وصلتني رسالة مفاجئة من صديقتي تسألني فيها عن "خاطبة"، لم تنتظر إجابتي، برّرت سؤالها بأنها تريد "تغيير حياتها بعيدًا عن عائلتها"، ولذا شرعت في البحث عبر مواقع التواصل الاجتماعي وسؤال صديقاتها عن "عريس".
تخاف صديقتي من بلوغ سنّ الثلاثين دون زواج؛ فهي تعتقد أن وجود رجل في حياتها سوف ينقذها من المشاكل التي تعانيها مع عائلتها، وترى فيه المُنقذ الذي سيُغيّر مجرى حياتها. هذه الأفكار لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج تراكمات مجتمعية تُعزّز مقولة "ظلّ راجل ولا ظلّ حيطة"، وتكرّس نظرة ناقصة تجاه النساء اللواتي بلغنَ سنًّا معيّنةً دون ارتباط، وهي نظرة غالبًا ما تشوبها شفقة نشأت عليها معظم النساء في مجتمعنا، وجعلتهن يؤمنن بأنّ الرجال هم مُحقّقو الأحلام، سيجُبنَ بهنّ العالم ويؤمِّنَّ لهنّ حياةً مرفّهة، رغم ضيق الأحوال الاقتصادية وصعوبة الحصول على وظيفة.
صديقتي ليست حالة فردية، أجريتُ مقابلاتٍ مع نساءٍ من أعمارٍ مختلفة يعشنَ في الأردن، ويحملنَ الأفكار والمخاوف والأحلام ذاتها. وهذا ما دفعني للتساؤل: من أين بدأت هذه الفكرة؟ وكيف ارتبطت حياة التحرّر والاستقلالية بوجود رجل؟
السفر والمشي ليلًا
تقول هناء (25 عامًا) إنَّ والدتها كانت ترفض مشاركتها في أيّ تدريبٍ خارج الأردن، وتقف عائقاً بوجه حصولها على فُرصٍ السفر، مبررة ذلك أنه بدافع الخوف والحب، و تقول لها "بكرا بتسافري مع جوزك". وللسبب ذاته رفض أهلها فرصة انتقالها إلى الولايات المتحدة الأميركيّة للحصول على البطاقة الخضراء إثر قبولها في منحةٍ لدراسة الدكتوراه.
أمّا أمنيات سارة (18 عامًا) فلم تتعدى رغبتها بأن تسمح لها عائلتها بالخروج للمشي بعد الساعة السابعة مساءً، إلا أن رفضهم دفعها إلى تمني الزواج حتى تتمكن من الخروج مع زوجها ليلًا، مثل شقيقتها التي انتقلت من وصاية العائلة إلى سلطة الزوج، وباتت تخرج معه في الوقت الذي يُحبّان، إلا أنها – بلا شك – لا تتأخر عن العودة إلى المنزل في الساعة التي يُحدّدها الزوج.
تواصلت مع منار (48 عامًا) التي تزوّجت قبل خمسة أشهر، بعد أن كانت تعيش وحدها في منزلها المُستقل ولديها عملها الخاص. لم تكن مرتاحةً في زواجها وكانت تشكو من تحكّم زوجها بها. وحين سألتها عن سبب زواجها بعد أن كانت مستقلةً في حياتها، ولماذا اختارت شخصًا غير مناسبٍ لها يفرض سيطرته عليها، أجابت: النصيب.
تختار نساء كثيرات تحت وطأة الإجبار أو الضغط النفسي والعاطفي من قبل عائلاتهنّ والمحيطين بهنّ، اللجوء إلى الزواج لإسكات أصوات المجتمع تارةً، وللهروب من ضغط العائلة المستمر تارةً أخرى، أو بحثاً عما تعتقد أنّه سيكون القليل من الحريّة.
تخبرني منى (31 عامًا) أنها ترغب بشدة في تزويج أختها الصغرى التي تعيش معها، للتخلّص من أعباء طيشها وشجاراتهما المتكررة. فعلى الأقل سيتحمّل زوجها كلّ التبعات حين تتزوّج كما تقول. وعلى الرغم من أنه لم يكن حلًا مثاليًا من وجهة نظر منى، إلا أنها قالت: لما تتزوّج بتعقل، بقدرش أصبر عليها أكثر.
الضغط الاجتماعي والتوقعات الثقافية
يناقش كتاب "المرأة والجنس" لنوال السعداوي1 كيف أن الثقافة السائدة تغرس في النساء فكرة أن الزواج هو الهدف الأسمى، فيدفعهن للسعي إليه هربًا من العائلة، دون إدراك أنهن قد يدخلن في منظومة جديدة من القمع.
