"قطار الزواج لا ينتظر أحدًا". قد تطرأ أحيانًا تغييرات في مواعيد الرحلات ولكنّ صفّارات الإنذار لن ترحمنا عند بلوغنا سنّ الثلاثين. لذلك على كلّ الراغبات في الالتحاق بهذا القطار، تجنّبًا للوصم المُجتمعي، الحضور بكثافة داخل المحطة وقبل الموعد المحدد بسنوات والانتظار طويلا. عند قدوم القطار بسائقه الذي يُسمّى "فارس الأحلام" اركبي بسرعة ولا ترتبكي، وجهزّي نفسك جيدًا لكابوس النواميس والعادات، ولكابوس "ما يجوز" و"ما لا يجوز" في كل شيء؛ في طريقة كلامك، وفي مشاعرك، وفي أسلوب حياتك وفي تمثّلاتك للعلاقات. داخل القطار ركّاب تعرفينهم جيدًا فلا تخافي. ستجدين جميع أفراد عائلتك المُصغّرة والمُوسّعة وجميع أفراد عائلة زوجك المُصغّرة والمُوسّعة أيضًا. ستجدين جيرانك اللجوجين وأطفالهم الأشرار وجيران زوجك اللجوجين وأطفالهم الأشرار أيضًا. ستجدين أبناء وبنات قريتك أو مدينتك، وأبناء وبنات قرية زوجك أو مدينته أيضًا. ستجدين الدولة جالسة بكامل هيبتها. وحتى مُعلّمك في المدرسة الذي صفعك على وجنتيك المُكتنزتين لأنّك تمضغين علكة، وهذا تصرّف غير لائق بفتاة مُهذّبة ولطيفة مثلك، ستجدينه أيضًا. الجميع فرح مسرور بهذا الزواج السعيد إلا أنت. ولا تستطيعين التخلّص أو تصريف هذه "المشاعر السيئة" لأنّك العروس، فابتسمي لعدسات التصوير مثل المعتوهة وعلّمي بناتك بعض الحيل لركوب قطار الزواج الذي لا ينتظر أحدًا.
أعتقد أنني لم أعش كلّ هذه الدراما على الأقل في شكلها الاستعاري. ولكن تروما قطار الزواج متوارثة ويكفي أن تعيشها صديقة لي أو إحدى بنات عمي أو بنات خالاتي أو إحدى جاراتي حتى أفهم هذه الدوامة وأحسّ بثقلها. تزوجتُ منذ سنتين وكان الغضب اللاّعب الأساسي في اتّخاذ هذا القرار الخطير. ذهبت إلى إدارة الحدود والأجانب التابعة لوزارة الداخلية كي أستفسر عن سبب رفض الفيزا لحبيبي المصري، فأجابتني الموظفة بكل صفاقة وبنبرة استهزاء: "نحن لا نُعطي الفيزا للمصريين والسوريين والفلسطينيّين وما لفّ لفّهم بسهولة"، وانهال عليّ الموظفون هناك بوابل من الأسئلة حول حياتي الشخصية وكيف تعرفت عليه. خرجت من الإدارة غاضبة حانقة وقررت أن أتزوجه وقتها نكاية في وزارة الداخلية وفي الجغرافيا وفي الحدود وفي نظام التأشيرة الذي حطّم أحلام الآلاف. الزواج قرار سياسي ولكنه ممجوج بعواطف كثيرة. السياسة فضاء رحب للمشاعر ومازلنا لا ندرس وزنها وتأثيرها في بناء الأحزاب وقيام الدول وفي العلاقات الدولية وفي الصيرورة التاريخية.
