في مرحلة حملها، كانت حنان النويصري مرعوبةً من أن يكبر طفلها ويُصبح ذكوريًا. لكن بعد ولادته، أدركت أنّه لا يُمكنها تربية طفلها وهي سجينة مشاعر الخوف والذنب. فماذا فعلت؟ وكيف كبر طفلها ليقاوم النظام الأبوي في تفاصيل يومه؟
بعد تأخّر دورتي الشهرية لأكثر من أسبوع، صاحبَته تقلّباتٌ في المزاج وشعورٌ دائمٌ بالإعياء، اشتريتُ فحص حملٍ منزلي، وكما توقّعت، كانت النتيجة إيجابية.
لم يكن قرار الإنجاب بالنسبة لي أمرًا سهلًا، فقد امتنعتُ عن أداء هذه الوظيفة "المقدّسة" لمدّة أربع سنوات. كنتُ مقتنعةً وما زلت بأنّ إنجاب طفلٍ في هذا العالم المُوحش أمرٌ مُعقّدٌ جدًا. لم أكن أريد أن أحمل بالصدفة وأرضى بالأمر الواقع، بل كنتُ أريد أن أكون صاحبة القرار والرغبة، لأنّ حياتي وجسمي وكلّ شيءٍ بي سيتغيّر لحظة قدوم طفلي الموعود.
كانت فترة الحمل سخيفةً وروتينية: شعورٌ بالغثيان، استشعارٌ مكثفٌ للروائح، رغبةٌ شديدةٌ في النوم وثورةٌ هرمونيةٌ غاضبةٌ ونزقة، إلخ. فقدتُ السيطرة على جسدي ولم أعد قادرةً على التحكّم بشيء. تحوّلتُ بسرعةٍ إلى حيوان كوالا صغيرٍ يتكوّر على نفسه ولا يستطيع مقاومة إغراء الكسل والنوم لساعاتٍ طويلة.
عندما زرتُ الطبيب في الشهر الخامس من الحمل، قال لي وهو يُمرّر جهاز "الألتراساوند" على بطني المُصمّغ بالجل البارد: "هل تريدين معرفة جنس الجنين؟"
كان سؤاله صادمًا نوعًا ما لأنّي كنتُ على يقينٍ تامٍ بأنّي سأنجب بنتًا. أجبته متلعثمة: "أليسَت أنثى؟"
قال لي مُبتسمًا: "إنّه ذكر. انظري هنا"، مُشيرًا إلى ظلالٍ على الشاشة لم أفهم كيف ميّز عبرها جنسَ الجنين.
في طريق العودة إلى المنزل، سيطرَت عليّ الكآبة. بصراحة، أنا لا أحبّ الذكور كثيرًا، وكنتُ أتمنّى أن أنجب طفلةً أجدّل ضفائرها وأُلبسها الفساتين الجميلة وأحتفي معها بكلّ تفاصيل الأنوثة التقليدية والنمطية. مللتُ من أجواء الذكور الباهتة في عائلتي. لم تكن هناك بهجةٌ ولا ألوان. كنتُ أريد أن أعيش أجواءً مختلفةً حتى لو كانت غارقةً في السائد والمألوف. المهمّ أن أعيشها مع ابنتي.
حاولتُ الاحتيال على مشاعري قليلًا وإقناع نفسي بأنّه من الأفضل ألا أنجب بنتًا كي لا تعيش ما عشتُه أنا من قمعٍ وتضييق، لكن من قال إنّ مصيرها سيكون شبيهًا بمصيري؟ ربما تكون أكثر شجاعةً مني في افتكاك المزيد من الحقوق ومجابهة مُجتمعٍ ظالمٍ وقاهر.
