الحركات النسوية هي نتاج سياقاتها التاريخية وتفاعلات واقعها سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، والحراك النسويّ في مصر مُثقلٌ بكلّ ذلك. لهذا، تقتضي محاولة قراءة هذا الحراك مراجعة نشأته وتطوّره خلال العقود الماضية، وفيها سلسلة محطّاتٍ حاربَت خلالها النسوياتُ من أجل تحصيل الحقوق الأساسية للنساء والأفراد المهمّشات/ين. الحراك النسويّ في مصر حاله من حال الحركات الفاعلة في المجال العام، يتأثّر بالأوضاع السياسية ويتفاعل معها، ويؤدّي السّياق المحلّي دورًا محوريًّا في تشكيله. وقد أثبت قدرته على التأثير في السياقات العامّة، وأحيانًا تغييرها. في هذا النص، أحاول الإجابة على سؤال: أين يقف الحراك النسوي في مصر الآن؟ لعلّ هذه المحاولة تُساهم في تقديم تأطيرٍ عامٍ ومختصرٍ للحراك النسويّ في ظل الأوضاع الحالية.
انتصاراتٌ حقوقيةٌ جزئيّة
بدأ الحراك النسوي في مصر في أواخر القرن التاسع عشر، حين حاولَت عائشة التيمورية1
(1840-1902) لأولِ مرةٍ تفكيك أحوال النساء في الحيّز الخاص الذي حُصِر وجودهنّ فيه. وكان هذا الحصر نتيجةً مباشرةً للاستعمار البريطاني، وما يُدعى بالحداثة الأوروبية التي طُبّقَت عنوةً على البلدان المُستعمَرة، فأصبح الفصل الجندري بين المجالَين العام والخاص سِمة هذه الحقبة التاريخية.
كسرَت نسوياتُ جيل مناهضة الاستعمار هذا الحاجز بين المجالَين عبر مشاركتهنّ في المظاهرات وقيادة البعض منها أيضًا. هكذا، بات وجود النساء في المجال العام أمرًا واقعًا. ومن بين الحقوق التي انتزعَتها النسويات في تلك الفترة كان الحقّ في التعليم الأساسي للفتيات؛ ليستمرّ الحراك إلى حين جلاء الاستعمار البريطاني وإعلان الجمهورية الأولى بعد ثورة تموز/يوليو 1952.2
وكما هو الحال في غالبية الثورات، تمّت تنحية مطالب النسويّات وتأميم الحراك النسوي شأنه شأن الحركات السياسية المستقلّة حينها، لتصير الدولة هي مصدر الحقوق والمساحة الوحيدة لممارسة الفعل السياسي. وللمرّة الأولى، أقرّ الدستور حقّ النساء في العمل بأجرٍ خارج المنزل، ثم أقرّ حقّهنّ في الانتخاب.3
وعلى الرغم من احتكار دولة جمال عبد الناصر المجالَ العام، شاركَت النسوياتُ في الحراك السياسي المستقلّ سواء بشكلٍ منظّمٍ أو غير منظّم، مثل إنجي أفلاطون4
(1924-1989) وأروى صالح5
(1951-1997)، اللَتين انتقدتا الحراك السياسي القائم آنذاك وتهميش أدوار ومواقع النساء داخله. كما برزَت دُرّية شفيق6
(1908-1975) التي انتقدَت الممارسات القمعية لدولة يوليو.
لكنّ مشاركة النساء في السياسة وتحقيق بعض مطالبهنّ، لم يُغيّر في هرميّة العلاقات الجندريّة داخل الأسرة. ظلّ المجال العام حكرًا على الرجال، أي مجالًا ذكوريًّا كما تصفه شهادات بعض النسويّات؛ تمامًا كما استمرّت هيمنة الدولة والرجال على المجال السياسي. أمّا النساء، فبقيَ دورهنّ محصورًا داخل مؤسّسة العائلة، وتحديدًا بالإنجاب، وتحمّل الأعباء الرعائية، والقيام بالأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر. كما ظلّت مفاهيم مثل الشرف والهوية، رمزياتٍ معلّقةً على أجساد وسلوكيات النساء بمجرّد وجودهنّ في المجال العام.
