بين النزوح والتضامن.. حكايا كويريات في مواجهة الحرب

خلال الحرب الصهيونية على لبنان، وفي أروقة مكان بسيط مخصّص لأفراد مجتمع الميم-عين في بيروت، تداخلت أصوات القصف والطيران الحربي والمسيّرات مع الحكايا الشخصيّة لنساء كويريات. مساحة رمزية جمعت مخاوف وذكرياتٍ ثقيلة لنساء مثليات وعابرات؛ بين من فقدت أوراقها الثبوتية، ومن تحمّلت عنفًا مضاعفًا (جنسيًّا ولفظيًّا بسبب هويتها الجندرية) وأخرى تخشى الطرد من منزلها بعد "انتهاء الحرب"... حكايا أليمة وتحديات مجتمعيّة لن يُنهيها وقف إطلاق النار. الحرب بالنسبة لهنّ صراعٌ يوميّ من أجل البقاء. خياراتهنّ محدودة ومُهدّدة يحكمها الخوف  من الموت بآلة القتل الصهيونية، أو في الشارع من دون دفن وتشييع، أو حتى في مواجهة مجتمعٍ رافض لوجودهنّ. الحرب غيابٌ للأمان ومعركة إضافية يواجهنها في ظلّ واقع تتكرّر فيه سياسات الإفقار والتهجير والعنف الممنهج. 

"يُمنى وسميرة وميرفت" أسماء وهميّة لنساء عشنَ التحدّيات بأبشع صورها، وتزاحمت أسلئتهنّ الوجوديّة. قصصهنّ شهادات عن الحرب، ولكنها أيضًا -وبشكل أساسيّ- تجسيدٌ للهرب من الموت ومواجهة الحياة في وقت واحد. تنقلنا من خلال حكاياهنّ الشخصية إلى واقع النساء الكويريات في الحروب، حيث يصير الاضطهاد الاجتماعي والنفسي والجسدي جزءًا من حياتهنّ اليومية، بكل ما يحملنَ من تاريخ أليم وأحلام بالنجاة. 

حرب داخل الحرب

تعاني النساء الكويريات من طبقات مركبة من التمييز الطبقي والجندري والعنصري. تتراوح مخاوفهنّ بداية من مدى حدود قدرتهن على تأمين أساسيات الحياة من مأوى وغيرها، وتصل لخوفهن من فقدان الحياة بسبب هويّاتهنّ. تروي يُمنى معاناتها في العثور على مأوى آمن خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، باعتبارها امرأة كوير ولاجئة سورية من دون إقامة قانونية، كان إيجاد مسكن حتى في أوقات السلم أمرًا صعبًا. تعيش يُمنى صراعًا بين الأمل في إيجاد مكان آمن والخوف من الطرد المفاجئ "كل شيء حولنا يتأرجح بين الأمل والمجهول حتى فيما يخص المساحة التي نسكنها. ربما نُطرد ولا نعرف إلى أين نذهب؟" كانت تعيش يُمنى مع صديقتها في بيتٍ استطاعتا بصعوبة استئجاره. لكن الحرب أجبرت المالك على جلب أقاربه النازحين للعيش فيه. غادرت صديقتها ووجدت يُمنى نفسها في مأوى مؤقت مع شعور بالخوف: 

"مشاعري مشوّشة. متى سيطلبون منّا المغادرة؟ وأين سنذهب؟ خطوة واحدة خارج المأوى ستُعيدني إلى دوّامة الخطر: صعوبة التجوّل في الشوارع، الاعتداءات الجسدية والتحرّش. أتساءل أحيانًا: هل سأموت في الشارع؟ ومن سيعرفني حينها؟" 

تؤكّد تجربة يُمنى أنّ معاناة النساء الكويريات في الأيّام العادية تزداد سوءًا وصعوبة في الحروب.
هذا ما تؤكده شهادة سميرة أيضًا، التي تُعدّد أشكال التمييز والنبذ التي تواجهها في كل خطوة؛ عند البحث عن مسكن وسماع جواب "نحن لا نقبل أشخاصًا مثلكم" أو عند البحث عن عمل. في كثير من الأحيان تحوّل التمييز إلى تهديد مباشر لسميرة، إذ تتذكّر عندما لحق بها وبصديقتها رجلٌ أراد حرقهما بالبنزين، وهو ما جعل سميرة تخوض حربًا مع الحياة قبل اندلاع الحرب الفعليّة:

 "المخاطر خلال الحرب أو خارجها ذاتها. لا بيوت للإيجار. أنا كسورية منبوذة، وبسبب مظهري وطريقة كلامي أيضًا منبوذة. في كل مرة حاولت فيها استئجار غرفة أو العثور على عمل، قابلتني نظرات غريبة وأسئلة جارحة، مثل: هل أنتِ امرأة أم رجل؟ شعوري بالخوف يزداد يوميًّا". 