كما تُفرض على النساء توقعات بالزواج في سن معينة، وبالتالي يُنظر إلى التأخر في الزواج بالنسبة إليهن كمصدر قلق اجتماعي. هذه التوقعات قد تدفع بعضهنَّ إلى قبول زيجات غير مناسبة لتجنب الوصم الاجتماعي كما فعلت منار، فضلًا عن أن الخوف من البقاء دون زواج يمكن أن يؤدي إلى اتخاذ قرارات متسرعة بالارتباط، حتى لو كانت الخيارات غير مناسبة، خشيةً نظرة المجتمع السلبية تجاه النساء غير المتزوجات.
وفي بعض الثقافات، يُتوقّع من النساء الزواج والإنجاب باعتباره شرطًا لتحقيق الذات والنجاح الاجتماعي، مما يزيد من الضغط عليهن لاتخاذ قراراتٍ تتماشى مع هذه التوقعات.
الأسرة كفضاء للسلطة الأبويّة
لم تُخلق النساء كتابعاتٍ للرجال، إلا أنَّ هناك زمنًا أصبحن فيه جُزءاً من ملكيّة الرجال. في كتابه "السياسة"2 الصادر في القرن الرابع قبل الميلاد، يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو إنّ الطبيعة لم تمنح النساء استعدادً عقليًا مناسبًا ولذلك يجب أن لا يتجاوزن دورهن في الحياة الأمومة وشؤون ترتيب المنزل.
لا تزال هذه النظرة حتى اليوم متجذّرة في مجتمعاتنا العربية، حيث يُحصر دور النساء في "المطبخ"، بينما تُفتح للرجل كل الأماكن....
وخضع دور النساء لتحولات تأثرت بالتقسيم الجندريّ للعمل، منذ نشأة وتطور المجتمعات الزراعية، حيث أصبح التركيز على الأمومة والعمل المنزلي أكثر وضوحًا، وتحوّل الزواج إلى مؤسسة قانونية تُعامل النساء كممتلكات، مما يعكس ارتباط اضطهادهن بالسياق المادي والاقتصادي والاجتماعي، وليس مجرد نتيجة لظهور الزراعة.
وهذا ما وثّقته الكاتبة والمؤرّخة الأمريكية غيردا ليرنر في أبحاثها حول تاريخ النساء ودورهن في المجتمعات القديمة إذ ارتأت أنَّ الزواج تحوّل إلى مؤسسة تعامل النساء كممتلكات، وتشرح كيف أن الزواج في المجتمعات الزراعية المبكرة، خاصة في بلاد ما بين النهرين، أصبح مؤسسة قانونية جامدة حيث كان يتوقع من الفتيات مغادرة بيوت طفولتهن للعيش مع أَسر أزواجهن.
ولا شك أنَّ هذا يعود لطبيعة النظام الأبويّ الذي تبسّط لينر أفكاره في كتابها "نشأة النظّام الأبويّ"3 قائلةً إنه يقوم على أساس أنَّ الرجال والنساء خلقوا على نحو مختلف ولهدفين مختلفين، وأن الرجال يمتلكون ذهنًا مُفكرًا وذكاءً متفوقًا وقدرةً على القيادة.
ويشير إبراهيم الحيدري في كتابه "النظام الأبوي وإشكاليّة الجنس عند العرب"4 إلى أنَّ المجتمعات العربيّة أكثر أبويّةً من غيرها، إذ تواجه المرأة قانونين متناقضين، أحدهما ينص على المساواة بين المواطنين، بينما الآخر يميز ضدها استنادًا للأعراف والتقاليد، مما يعزز تصورات سلبية عنها ويعيق قدرتها على تحقيق ذاتها إلى جانب الرجل.
وترى الصحافيّة النسويّة رنا الحسيني أن العالم العربي يتغيّر، ومع ذلك هناك نساءٌ ما زلن يشعرن بأنهنَّ مقيّدات وهناك ضغط عليهنَّ من حيث حريّة الاختيار ونوع المهنة التي يردن اختيارها، معزية التغيّر إلى وسائل التواصل الاجتماعي والأفلام والمسلسلات وقدرتها على نشر الأفكار المختلفة.
