح الجوازات المعتمدة في المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا. ويتقاضى السماسرة لقاء تلك الخدمات مبالغ خياليةً تتجاوز ألف ريالٍ سعودي. ويتحدث المواطنون والمواطنات عن جوازات السوق السوداء بصراحةٍ على منصّات التواصل الاجتماعي، ما يدفع بنا إلى السؤال: لماذا لا يتم تشريع خدمة إصدار الجوازات عن بُعدٍ برسومٍ حكوميةٍ معقولةٍ عبر بواباتٍ إلكترونيةٍ رسمية؟
أما بطاقات الهوية الشخصية الصادرة عن إدارات الأحوال المدنية والسجل المدني في مناطق سيطرة حكومة صنعاء، فمعمولٌ بها لإصدار الجوازات في عدن، بل إنها سارية المفعول في السفارات اليمنية خارج اليمن أيضًا. ومن المفارقات أن هذه البطاقات لا تصدر إلا بعد الموافقة عليها من إدارة الأحوال المدنية في صنعاء، في حين أنّ جوازات السفر الصادرة في صنعاء غير معتمدةٍ دوليًا.
ويقول منسّق الحملة، أحمد البعداني، إنها حملةٌ شعبيةٌ غير مخططٍ لها، لكنها ضروريةٌ بسبب معاناة كثيرين وكثيراتٍ من أزمة الجوازات.
هكذا، ومع تحوّل الجوازات إلى أزمةٍ عامّة، يبرز أثرها المضاعف على النساء نظرًا لطبقات التمييز العرفي والاجتماعي ضدّهن. وتبقى حيواتُ نساءٍ كثيراتٍ معلّقة، والفرص أمامهنّ ضائعة، بسبب حرمانهنّ "ترف" الحصول على جواز سفر.
إضافة تعليق جديد