مع الوقت، صرتُ أشعر بالشفقة على جنيني الذي ينمو داخل جسدٍ لم يُرحّب بحضوره، وصرتُ أنبش في دواخلي عن السبب الذي ولّد فيّ ذلك النفور منه. أعرف أنّ بإمكاني أن ألوّن بيتي بكلّ الألوان مع ابني وأن نصنع حياةً تُشبهنا بعيدًا عن القوالب الجاهزة، لكنّي كنتُ مرعوبةً من أن يكبر ويُصبح ذكوريًا، فأعيش معه سيناريوهات الماضي الأليم نفسها. أعي أنّ حُزني على جنس الجنين وتشبّثي بالضفائر والفساتين مسألةٌ عرضيّة، لكنّها تُعبّر عن مخاوف دفينةٍ لطالما حاولتُ مواجهتها ولم أنجح.
بعد رحلة حملٍ شاقةٍ ومخاضٍ استغرق خمسة أيام، جاء "بنان" إلى هذا العالم خديجًا.1 كانت ولادتي صعبةً وقبل أوانها، وكنتُ مُرشّحةً للنوم تحت التراب. كنتُ متلهّفةً لرؤية ابني، لكن الفريق الطبّي منعني لأنّ حالته كانت دقيقةً واستوجبت عليه البقاء لفترةٍ في وحدة العناية المُركّزة. قمتُ بعملٍ لا أخلاقي ورشوتُ الممرّضة كي أراه لخمس دقائق فقط. أحضرَته لي ملفوفًا بخرقةٍ خضراء. كان ضئيلًا كحبّة بندق. فتحتُ قماطه ومرّرتُ وجهي على جلده الناعم واستنشقتُ رائحته الغريبة بعُمق. فتح عينيه، اتّسعَت حدقتاه ونظر مباشرةً في بؤبؤَي عينَي. كان ذلك لقاءنا الأوّل، وكانت تلك النظرة التي علّقت ضميري بصنارة الجزع وتركَت قلبي كسلكٍ كهربائي عارٍ تحت المطر.
كنتُ أمًا مهووسة، أعدّ أصابع كفّه وأراقب دقّات قلبه وأقرأ كلّ ما يقع أمامي من كتبٍ عن تربية الأطفال. كنتُ أمًا تشعر بالذنب بسبب الطقس والغيوم وكلّ ما من شأنه أن يحوّل يومه البهيج إلى يومٍ كئيب. كان يتملّكني شعورٌ بالذنب بأنّي المسؤولة عن كلّ حُفر الطريق! كان رأسي يغلي بالأفكار: يجب أن أجد طريقةً لتنظيف العالم من كلّ مجرمي الحروب والمتحرّشين والأشرار كي لا يُزعجوا ابني.
اكتشفتُ مع ابني الحاجة المُلحّة لنا كنسويّاتٍ إلى تفكيك نظام الفحولة القائم والتحدّث عن مدى هشاشته
صحوتُ من غيبوبتي وهوَسي. لا يُمكن أن أربّي طفلي وأنا سجينة مشاعر الخوف والذنب. سأحاول قدر المستطاع أن أعلّمه قيم العدالة والمساواة وأجنّبه الوقوع بين مخالب الذكورية والتخلّف. تبدو المهمّة صعبةً والهوّة بين عالمَينا داخل البيت وخارجه شاسعة.
كنتُ مستعدةً لمُواجهة أيّ شيءٍ من أجله. كنتُ جاهزةً لمُحاربة نظامٍ ذكوري يُحاول الانقضاض عليه في كلّ لحظةٍ ليُحوّله إلى ذكرٍ "فحلٍ" ناكرٍ امتيازاته، لا يؤمن بالحرّيات الفردية وحقوق النساء. لم يخذلني طفلي الصغير الذي بدأ يكبر بسُرعةٍ وصار يقاوم بشدّةٍ هذا النظام في تفاصيل يومه.
أذكرُ عامه الأول في المدرسة. كان صعبًا جدًا. ذات يوم، عاد إلى المنزل ببعض الخدوش والرضوض على وجهه، فسألتُه بنبرة عتاب:
- هل تشاجرتَ مع أحدهم؟
- لا يا أمي، لم يُعجبهم كلامي فضربوني.