لكن مع بداية عصر الخَصخَصة وسياسات الإفقار الدولية في السبعينات، فرضَت الضرورات الاقتصادية خروج غالبية النساء للعمل خارج المنزل، ما ساهم، ولو بقدرٍ ضئيل، في خلخلة الهرميّة الجندريّة.
بين الخاص السياسي والعام الرجالي
أدّت سياسات الإفقار والخَصخَصة وتقلّص دور الدولة في تنظيم الاقتصاد المحلي، إلى زعزعة مفهوم قيام الأسرة على عمل الرجل. وأدّى خروج النساء للعمل إلى حدوث تغييرٍ نوعيّ في العلاقات الجندريّة نتيجة المساهمة الاقتصادية للمرأة داخل الأسرة. وأثّر هذا التحوّل سلبًا في الذات الرجاليّة لدى غالبية الرجال العاديّين، أو ما يُعرف بالإنكليزية بمصطلح (Emasculation)، فزادَت معدّلات العنف المُمارَس من الرجال على النساء؛ لاسيّما أنّ الذات الرجاليّة المسحوقة على يد الدولة تقوم على مفهومَي الإعالة والسيطرة على النساء. ومع تزعزع المفهوم الأول، أصبح الثاني ملاذًا للرجال لتشكيل هويّتهم الاجتماعية النمطية.
وبالتوازي مع حراكٍ ثقافي تبنّى قضايا النساء وعرَضَها على شاشات التلفزيون، مثل أزمة قوانين الأحوال الشخصية التي أُثيرت كما لم يحصل قبلًا؛ بدأت الحركات الإسلامية، نزاعًا ذكوريًا ورأسماليًا على المجال العام. تمحور هذا النزاع حول أجساد النساء، وعادت فكرة ربط الهوية المجتمعية والقومية بأجسادهنّ، وانتشر الحجاب. ولم يكن هذا الانتشار سياسيًّا فحسب، بل كانت له أسبابه الاقتصادية أيضًا.
ربما يمكننا قراءة هذا المشهد كمحاولةٍ أبويّةٍ للسيطرة على النساء وتنحيتهنّ عن الحيّز العام، بالتوازي مع بدء انتشار العنف الجنسي من جهة، وحصول تغييرٍ نسبي في علاقات النساء بالرجال داخل الأسرة بفعل التحوّلات الاقتصادية من جهةٍ أخرى. كما يمكن اعتباره محاولةً سياسيةً لإعلان وجود الجماعات الإسلامية كطرفٍ فاعلٍ في المشهد السياسي المصري. وبلغ هذا النزاع ذروته مع دولة حسني مبارك، التي استخدمَت حقوق النساء ستارًا لفشلها الاقتصادي والسياسي.