وتتابع في حديثها لـ"جيم" أن هناك من يتشبث بالحياة القديمة محاولاً وضع قيودٍ على النساء، وهو ما يدفعهنَّ إلى الهروب من التقاليد التي تفرض عليهنَّ عادات معيّنة. قائلةً إنَّ: التوقعات من الأسرة والعائلة الممتدة مرتبطة دومًا بمفهوم الخوف، ماذا سيفكّر الآخرون بشأننا؟ وماذا سيقول الناس عنا؟ هذه مشكلتنا في العالم العربي، إذ لدينا دومًا خوف من الآخر.
الهروب من القمع العائلي
في مجتمعاتنا العربيّة، تواجه النساء قيودًا مشددة في منازل عائلاتهن، سواء من خلال الرقابة الصارمة أو التوقعات الاجتماعية حول أدوارهن، فيما يُصوّر الزواج كفرصة للخروج من هذه القيود، لكنه في الحقيقة مجرد انتقال من شكل من أشكال السلطة إلى آخر.
تؤكد نوال السعداوي في كتابها "الوجه العاري للمرأة العربية"5 أن النساء في المجتمعات التقليدية يعشن ضمن منظومة تحكمها القوانين غير المكتوبة للعادات والتقاليد، والتي تفرض عليهن الطاعة العمياء للأسرة، حتى لو كانت هذه الطاعة تأتي على حساب أحلامهن وحياتهن الشخصية.
ويعتبر الزواج - في كثير من الحالات - وسيلة للهروب من القيود العائلية، لكنه في بعض الأحيان يكون انتقالًا من قمع العائلة إلى قمع الزوج. وتشير فاطمة المرنيسي في كتابها "ما وراء الحجاب"6 إلى أن النساء اللواتي يهربن من سطوة العائلة عبر الزواج يجدن أنفسهن في أدوار جديدة من الطاعة والتبعية، إذ يحل الزوج محل الأب والأخ في ممارسة السلطة والتحكم بحياة المرأة.
ترى الناشطة النسوية سفّانة أبو صافية أن "النمط الأبوي في بناء العلاقات يحوّل العاطفة من كونها خيارًا حرًا إلى قدر محتوم، ويحوّل الرغبة الحرة إلى ضرورة اجتماعية". فبدلًا من الاستمتاع بارتباط الأخريات، يٌقال "ع قبالك"، وبدلًا من الفرح بالمسار الشخصي كما هو، يُقال "إن شاء الله بنفرح فيك"، وبدلًا من خيار الشراكة الزوجيّة والحياتيّة، يصبح الطموح "ظل راجل".
وتشرح سفّانة لـ"جيم" بأنَّ ذلك يحدث في ظل ترسيخ الأنماط الاجتماعية المتعلقة بأسرة نمطيّة مؤلّفة من أب يعمل خارج المنزل وأم تربي داخله. وتشير إلى أنَّ النموذج التقليدي الذي يروّج لتقسيم الأدوار بين الرجل المعيل والمرأة الراعية لا يعكس واقع اليوم، حيث تعمل كثير من النساء لإعالة أسرهن، ويشارك الرجال في شؤون البيت، ما يجعل التمسك بهذه الصورة محاولة للتشبث بتصوّر نمطي عن واقع لم يعد قائمًا.
الزواج من رجال أغنياء
تُعَدّ العوامل الاقتصادية من أبرز المؤثرات على قرارات النساء بالزواج، خاصةً في المجتمعات التي تواجه تحديات مالية، وفي بعض الحالات، قد تلجأ النساء إلى الزواج كوسيلة للهروب من الضغوط الاقتصادية أو لتحسين أوضاعهن المعيشية أو حتى لتحسين وضع عائلتها التي تساوم على بناتها مقابل المال، أو تدفعهن إلى الزواج من رجالٍ أغنياء.
وتشير دراسة 7أعدتها رهام جعفري إلى أن الأزمات الاقتصادية والسياسية تؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية والعائلية، مما قد يدفع النساء إلى البحث عن الزواج للتخلص من وطأة الظروف.
في المقابل، تتحمّل النساء أعباء اقتصادية إضافية لمواجهة بطالة الرجال وتقلّص الدخل الأسري، دون أن يقابل ذلك تخفيف من الأعباء الأسرية والاجتماعية الأخرى التي تقع على عاتقها.
هل سيتغيّر الواقع؟
ترى أبو صافية أن التغيير يحدث ببطء، قائلةً "حين تستطيع الواحدة منا الذهاب نحو خياراتها وكسر النمط المتوقع منها وتحمل مشقة الطريق، فإن هذا يعني أن واقع فتاة واحدة قد تغير، وليس واقع النساء".