لم أتوقّع إطلاقًا أن يكون سبب شجارٍ بين أطفالٍ في المدرسة موقفَ ابني الفطريّ من المنظومة الأبوية.
- سألتنا المعلّمة إن كنّا قابلنا شخصًا قويًا في حياتنا فأجبتُها: أمي.
- ولماذا اخترتني أنا؟
- لأنّك تحملين الأكياس الثقيلة وأحيانًا تحملينني عندما يتعطّل المصعد، ولأنّك تُحمّمينني وتطبخين لي وتوصلينني إلى المدرسة كلّ يوم. تقومين بكلّ شيء. أنتِ قويّةٌ ماما.
- هذا كلامٌ معقول. لماذا ضربوك؟
- سخر منّي أصدقائي في القسم وقالوا بأنّ النساء ضعيفاتٌ وأنّي أشبههنّ. وعندما خرجنا إلى ساحة المدرسة ضربوني.
كان "بنان" في السادسة فقط عندما تعرّض لهذه الحادثة، ومنذ ذلك الحين وهو يدفع ثمن مواقفه المخالفة للتصوّر الاجتماعي السائد ويُعاقَب لأنّه يُفكّر خارج الصندوق.
ما زلتُ حتى اليوم أعيش معه معاناته وهو شابٌ يُحاول اكتشاف كينونته وجسده وميوله. في عيد ميلاده الثامن عشر، قلتُ له مُمازحة:
- صرتَ رجلًا أيّها الطفل.
- ماما، أنت تعرفين أنّي أمثّل دورًا لا يُشبهني. الرجولة بالنسبة لهم أن أدّعي القوة دائمًا، وأمنع نفسي من البكاء، وأكبت رغبتي في الرّقص، وألبس بطريقةٍ مُعيّنةٍ وأعادي الألوان لأنّ الرجال لا يرتدون الزهريّ والأحمر والبنفسجي. هذا غباء.
حاولتُ مُواساته قائلة:
- كلّ من يختارون حياةً مختلفةً يدفعون أثمانًا باهظة. انظر إلى أمّك.
- أتعرفين ماما؟ أجد النساء أكثر فطنةً وذكاءً من الرجال. صنعتنّ من الضعف قوّةً لمُحاربة نظامٍ ذكوري استعبدكنّ لعقودٍ طويلةٍ وما زلتنّ تُقاومن، بينما نحن لا نعترف حتى بأنّ هذا النظام حوّلنا إلى نُسخٍ مُتشابهةٍ ومشوّهة. تعبتُ من امتحان إثبات رجولتي. هل عليّ أن أكون ربّ العائلة أو مُتحرّشًا مُجرمًا أو شخصًا بلا مشاعر حتى أكون رجلًا؟
لم أعرف بما أجيب. كنتُ مُرتبكةً لأنّي أعرف مصير ابني وكلّ الرجال الذين يُحتسبون على المنظومة الذكورية لكنّهم يسعون جاهدين إلى مقاومتها والتنصّل منها قدر المستطاع. اكتشفتُ مع ابني الحاجة المُلحّة لنا كنسويّاتٍ إلى تفكيك نظام الفحولة القائم والتحدّث عن مدى هشاشته.
تمتمتُ بحزن:
- آسفة يا صغيري.
ابتسم لي بحنوٍّ وتلقّف يدي بين كفّيه قائلًا: "ليتني بقيتُ صغيرًا يا أمي."
- 1المولود الذي يُولد قبل أوانه.
التعليقات
مقال اكثر من رائع يتناول موضوع في غاية الاهمية للذكور والاناث على حد سوا.. ابداع في تنوير العقول المجمدة
شكراً الصديقة المثقفة حنان
مقال جميل تحياتي لك اينما كنت وما زلت انتظر لحظة ان اراك
إضافة تعليق جديد