بدعوتها لتعليم المرأة وللحرية ، كانت السيدة المنوبية بالفعل ناشطة نسوية سابقة لعصرها.
نقلا عن موقع أوبن ديموكراسي
تحتل عائشة المنوبية المعروفة باسم السيدة أو للاّ السيدة، مكانة خاصة في ذكريات وقلوب شعب تونس.
يقع ضريحها في محافظة منوبة غرب تونس، بوصفه معلماً تاريخيأ وثقافياً، وتقام فيه التجمعات المحلية والاحتفالات الموسيقية، حيث يقضي الزوار الوقت بتناول الطعام وتبادل أطراف الحديث والتمتع بأغاني الفولكلور التي تمدح القديسة وتتغنّى بها.
ما إن بدأت جولتي في الضريح، حتى قيل لي أن أتحدث إلى العمة "زازية"، امرأة مسنّة تعيش في واحدة من الغرف التي تشغل المبنى. خارج بابها، رتل من الناس ينتظرون. بعد فترة وجيزة، دخلت وجلست أثناء تناولها الغداء في غرفة متواضعة، محاطة بأكياس قليلة من هدايا الزوار.
أخبرتني العمة زازية أن السكان يحضرون لها الحلوى، لتقدمها للزائرين ، كما يحضرون لها اللحوم للطهي وتناول الطعام ببركة المنوبيّة. أخبرتني أيضاً قصصاً عن أزواج تمكنوا من الإنجاب بعد سنوات بلا حمل ، وعن نساء تزوجن بعمر متأخر بفضل بركات القديسة. ومع ذلك، عندما أخبرتها أنني أريد معرفة المزيد عن هذه المرأة المحترمة والموقرة ، لم تعد العمة زازية راغبة في مواصلة الحوار.
تمكنت من الحصول على فرصة للتحدث مع بعض النساء هناك والاستماع إلى قصصهن. فأميرة ذات الـ 25 سنة ، تقول أن الذهاب إلى المزار يعطيها "راحة داخلية". ولكنها لم تكن على دراية بأصول " للاّ السيدة" ، أو قصة حياتها ، أو إلى أي طريقة صوفيّة تنتمي. كما أخبرني زوار آخرون أن السيدة المنوبية كانت "حكيمة" و"امرأة جيدة ساعدت الفقراء". ومع ذلك ، لم يكن هناك الكثير من التفاصيل عن سيرتها، وسبب اعتبارها امرأة فاضلة.
شحّ المعلومات هذا، يتناقض مع تعاليم السيدة المنوبية نفسها، وكيفية معيشتها، والاحتفاء بها كواحدة من أعظم النساء التونسيات.
التعليم والمجتمع الذكوري
نشأت عائشة في العهد الحفصي في القرن الثالث عشر في تونس، وأظهرت ذكاءاً استثنائياً وحدساً مميزاً. كان والدها رجل دين، إما إمام أو مدرس للقرآن. ويلاحظ في علاقتها معه أنه كان دوماً يشجعها على إكمال تعليمها، فقام بتعليمها اللغة العربية، فيما لغتها الأم هي الأمازيغية ، بالإضافة الى علوم القرآن.
كان اختلاف عائشة عمن حولها واضحا، فقد كانت روحاً حرة لم تلتزم بالقيود المفروضة على النساء في وقتها، وهذا ما لم يكن موضع تقدير من سكان القرية. إذ اعتبرت خارجة عن التقاليد وليبرالية للغاية، لدرجة أن والدها كثيراً ما كان يُنتقد بسبب تصرفاتها.
حينما علمت عائشة أنها ستزوج من أحد أقربائها، رفضت وقررت ترك المنزل ، وهو خيار يُستاء منه حتى الآن في تونس ، ناهيك عن ذلك، أنه في القرن الثاني عشر. حين غادرت من منوبة إلى تونس وضحّت بحياتها العائلية ، لم تترك وراءها زواجاً بلا حب وقيوداً اجتماعية تقليدية فحسب، بل سعت أيضاً إلى الحرية واستقلاليتها المادية ومتابعة التعليم.
يقول المؤرخ عبد الجليل بوقرة ، أن التعليم في ذلك الوقت كان متاحاً فقط لبعض النساء: إما الأجنبيات القادمات من المشرق ، أو القادمات من الأندلس أو من ينتمين للنخبة أو من العائلة الحاكمة. إلا أن عائشة لم تكن أياً من هؤلاء.