الحقوق الجنسية والإنجابية والعنف الجنسي
ذلك النزاع ومعه المحاولات المضنية لتحجيم مكانة النساء لم تثنِ النسويات عن انتزاع حقوقهنّ، فشهدَت حقبة الثمانينات طفرةً على مستوى التنظيم. إذ تمّ تأسيس المنظّمات والجمعيّات النسوية/النسائية التي هدفَت إلى تغيير القوانين والممارسات القائمة على العنف ضد النساء والفتيات. كما استمرّت النسوياتُ المستقلّات في تفكيك هذه الممارسات، فشكّلَت كتاباتُ نوال السعداوي7 عن الجنس والجنسانية نقلةً نوعيةً مهّدَت لانطلاق جهود الدفاع عن الحقوق الجنسية والإنجابية في محطّتَين تاريخيّتَين، هما مؤتمر القاهرة الإنمائي عام 1994،8 والمؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في بكين عام 1995.9
جَنَت النسوياتُ ثمار نشاطهنّ بتجريم الختان وتعديل بعض قوانين الأحوال الشخصية، في وقتٍ اشتدّت فيه وطأة العنف الجنسي وانتشاره. للوهلة الأولى، بدَت دولة حسني مبارك تقدّميةً وداعمةً لحقوق النساء، إلا أنّ ذلك لم يكن إلاّ جزءًا من سياستها الخارجية، بينما كانت قبضتها الأمنية تُسكت الأصوات المعارِضة وتنتهك بوحشيّةٍ حقوق الإنسان. وكان أحد أبرز هذه الانتهاكات، استخدام العنف الجنسي أداةَ إذلالٍ سياسيةٍ ضد المعارِضات/ين. أذكر في هذا السياق الانتهاك الجنسي داخل أقسام شرطة "عماد الكبير"،10 وكذلك ضدّ المتظاهرات من النساء، كما في أحداث "الأربعاء الأسود" في عام 2005.11 وشهدَت الفترة نفسها تنكيلًا بأصحاب وصاحبات الميول الجنسية غير النمطيّة، كما في واقعة "كوين بوت" في عام 2001.12
منذ أواخر التسعينات وحتى عام 2011، بلغ النشاط الحقوقي والنسوي ضدّ العنف الجنسي مستوياتٍ غير مسبوقة، وذلك بالتزامن مع نموّ الحراك التقاطعيّ مع حقوق أفراد الميم-عين-لام. ثم جاءت ثورة يناير في عام 2011، معلنةً عن تغييراتٍ نسويةٍ جذريّةٍ في سياسات التمثيل (Representation Politics) والخطاب.
ثورة يناير... التمثيل والخطاب والقاعديّة
فتحَت ثورة يناير أبوابًا لمشاركةٍ شعبيةٍ واسعةٍ وانخراطٍ سياسي غير محدودٍ في أحزاب أو حركاتٍ سياسيةٍ ومنظّماتٍ غير حكومية. شعرَت الشابّات لأوّل مرةٍ أنّ بإمكانهنّ طرح قضاياهنّ بأنفسهنّ، من دون الحاجة إلى منظّمةٍ أو حزبٍ يتحدث نيابةً عنهنّ. أنشأنَ مجموعاتٍ نسويةً غير مُمأسَسَة، وساهمَت شبكة الإنترنت في خلق مساحةٍ لنقاشاتٍ كانت حِكرًا على المنتميات/ين إلى الكيانات التنظيمية المُمأسَسَة.
هنا، حدث تغييرٌ هامٌ على مستوى سياسات التمثيل. الشابات اللواتي كنّ في السابق فئةً مستهدفةً لنشاط المنظمة/الجمعية/الحركة/الحزب، فتحنَ آفاقًا لطرح قضايا النساء والأفراد المهمّشات/ين من منظورٍ أفقيّ يتجاوز الهرميّات الاجتماعية. حينذاك، كانت المساحة العامّة والسياسية أكثر انفتاحًا، فتمّ تأسيس مجموعاتٍ من قبل الأفراد الكويريّات/ين ليس فقط لطرح قضايا الجنسانية للنقاش العام، وإنما للتعبئة والضغط من أجل الحقوق والحرّيات الجنسانية. وبذلك، اتّخذ الحراك منحًى أكثر قاعديّةً وأقلّ هرميّةً من ذي قبل.
أمّا الخطاب، فأصبح أكثر تقاطعيةً وجذريّة. وشهدَت السنوات اللاحقة سجالاتٍ داخل الحركات السياسية المستقلّة التي شغلت النسوياتُ قيادة أغلبها. على سبيل المثال، رفضَت النسوياتُ التعامل مع أجسادهنّ داخل الحراك على أنها رمزيّاتٌ للشّرف والعار، كما في أحداث "تيران وصنافير" عام 2016.13 كذلك رفضنَ محاولات تنحية قضايا الجنسانية عن الحراك الهادف للحرية والعدالة الاجتماعية، كما في أحداث حفل مشروع ليلى في القاهرة عام 2017،14 أو ما عُرف بـ "قضية الرينبو". حتى مفهوم العدالة الاجتماعية نفسه تمّ تفكيكه ليشمل ذوات وذوي الهويّات الجندرية والميول الجنسية غير النمطية. وبخلاف النسويات من الأجيال الأقدم، اتّصف الحراك النسوي بعد ثورة يناير بالجذريّة. ونتيجةً لذلك، بدأَت الجمعيات والمنظمات النسوية بتغيير آليات خطابها وأدواتها التي كانت اعتادَتها قبل الثورة.