كلّ قراراتي غاضبة وحكيمة وحتى قراري أن أكتب بدل تهشيم الصحون كان قرارًا غاضبًا وحكيمًا
دائمًا ما يُحرّك الغضب كل قراراتي وهذا أمر جيد. الغضب عقلاني جدًا ومتطرّف جدًا وحقيقي جدًا. الغضب يُحب الأدرينالين والحماس والمخاطرة والحكمة والتحدّي. قررت وأنا في سنّ الرابعة عشر أن أصبغ دائمًا أظافري باللون الأزرق الفاقع لأنّ جاري قال لي يومًا: "هذا اللون وقح وتحبّه القحاب". قررت أن أدرس العلوم السياسية وألا أكمل الماجستير وبعدها الدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال لأنّ مديرة الجامعة التي تفهم في كل شيء ولا تعرفني ولا تعرف قدراتي قالت لي: "أنت لا تصلحين للبحث العلمي". قررتُ أن أضرب أحدهم يومًا بالحجارة لأنه وصفني بالعاهرة في الشارع. استقلتُ من وظائف عديدة لأنني أرفض الظلم والرقابة والدسائس. كلّ قراراتي غاضبة وحكيمة وحتى قراري أن أكتب بدل تهشيم الصحون كان قرارًا غاضبًا وحكيمًا. لا أفهم لماذا تُسحب العقلانيّة والرصانة من شعور الغضب، وكأنّ الشخص الغاضب غير قادر على المحاججة وكلّ أفعاله وأقواله غير منطقية. ولا أفهم لماذا يعتبر الرواقيّون القدامى والجدد الغضب شرًّا خالصًا وشعورًا حاقدًا وهدّامًا ويتفنّنون في وضع آليات للتحكّم فيه. لستُ بهذه القوّة ورباطة الجأش دائمًا. أنهار بسرعة وأحزن بسرعة. ولا أفهم لماذا نحن مطالبات بأن نكون قويّات وفحلات وسعيدات وألا نعبّر عن مشاعرنا الحقيقيّة وخاصة أن نبتسم مُكرهات في وجوه الناس كي لا نكون "قاتلات للبهجة"1 على حد تعبير سارة أحمد.
ككلّ امرأة تعاني من أحكام الذكورية التي تتسرّب داخل العلاقات التي نعتقد بأنّها مُتحرّرة من القيود وغير تقليدية وجامحة ومجنونة قيل لي "أنت مريضة" و"نكديّة" و"شتّامة" و"عنيفة" و"تعيسة" و"مهسترة" و"لستُ سعيدًا معك". صراحة لا أعرف سرّ السعادة ولا أريد أن أعرفه لأنني منذ فترة قصيرة تصالحت مع فكرة أنني كائن غير سعيد. السعادة ليست شعورًا بيولوجيًا، ولا يوجد في المطلق شعور بيولوجي مُنفصل عن الأفكار والتصورات، بل هي منظومة قيم وديناميكيات مبنية على أسس سياسية واجتماعية وثقافية. فلننظر فقط كيف تعمل المشاعر في حقل السياسة وكيف تُدير الأنظمة مشاعرنا وتُحدّدها وفقا لآلياتها القمعية. السياسة تهتم كثيرًا بسؤال الغاية أي بالسعادة ولكن حسب مصالحها وتمثّلاتها، وتتشكل مواطنتنا وفق منطق السعادة الذي فرضه النظام. المواطن السعيد هو المواطن المنتج، الخاضع للقوانين، لا يتطاول على الدولة وأجهزتها، يقف في الطوابير الطويلة ولا يتذمّر، يخرج من البيت على الساعة السادسة صباحًا ويعود إليه الساعة السادسة مساء، لا يفكر كثيرًا في ميكانيزمات الاضطهاد ويبتسم لأنه ينعم بالأمن والأمان. "تونس بلد الفرح الدائم"، هكذا روّج نظام بن علي لصورة تونس في الخارج غير عابئ بالكآبة المسيطرة على العقول والأرواح. عقول متشائمة وإرادة متفائلة، على حدّ تعبير غرامشي، هي من صنعت الثورة. والغضب هو من أضرم النيران في مراكز الشرطة وحرّك الشوارع وتغلغل في الحناجر التي هتفت طويلا وما زالت تهتف "شغل، حرية، كرامة وطنية". قد يبدو هذا الغضب مقبولا على المستوى الشعبي ولكن نفس الأشخاص الذين يهللون للثورة الغاضبة يرفضون النسويّة الغاضبة.