بعد أن استقرت في مونتفلوري، امتهنت حياكة وغزل الصوف لدعم نفسها مادياً، وسرعان ما أصبحت طالبة أبو الحسن الشاذلي، أحد أبرز الشخصيات الدينية في عصره ، الذي كان تابعا مغمورًا لطريقة ابن عربي الأندلسي الصوفيّة، والذي كان شخصية مثيرة للجدل ومؤثرة في التاريخ الإسلامي ، إذ كان يدعو للمساواة بين النساء والرجال. وكتب على نطاق واسع عن مختلف المعلمات اللواتي شكلن معرفته الروحية ، لذلك لم يكن مستغرباً أن تختار عائشة هذه الطائفة الصوفية كمسار تعليمي لها.
فأهمية إنجازها ترتبط بانخراطها في الدراسات الإسلامية والدينية، بوصفه المجال الذي يهيمن عليه الرجال في الغالب
واصلت عائشة تحدي المعايير الاجتماعية في عصرها. إذ درست القرآن وسعت إلى تأويله لفهم معانيه، كما اعتمدت الشكّ كطريق نحو الإيمان. كما كانت تغادر منزلها دون رجل مرافق لها، وتجتمع مع الرجال مناقشة ومحاورة إياهم، ويقال أن تصرفاتها هذه هي التي دفعت بعض الشيوخ للدعوة إلى رجمها.
بالرغم من ذلك ، درست بجد واجتازت العديد من الاختبارات وسرعان ما ارتفعت من مرتبة طالبة إلى معلمة. كما أصبحت مناظراتها مع مرشدها "الشاذلي" نقطة جذب للعلماء والحكام الصوفيين. المثير في حكايتها لا يرتبط فقط بمتابعتها لتعليمها. فأهمية إنجازها ترتبط بانخراطها في الدراسات الإسلامية والدينية، بوصفه المجال الذي يهيمن عليه الرجال في الغالب.
البروز والتأثير
احتلت عائشة مكانة بارزة كشخصية دينية في تونس ، وكانت قادرة على الوصول إلى أعلى الأوساط الدينية. كما رافقت معلمها إلى أماكن مختلفة للصلاة، كتلك التي تقع على قمم الجبال والتلال ، والتي تعتبر بمثابة امتياز في الأوساط الصوفية. بعد ذلك أصبحت قريبة من الأمير أبو محمد عبد الواحد والسلطان أبو زكريا، واستطاعت الدخول إلى مناطق للصلاة كانت تقتصر على الرجال في السابق ، كجامع موسى العايدين ، الذي بناه أبي زكريا عام 1229.
أثناء خطابها في مسجد صفصافة (مزار عبد الله شريف حالياً) ، فاجئت عائشة الناس بأسلوبها البليغ ومهاراتها اللغوية ، والتي كانت متوقعة فقط من العلماء الذكور المتميزين.
بالإضافة إلى صفاتها العلمية والدينية ، كانت عائشة محبة للخير ، تنفق من دخلها ما يسد رمقها وتعطي ما تبقّى منه للفقراء، وخاصة النساء. وهناك أيضاً بعض الأدلة التاريخية، تقول أنها اشترت العديد من العبيد التونسيين الذين كان يتم إرسالهم إلى إيطاليا فقط لتقوم بإطلاق سراحهم ، وذلك حوالي ستة قرون قبل إلغاء العبودية رسمياً في تونس عام 1846.
عندما غادر الشاذلي تونس، أعطى عباءته وخاتمه لعائشة، كما أعطاها لقب "قطب" وذلك في مراسم رسمية، وسمّاها "إمام الرجال". والقطب هو أعلى المراتب الروحية في الصوفية، وقد استحقت هذا اللقب كونها كانت بالفعل قطبًا للمعرفة والدين خلال حياتها وما بعدها.
لمست روحانيتها وأعمالها حياة الناس بطريقة ارتفعت بها إلى منزلة القديسة، وأحاطت حياتها بقصص روحانية وإلهية ، أو "الكرامات" حسب التعبير المتداول في الإسلام السني. ومن أحد القصص المشهورة أن والدها أعطاها مرة ثورًا للاستخدام الزراعي ، عوضاً عن ذلك أعطته للفقراء، طالبة منهم أن يعيدوا لها العظام. ما إن تم جمع العظام مع بعضها من جديد، عاد الثور إلى الحياة.
ما هو مؤكد حول حياتها هو أنها كانت امرأة مستقلة وذات تأثير يقتدى به. تمكنت من شق طريقها من خلال الروابط الاجتماعية وفهم ذاتي قائم على المساواة، و تفوقها الفكري على الرجال في عصرها.بدعوتها لتعليم المرأة وللحرية ، كانت السيدة المنوبية بالفعل ناشطة نسوية سابقة لعصرها.
إضافة تعليق جديد