وكان اللافت للانتباه أنّ جذريّة الخطاب النسويّ بعد الثورة أدّى إلى اشتباك النسوياتِ مع وقائع عنفٍ جنسي عدّة حدثَت داخل الحراك السياسي نفسه، ومنها ما وقع في صفوف حركاتٍ ثوريةٍ أو أحزابٍ سياسيةٍ معارِضة، وارتكبها أشخاصٌ نافذون في أوساط الناشطات/ين ومنظّمات المجتمع المدني.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّ الحراك المناهض للعنف الجنسي بلغ ذروته بين عامَي 2012 و2014،15 وتحديدًا مع أحداث الاعتداءات الجنسية الجماعية على المتظاهرات/ين في ميدان التحرير ومحيطه.16 وفي عام 2014، تمّ تجريم العنف الجنسي في مصر، بعد عقودٍ حاربَت فيها النسويات والنساء في سبيل ذلك، ودفعنَ أثمانًا باهظةً من سلامتهنّ الجسدية والنفسية.
العودة إلى النقطة صفر
تغيّر المشهد السياسي بعد الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين في عام 2013. بذريعة "الحرب على الإرهاب"، تمّ إغلاق المجال العام مرّةً أخرى على نحوٍ أكثر قمعًا ممّا كان عليه الأمر أيّام نظام مبارك. هكذا، جرى تجريم الفعل/النشاط السياسي سواء كان مُنظّمًا أم لا، كما تمّ الانقضاض على الحرّيات الأكاديمية والعمل الصحافي المستقلّ، في الوقت عينه الذي خلقَت فيه أجهزةُ الدولة سرديّةً رسميّةً عن ثورة يناير وأحداثها وما تلاها، وجَهَّزت بكلّ قوّتها للقضاء على مكتسباتها كحراكٍ ثوري مستقلّ.
تأثّر الحراك النسوي المصري بهذه العوامل؛ فالنسوية حراكٌ سياسيّ تلزمه مساحةٌ للخطاب، وأخرى لجني النتائج. هكذا، انحسر دور المجموعات النسويّة المستقلّة التي ازدهرَت بعد الثورة، حتى أن بعضها أوقف نشاطه تمامًا، بينما لجأ البعض الآخر إلى المَأسَسَة للتمكّن من الاستمرار. واستمرّ بعض النسويّات المستقلّات في نشاطهنّ العام بحرصٍ وحذرٍ شديدَين، على الرغم من الأوضاع المترديّة، لكن في الفضاء الإلكتروني حصرًا.
بعد عام 2013، لجأ أغلب الفاعلات/ين في الشأن العام إلى الإنترنت كمساحةٍ غير ماديّةٍ لممارسة الفعل السياسي. وحصل ذلك بعد سنواتٍ من وصم النسويات الناشطات على الإنترنت بأنّ نشاطهنّ "غير جاد". وفي عام 2018، تمّ تشريع قانون جرائم المعلومات الذي يجرّم أيّ نشاطٍ سياسي على الإنترنت، وبهذا عاد الجميع إلى النقطة صفر.