إلى اليوم مازالت النسويات الرافضات للأنظمة والمطالبات بحقوقهن يُنعتن بـ"المهسترات"
خلق النظام الذكوري نموذج "النساء المهسترات" لأنهنّ غاضبات وكئيبات. يُمكن للحرمان الجنسيّ والعاطفيّ أن يؤدي إلى سيطرة الهستيريا على النساء. لاقت هذه النظرية رواجها في العصر الفكتوريّ وكُتب التاريخ من وجهة نظر ذكورية خالصة، وكأن معاناة النساء النفسية والجسدية في تلك الحقبة مرتبطة بطبيعة أجسادهنّ وبهرموناتهنّ ومنفصلة عن الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي جعلهنّ "ملكية" خاصة لأزواجهن وحرمهنّ من كل شيء لأنهن محكومات بوظيفة إنجابية. ظلّ نموذج "النساء المهسترات" يتنقل من عصر إلى آخر وإلى اليوم مازالت النسويات الرافضات للأنظمة والمطالبات بحقوقهن يُنعتن بـ"المهسترات". الهدف من هذا النموذج هو وصمنا فنظلّ نتأرجح بين ما هو "سويّ" وبين ما هو "غير سويّ" وعندما نقرر أن نصبح "سويّات" بعد أن وقعنا في فخ هذه الثنائيات القيمية التي أسست لها السلطة الذكورية نصطدم بالرفض فنحس بالوحدة في مواجهة عالم لا يرغب بنا، عالم يُديننا. تصطدم العلاقات مع الشريك الذكر داخل البيت بتقسيم الأدوار الجندرية وعندما ترفضين أن تجلي الصحون أو تهتمي بنظافة البيت بدل الاهتمام بأنوثتك وبالتالي به أو ترمي ثيابه المطويّة والمكويّة والتي تعبت في تنظيفها على الأرض لأنّه تكاسل ولا يُريد أن يضعها داخل الدولاب أو ترمي في وجهه كيس مخدة أو ربطة بقدونس لأنّه أفسد مزاجك بملاحظاته وأغضبك تصبحين "عنيفة" و"مريضة" ويجب أن تذهبي إلى أقرب طبيب نفسي. يُسمح للرجال بأن يكونوا عنيفين وشتّامين ولا يُسمح لنا بذلك. وقعتُ في الفخ وظننت طيلة سنتين بأنني أعاني من مرض نفسي ما ويجب أن أخوض رحلة التداوي والتعافي وأنّني غير قادرة على التحكم في مشاعري وفي غضبي الذي "لا يُحتمل". كيف سيساعدني الطب النفسي على التحكّم في هذا الغضب غير المشروع وغير المبرّر. لنا تاريخ طويل كنسويات مع الطب النفسي الذي يبحث عن "الطبيعي" و"المرضي" ويستسهل العلاج بالعقاقير أو حتى العلاج السلوكي كي نصبح صافيات الذهن، هادئات، مبتسمات.