وخلال الحرب تفاقمت مأساة سميرة، حيث اضطرّت للنزوح بعد تدمير إسرائيل لمنزلها، فيما ارتفعت أسعار الإيجارات بشكل خيالي بعدما وصلت إلى ألفي دولار أميركيّ: "كان لديّ بيت صغير عانيت طويلاً لإيجاده. أحلامي بسيطة، وفجأة تحوّل كل شيء إلى كابوس بعدما دمره القصف وحينها هربتُ من حيّ إلى آخر بحثًا عن الأمان الذي لم أجده أبدًا". 

الحرب: تكثيفٌ للعنف في حياة الكويريات

تتقاطع تجربتا يُمنى وسميرة مع تجربة ميرفت، التي تكفّلت الحرب بإيقاظ المعاناة المُتراكمة في حياتها. شكّلت الحرب امتدادًا لصراع ميرفت اليومي مع العنف الاجتماعي. ضاعف النزوح من معاناة الشابة العشرينية، لبنانية الجنسية وكويرية الهوية، التي نشأت في دار للأيتام تعرّضت فيه لانتهاكات جنسيّة وجسديّة. لم تشعر يومًا بالأمان على الرغم من عيشها في مكان مخصّص لحماية الأطفال. تعرّضت للضرب والإهانات وأحيانًا التحرّش، فأحسّت برفض العالم بأسره لها. واجهت الحياة بمفردها من دون أمّ أو أبّ، وتحمّلت مسؤولية رعاية إخوتها. تعيش ميرفت صراعًا داخليًّا مستمرًا مع العنف الأسري والمجتمعي. لهذا لم تقتصر تجربتها مع الحرب على الخوف من القصف بل كثّفت توتّرها وخوفها من الضغوط المجتمعية. 

تعيش يُمنى الصراع نفسه، لأنها تعيش في خوف دائم من التعرّض للاعتداء بسبب مثليّتها، وكل ما قد يعكس هويّتها الجندريّة. عندما تسير في الشارع تحاول إخفاء ملصقًا صغيرًا تضعه على هاتفها؛ يُمثّل الأخير مساحةً صغيرةً لها للتعبير، ويُجسّد بعضًا من الحرية والأمان، لكنها تخاف من آخرين يعتبرون هذه التفاصيل تهديدًا للمجتمع. يتداخل خوفها من الحرب مع خوفها من المجتمع، ما يجعل الحياة أكثر تعقيدًا. لا تنتهي الحرب بمجرد وقف إطلاق النار، بل تلاحق آثارها الاجتماعية والنفسية الضحايا لسنوات. لا أحد في مأمن من القصف أو الرفض المجتمعي وهو ما دفعهن للتساؤل "كيف نعيش؟ كيف نحمي أنفسنا؟ أين نجد الأمان؟".

الهروب المتكرر

تقترن الحرب بفعل النزوح؛ يغادر كثيرون بيوتهم بحثًا عن مكان آمن بعيدًا عن خطر القصف والموت. خلال الحرب اضطرّت كلّ من يُمنى وسميرة وميرفت إلى الهرب. لم تكن هذه تجربتهنّ الأولى، فحياتهنّ تعجّ بمحاولات الهرب من العنف والاستغلال والضغط المجتمعيّ، فنزوح النساء الكوير في الحرب تكثيف لمعاناتهنّ في الهرب المستمرّ. 

هربت ميرفت من دار الأيتام. كانت الظروف القاسية والانتهاكات يومية هي ما أجبرتها على الفرار بحثًا عن الأمان. لجأت إلى منزل والدها، فصادر أوراقها الثبوتية ووجدت نفسها مجبرة على  النوم في الشارع "لم يكن لديّ مكان أذهب إليه. مشيتُ لساعات في منتصف الليل بحثًا عن زاوية آمنة أنام فيها". لجأت فيما بعد إلى منزل صديقتها في الضاحية الجنوبية لبيروت، لكنها اضطرّت إلى الهرب لشعورها بتقييد حريتها، وحينها تاهت في الطرقات بسبب تحركها دون وجهة محدّدة. نامت في العراء ليومين بعدما طلبت مساعدة أصدقائها ولم تجدهم إلى جانبها، ثم ازداد وضعها سوءًا مع بدء الحرب وتوسّع القصف "عندما هربت، بدأت الحرب وقصفوا المنطقة التي لجأت إليها، واضطررتُ للفرار من جديد". لا يقتصر الخطر فقط على القصف والحرب، بل تُلاحق ميرفت عصابات استغلتها اقتصاديًا وجنسيًا، كما تحرّش بها صاحب أحد البيوت التي استأجرتها وابتزّها وهدّدها بتسليمها للسلطات الأمنية. كل كل هذه عوامل إضافية تزيد من إحساسها بصعوبة النجاة. في كل خطوة تواجه ميرفت خطرًا جديدًا تختلط فيه أهوال الحرب بانتهاكات المجتمع، فتجد نفسها عالقة بين خيارات الهروب المتكررة والبحث عن ملجأ آمن لا وجود له.