الانقضاض على حرّيات النساء وعودة نسوية الدولة (State Feminism)
بعد العودة إلى النقطة صفر، بدأ بعض الشابّات بفتح أبوابٍ أخرى لأنفسهنّ، من دون الحاجة إلى تصنيفاتٍ حقوقيّة ونسويّة. لكنّ الأزمة تمثّلت في كونهنّ ينحدرنَ من طبقاتٍ مُفقَرة وأدنى من المتوسّطة. ربما كنّ استمتعنَ لفترةٍ وجيزةٍ بمكتسبات الحراك النسويّ بعد يناير، وخطابه الجذريّ عن الحقوق الجسدية وتحرير أجساد النساء من ثنائية الشرف والعار؛ وربما لم يكن ذلك حالهنّ. المهمّ هو أنهنّ مارسنَ حقهنّ في الظهور (Visibility) على الإنترنت، فرقصنَ وتمايلنَ من دون أن يُثقلنَ كواهلهنّ بما سيقوله الناس.
ووسط انغماس أجهزة الدولة في "الحرب على الإرهاب"، انغمس المجتمع المصري في حربٍ أخرى ضد النساء؛ حيث طالت الانتكاسةُ السياسية الحراكَ النسوي. هكذا، ما كان من المجتمع المصري إلا أن زعم أنّ ظهور هؤلاء الشابات على الشاشات يمثّل تهديدًا للأسرة المصرية، لتقوم بعدها الدولة بأداء دور حارس بوابة الأخلاق، وسنّ قانون قيَم الأسرة المصرية،17 وإلقاء القبض على الشابّات. وعلى الرغم من دفاع النسويات وبعض المنظمّات الحقوقيّة عنهنّ، لا يزال أغلبهنّ خلف القضبان.
شهدَت الفترة نفسها حراكًا رقميًا ضدّ العنف الجنسي، انتهجَت فيه النسوياتُ فضح المعتدين، وذلك كآليةٍ بديلةٍ لتحقيق حلم العدالة الاجتماعية للنساء والمهمّشات/ين. بناءً عليه، تمّ تأسيس عدّة منصّاتٍ رقميّةٍ هدفَت في الأساس إلى توثيق وفضح جرائم العنف الجنسي. لكنّ أجهزة الدولة رفضَت وجود حراكٍ مستقلّ؛ وبدأ المجلس القومي للمرأة، بمساعدة النيابة العامة المصرية، حملة تدخّلاتٍ واسعة النطاق ضدّ المتّهمين الذين وردَت أسماؤهم على هذه المنصّات بين عامَي 2020 و2021. وعمدَت بعض المنصّات النسوية حديثة التأسيس إلى إيقاف نشاطها بعد إلقاء القبض على شهود جريمة "فيرمونت نايل سيتي" عام 2020. وتحت مسمّى "دولة القانون"، قبلَت النيابة العامة قضايا كيديّةً رفعها المُعتدون جنسيًا ضد ناشطاتٍ مصرياتٍ دعمنَ الضحايا/الناجيات على الإنترنت.
كراهية النساء بين الدولة والمجتمع
لقراءة المشهد الحالي، لا يسعنا سوى النظر إلى تاريخ الحراك النسوي والمنعطفات السياسية التي شهدَها على مدار أكثر من قرن. اليوم، من غير المسموح ممارسة أيّ نشاطٍ سياسي ونسويّ لا تدعمه الدولة ويخدم أغراضها بشكلٍ مباشر. لكن ثمّة مستويَين لهذه السطوة لا بُدّ من محاولة تفكيكهما.
المستوى الأول، على صعيد الدولة التي منذ إعلان الجمهورية الأولى تعتبر نفسها مصدرَ الحقوق والحرّيات، بينما تقوم بانتهاكها باستمرارٍ على اختلاف الأنظمة السياسية المتوالية. إنّ أحد الدوافع الرئيسة لـ "فضّ" حراك يناير الثوري كان الانقضاض على مكتسباته و"إعادة النظام" إلى المجال العام السياسي (Restoring Public Order). ولكي يتحقّق ذلك، وجبَت الهيمنة على الحراك النسوي المستقلّ؛ تارةً عبر ادّعاء تبنّي قضاياه، مثل قضية أحمد بسام زكي وغيره من المُعتدين جنسيًا، وطورًا عبر فرض القبضة الأمنية، كما في قضايا "فتيات التيك توك"، و"فيرمونت"، و"إسلام عزازي ضد الناشطات".