كنسوية لست مُطالبة بأن أكون ذكية طوال الوقت ومُحاربة طوال الوقت
النسوية الغاضبة لا تبتسم وغير سعيدة ولكنها ليست واهنة وعاجزة. النسوية الغاضبة لا تؤذي بل تحاول الفهم والتفكيك. وكنسوية لست مُطالبة بأن أكون ذكية طوال الوقت ومُحاربة طوال الوقت. أريد ألا أنكر تلك المشاعر التي يعتبرها المجتمع "سيئة" ومُخزية"، وأن أسمح لنفسي بقليل من التفاهة والمتعة. وكنسوية لست مطالبة بأن أُربّي شريكي أو أمنع نفسي من الانفعال عندما يتعلّق الأمر بموضوع عن النسوية. لن أعطيه كتبًا كي يقرأها أو أدخل في نقاش طويل عريض وأحاول إقناعه بوجهة نظري. جميعنا ذواتات واعية وحرّة وطز في كل شخص لا يُريد أن يفهم ولا يبذل جهدًا كي يفهم. قرّرت صديقتي منذ فترة أن تُحرج كل ذكر يتطاول عليها في الشارع بأن تقف له وتنظر في وجهه مباشرة وتقول له "ماذا تريد؟"، حصل الموقف مرة وأنا معها ورأيت وجه الشاب المصدوم كيف احمرّ وتلعثم في الكلام ولم يستطع الرد عليها. تعودوا علينا صامتات ولا نرد على شتائمهم وتهكماتهم. كانت قرصة أذن ناجعة وكان انتصارًا حقيقيًا لها ولي لأنني كنت أضحك لأوّل مرة في حياتي بدل أن أحزن أو أشتم. أريد أن يتكرّر هذا المشهد كثيرًا وأن نضحك كثيرًا.
يجب أن نعي بأنّ كآبتنا وحزننا المتوارث شأنٌ سياسي ويجب أن نتقبّل بأننا غير سعيدات لأننا ننتقد السعادة التي أنتجتها العادة والتنشئة الاجتماعية القائمة على التفرقة الجنسية. لسنا سعيدات وهذا أمر جيد لأننا متورّطات في حرب طويلة ضدّ "الفرحة" و"البهجة" و"الرومانسية" المفروضة علينا. لسنا سعيدات لأننا نعيش في زمن كئيب وكلّ شيء من حولنا يُثير الإحباط والتجهّم. نعيش في زمن ومع أشخاص وداخل كوكب لم يعد مُلهمًا. ومثلما يقول هيغل: "زجاجة الشمبانيا ما زالت لا تُنتج شعرًا". الجعّة لا تُنتج شعرًا والمساحات التي نتحرّك داخلها لا تنتج شعرًا أيضًا. حتى الهواء النقي والعصافير التي تزقزق والسماء الصافية والعشب الأخضر والفانتازيا غير مُلهمين لأنّ كلّ شيء مرتبط بسرديّة طويلة وحزينة وبواقع سياسي مشحون. وسط كلّ هذا ما نزال مصرّات على عدم الابتسام. لن نبتسم في وجه سوّاق التاكسي الثرثار ولا في وجه زميلنا في العمل الذي يقول نكاتًا ركيكة ولا في وجه أي أحد يتطاول علينا. لن نبتسم داخل قطار الزواج ولا خارجه بل سنرفع الإصبع الوسطى عاليًا في وجه البوليس والمعلّم والجيران والعائلة المُتحكّمة وشريكنا الذي يقول بأنّه "غير سعيد معنا".
- 1"نسويّات قاتلات البهجة (بالإضافة إلى مواضيع قصديّة أخرى)"، هو عنوان مقال للكاتبة والباحثة الإنجليزيّة-الأستراليّة من أصول باكستانية سارّة أحمد. فكّكت فيه أسطورة "السعادة" التي خلقها المجتمع وفرضها على النساء وتُدافع سارّة عمّا تسميه "مساحة للتعاسة" أي عن التعبير عن مشاعرنا دون خوف من العادات والتقاليد. يُمكن العودة إلى المقال الذي ترجمته دانا علاونة في إطار إصدار لمجموعة اختيار النسويّة ومركز الصورة المعاصرة بالقاهرة على هذا الرابط: https://www.ikhtyar.org/?page_id=20969
التعليقات
تحياتي ريم : مقال جميل ومعبّر ولكن هل نحاول أن نكون سعيدات ، النسويات فعلا اعتدن المحاربة على كافة الجبهات ( العمل، السياسة، الحب ، العلاقات السريّة ) كوني بخير دائما وكوني سعيدة
إضافة تعليق جديد