تتوالى تجارب الهرب في حياة سميرة، إذ تنقّلت بين مناطق الصراعات المسلّحة في سوريا، بداية من حلب إلى دمشق وصولاً إلى بيروت، وبداخلها جميعًا لم تجد الاستقرار والأمان. رافقتها مخاوف الطرد أو التعرّض لأذى، ولجوئها إلى لبنان لم يكن نهايةً لمعاناتها، بل بداية لمخاطر يومية أخرى "صحيح أننا نجونا من الموت في سوريا، لكن انتظرتنا عوائق اجتماعية واقتصادية وسياسية في لبنان". أشعلت الحرب الإسرائيلية صراعات سميرة الداخلية مع هويّتها الكويرية، فصارت أكثر خوفًا من التعبير عنها "أخاف قول الحقيقة، إذ أشعر أنّ كل كلمة هي اعتراف سيجلب لي المزيد من المشاكل". 

في هذا الوقت عاشت يُمنى قمع العائلة التي أجبرتها على الزواج وهي قاصر. حملت وطأة كلمة "مطلقة" وحُرمت من حقها في التعلّم والعمل أو حتى الخروج من البيت: "كنت عبئًا على العائلة. إذا دخل غريبٌ إلى البيت، لم يكن لي حق التواجد. لا حق لي في شيء، كأني مُلك العائلة". تعرّضت للعنف وأجبرت على الزواج والعيش في ظروف قاسية. ثم جاءت الحرب في سوريا، فهربت مع عائلتها واضطرّوا للاختباء في البساتين والعيش في خوف دائم. في عام 2019 هربت من العائلة، لكن هذه الخطوة لم تكن نهايةً لمعاناتها، إذ تعرّضت للاعتداء من قبل "مهرّبي النازحين"، ومن أفراد عائلتها الذين حاولوا اللحاق بها وتهديدها. اضطرّت مرارًا للهرب الذي ظل خيارها الوحيد. وجدت الدعم عند أشخاص من خارج محيط العائلة، وتحديدًا من أفراد مجتمع الميم-عين "كان دعمهم لي أملي الوحيد، كنت في حالة نفسية سيئة وبمساعدتهم خرجتُ من الدوامة". 

التضامن وسيلة للنجاة

في ظلّ الحرب، يتعدى التضامن بين النساء الكويريات الدعم النفسي ليصير ضرورة للبقاء. اختبرت سميرة مفهوم التضامن في مركز الإيواء الذي لجأت إليه، والذي لم يكن مجرّد مواساة لحظيّة في الحرب، بل تجاوزها ليصبح خيارًا ممتدًّا في مرحلة ما بعد الحرب؛ ربما باستكمال التجربة واستئجار منزل مشترك. اختبرت سميرة في المركز قيمة التكافل والتضامن "مجموعة أشخاص يحمون بعضهم البعض. نتشابه في معاناتنا. يد واحدة في تقاسم الطعام والشراب والمخاوف وهموم الحياة اليومية".

أمّا يُمنى التي وجدت نفسها في بداية الحرب من دون مأوى، فقد لاقت الدعم من صديقاتها ومن أفراد مجتمع الميم-عين الذي لم يكن مجرّد كلام، بل كان وسيلتها الحقيقيّة للنجاة من ظروف قاسية. التقت بأفراد مجتمع الميم-عين، اختلطت وتعرّفت، فشعرت بقليلٍ من الأمان. هم اليوم عائلتها الحقيقية "مشاعر، وظروف، وتجارب اضطهاد متشابهة. أشعرُ بأننا سند لبعضنا البعض". 

تُعيدنا هذه التجارب إلى أهميّة وجود مأوى مستدام لأفراد مجتمع الميم-عين، وضرورة التفكير في تطوير أشكال التضامن المُمكنة لمواجهة المعاناة. في ظلّ الحرب والظروف الصعبة للنساء الكوير، أثبتت التجارب أن القوة تكمن في المجتمع القادر على احتضان أفراده، وأنّ التضامن بجميع أشكاله قادرٌ على إنقاذ أرواح من الموت. 

 

    لمى أبو خروب

    صحفية من فلسطين.

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.