أما المستوى الثاني، فعلى صعيد المجتمع ونسيجه المتجذّرة فيه كراهيةُ النساء وشيطنة النسوياتِ والمُدافعات عن حقوق النساء. منذ عام 2020، تفاقم التحريض العلني على النساء، ووقعَت جرائم قتلٍ ارتكبها رجالٌ بحقّ نساءٍ على أساس هويّتهنّ الجندرية (Femicide)، مثل قتل نيرة أشرف، و"داليا قتيلة السلام"، و"فتاة المعادي"، وغيرهنّ. هذا التحريض يُغذّيه دافعٌ ما من داخل النظام السياسي الذي يتشارك كراهيةَ النساء مع المجتمع؛ حيث يُراهن النظام على استمراريّته عبر استرضاء الأغلبية المحافِظة وأداء دور المحافِظ على القيَم والتقاليد الأبوية.
بين الانتكاسة والحتميّة التاريخية
ثمّة فرضيّةٌ تربط بين تفاقم فجاجة كراهيّة النساء وانتكاسة المدّ الثوري. وهي فرضيّةٌ يدعمها تاريخُ الحراك النسوي، في حال نظرنا إلى الفترات التي شهدَت عنفًا فجًا ضدّ النساء، والتي ترتبط عادةً بهيمنة الدولة ككيانٍ رجاليّ على المجال الاجتماعي، وتردّي الأوضاع الاقتصادية التي تُخلخل الهرميّات الجندريّة والطبقيّة التي يقوم عليها المجالُ السياسي/الاجتماعي. فكما ذكرنا سابقًا، يُساهم هذا "الخلل" في زعزعة الهوية الرجاليّة النمطيّة (Emasculation)، ما يجعل كثيرًا من الرجال يشعرون بالانسحاق، فيُعوّضون عن ذلك بممارسة العنف ضد النساء باعتبارهنّ فئةً مهمّشة أو "أدنى مرتبة".
الدولة والمجتمع يُغذّي بعضهما بعضًا، ويعتبر كلٌّ منهما الآخر امتدادًا لوجوده واستمرارًا له. مثلًا في قضايا "فتيات التيك توك"، شنّ الرجال حربًا رقميةً أدّت إلى القبض على الشابّات؛ وتذرّع هؤلاء بحماية المجتمع والحفاظ على الآداب العامة. وترتكز هذه الادّعاءات على كون الرجال مصدر إعالة الأُسر ويستمدّون تفوّقهم من ذلك الدّور المنوط بهم.
إنّ حصول النساء على أجورٍ مقابل استخدامهنّ تطبيقاتٍ رقميّةٍ سيُغيّر في المعادلة الاقتصادية السائدة، لأنه يتجاوز آليّات و"قواعد" سوق العمل، والحدود الطبقيّة القائمة، وتقنيّات حصر النساء في وظائف بأجورٍ ضئيلة. أمّا الدولة، فاستجابَت لتلك الحرب وشاركَت فيها لأنها تخشى تغيّر الهرميّة الجندريّة داخل الأسرة. فلو حرّرَت النساء أنفسهنّ وغيرهنّ من ثنائيّات الشرف والعار، واستطعنَ الإفلات من التبعيّة الاقتصادية للرجال، وتخلّصنَ من الرمزيّات الأخلاقيّة والطبقيّة المعلّقة على أجسادهنّ، سينهار النظام الاجتماعي ومعه كلّ ما تقوم عليه الدولة وهرميّاتها الاجتماعية والسياسية.