وترى أنَّ تغيّر واقع النساء مرتبط بتراكم النضالات النسوية الفردية والجماعية. مضيفةً أن "حرية الواحدة منا هي حريتنا جميعًا، هذه النسوية التي أؤمن بها على الأقل".
من جانبها، تقول رنا الحسيني إن مفهوم الاستقلالية يتغير في الأردن وخارجها بفضل وسائل التواصل الاجتماعيّ والحركات النسوية ومنظمات حقوق الإنسان التي تساهم في توعية النساء بكيفية قيادة حياتهن دون التصادم مع التقاليد، لذا فإنَّ الواقع يتغيّر، وتستدرك قائلة "رغم هذا التغيير، مايزال الخوف مُقيّداً للكثيرات ويدفعهنَّ لاتخاذ قراراتهنَّ بناءً عليه."
تتساءل عفراء، وهي ناشطة نسوية تعمل في إحدى المؤسسات النسوية، طلبت عدم كشف هويتها، إن كان بالإمكان تغيير الأفكار الأبوية التي تُزرع فينا منذ الطفولة؛ فالفكر الأبوي موجود في تفاصيل الحياة اليومية كافة، بدءًا من المناهج الدراسية التي توزّع الأدوار بشكل غير متوازن، فالرجل يقدَّم على أنه الفاعل في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، بينما يُختزل دور المرأة في الرعاية والأمومة.
وتضيف أن "هناك نمطًا من الملكية يُنقل من الأب أو أحد ذكور العائلة إلى الزوج، وكأن المرأة تابعة دائمًا لسلطة رجل." وتشير لأهمية توفير دوائر دعم وتضامن بين النساء دون أن يضطررن لتحمل مسؤولية مواجهة هذا الواقع وحدهن. "المطلوب هو تغيير جذري في البنية المجتمعية والقانونية، خاصة وأن كثيرات يحاولن تحقيق الاستقلالية في ظل وجود رجال قد يتسمن بالأذى والتسلط" تختم قولها.
في كتابها "Willful Subjects"8 ترى الكاتبة البريطانية سارة أحمد، أن النساء إلى جانب الفئات المُهمّشة الأخرى يعتقدن أن هناك مسارًا محددًا يقودهن إلى السعادة والاكتمال، وأن الخروج عنه يُنظر إليه كتصرف طائش أو نقص في الوعي. هذا الاعتقاد يتشكل منذ الطفولة عبر القصص والثقافة العامة، إذ يكون التمرّد مرادفًا للوحدة أو التعاسة.
ومع مرور الوقت، يتحوّل هذا التصوّر إلى نظام صارم من التصنيفات يحاكم النساء ويحصر سلوكهن بثنائية مطلقة: "جيدة" أو "سيئة". هكذا يعاد إنتاج القوالب النمطية وتفرض رقابة اجتماعية مستمرة عليهنّ.
هذه الحكاية بدأت منذ زمن بعيد لكنها ما تزال مستمرّة. فحتى "الخطّابة" التي قد لا تمثّل أية ضمانة حقيقية للسعادة، باتت ملاذًا تلجأ إليه بعض النساء تحت وطأة الضغوط: من العمر، ومن نظرة المجتمع، وأحيانًا من الواقع الاقتصادي الصعب.
- 1
نوال السعداوي، "المرأة والجنس"، المملكة المتحدة، مؤسسة هنداوي، 1974.
- 2
أرسطوطالس، "السياسة"، الطبعة الأولى، بيروت، منشورات الجمل، 2009.
- 3
غيردا لينر، "نشأة النظام الأبوي"، بغداد، مكتبة بغداد.
- 4
إبراهيم الحيدري، "النظام الأبوي وإشكاليّة الجنس عند العرب"، الطبعة الأولى، بيروت، دار الساقي، 2003.
- 5
نوال السعداوي، "الوجه العاري للمرأة العربيّة"، المملكة المتحدة، مؤسسة هنداوي، 1977.
- 6
فاطمة المرنيسي، "ما وراء الحجاب"، الطبعة الرابعة، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2005.
- 7
رهام جعفري، "دعم هيئة الأمم المتحدة للمرأة والمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة للأولويات التنموية للنوع الاجتماعي في القطاع الحكومي الفلسطيني بعد أوسلو"، معهد دراسات المرأة، فلسطين، 2012.
- 8
سارة أحمد، "Willful Subjects"، لندن، 2014.
إضافة تعليق جديد