أين نحنُ الآن؟
هذه المنعطفات السياسية والهجمات الأمنية أدّت إلى تشتّت الحراك النسوي في مصر، فبات يقتصر اليوم على بعض المنصّات الرقميّة، وعددٍ من المنظّمات غير الحكوميّة، والنسويّات المستقلّات. مع ذلك، عاد بعض الناشطات إلى التظاهر، لاسيّما بعد بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وقبل ذلك تضامنًا مع النساء اللواتي تمّ استهدافهنّ أمنيًا بسبب دعمهنّ الضحايا/الناجيات من العنف الجنسي.
قد نكون على مشارف انفراجةٍ قريبة، إلا أنّ ملاحقة الناشطات أمنيًا مستمرّة، وكان آخر فصولها القبض على الناشطات المتضامنات مع النساء في غزة والسودان أمام مقرّ هيئة الأمم المتحدة للمرأة في القاهرة، في أبريل/نيسان 2024. لكن بالرغم من المشهد المظلِم، تستمرّ الناشطات والنسويّات في التضامن بعضهنّ مع بعضٍ ومع نساءٍ أخريات. هذا التضامن العابر للحدود الجغرافية والذي يتحدّى أجهزة الدولة القمعيّة لأول مرةٍ منذ تجريم التظاهر في مصر عام 2014، سيكون له أثرٌ بالغٌ على المديَين القريب والبعيد. هذه ليسَت مجرّد آمال وطموحات امرأةٍ نسويةٍ من جيل ثورة يناير، بل هو تسلسلٌ منطقيّ منبثقٌ عن قراءة تاريخ الحراك النسوي المصري، والوقوف على حتميّةٍ تاريخيّةٍ تفرض نفسها الآن على الرغم من كلّ التحدّيات والمخاطر.
- 1شاعرةٌ مصريّة، تُعدّ من أولى المدافِعات عن حقوق النساء في مصر وأشهرهنّ.
- 2تُعرف أيضًا بـ "حركة الضباط الأحرار"، وأدّت لإلغاء المَلَكيّة وتحوّل نظام الحكم في مصر إلى نظامٍ الجمهوري.
- 3 دستور 1956 كان أول دستورٍ ينصّ على حق النساء في التصويت والترشّح للانتخابات.
- 4فنانةٌ تشكيليةٌ من مصر، تُعدّ من أبرز روّاد الحركة الفنية التشكيلية. تبنّت في العشرينات من عمرها الفكر اليساري، وسُجنَت في فترة حكم جمال عبد الناصر لأكثر من أربع سنوات.
- 5كاتبةٌ وروائيةٌ وشاعرةٌ من مصر. انتمَت لجيل الحركة الطلابية في السبعينات، وتُعدّ إحدى أعلامها. صدر لها عددٌ من المنشورات، منها "المُبتسرون: دفاتر واحدةٍ من جيل الحركة الطلابية" (1997).
- 6شاعرةٌ وكاتبة من مصر. هي أول امرأةٍ مصريةٍ تنال درجة الدكتوراه في الفلسفة. أسّست مجلة "بنت النيل" وكرّستها للدفاع عن قضايا النساء، ثمّ أنشأَت منظّمةً حملَت الاسم نفسه. أضربَت عن الطعام في عام 1954 مطالِبةً بحقّ النساء في الانتخاب.
- 7طبيبةٌ وكاتبةٌ وروائيةٌ نسويةٌ من مصر.
- 8انظر/ي https://www.un.org/ar/conferences/population/cairo1994
- 9 انظر/ي https://www.un.org/ar/conferences/women/beijing1995
- 10 انظر/ي https://www.hrw.org/ar/news/2007/01/12/231913
- 11انظر/ي https://urls.fr/_Tkqhb
- 12انظر/ي https://url-r.fr/PiYkX
- 13 انظر/ي https://url-r.fr/fKXPH
- 14 انظر/ي https://url-r.fr/DDGax
- 15انظري https://url-r.fr/HLUYa
- 16 انظري https://url-r.fr/VGiQv
- 17المادة 25 من قانون 175 لسنة 2018.
تم إنجاز هذه المادة بدعم من مؤسسة CREA
إضافة تعليق جديد