خاضت إيناس أمين (37 عامًا) معارك طويلة كي تكفل الطفلة رحمة. لم تكن تفكّر كباقي الفتيات في الزواج وإنجاب الأطفال، إذ ترى أنه لا يجب إنجاب أطفالٍ جددٍ طالما أن العالم مكانٌ غير آمن، وأن من الأفضل تربية الأطفال الذين تعجّ بهم دور الرعاية بمصر.
كانت إيناس تزور دور الرعاية بانتظام، إلى أن تعرّفَت إلى رحمة عندما كانت تبلغ من العمر ثلاثة أشهر، وقرّرَت كفالتها.
بدأ العمل بما يُعرف ببرنامج الأسرة البديلة الكافِلة في مصر في عام 1959. ويُشرّع البرنامج كفالة الأطفال الأيتام ورعايتهم كما لو كانوا أبناءً بيولوجيّين، من دون أن يُنسبوا للكافل. فالتبنّي محرّمٌ في الإسلام، إذ لا يجوز أن يُنسب الطفل المتبنّى إلى الأب ولا أن يرِثه، وذلك لحفظ نسب الدم والأصول العائلية. أما نظام الكفالة، فيضمن للطفل الحصول على الاسم الأول أو لقب العائلة العائد للأب أو الأم الكافلة، من دون أن يجوز حصوله على اسم الكافل بالكامل. كما يمكن للكافل/ة أيضًا تخصيص ما لا تتجاوز نسبته ثلث ممتلكاته/ا للطفل المكفول إما من خلال الوصية أو عن طريق الهبة.
رفض والدا إيناس السماح لها بكفالة رحمة، حتى أن والدها أجبرها على ترك العمل كي لا تحصل على دخلٍ مستقل، وهو شرطٌ أساسيّ لكفالة الأم العازبة للطفل. طيلة ثلاث سنوات، حاولَت إيناس إقناع والدَيها، بينما كانت تعتني برحمة وهي داخل دار الأيتام. تعلّقَت الطفلةُ بإيناس إلى درجة أنّها كانت تناديها بماما، الأمر الذي دفع بالوالدَين إلى الموافقة في نهاية المطاف.
جهل الموظّفين بقانون الكفالة
عندما بدأَت العمل على إجراءات الكفالة، فوجئَت إيناس بأنّ الموظّفين لا يعرفون عن المادة 93 من اللائحة التنفيذية لقانون الطفل، والتي يُسمح بموجبها للأرامل والمطلّقات ومن لم يسبق لهنّ الزواج بكفالة الأطفال، ما لم يقلّ عمرهنّ عن 30 عامًا، إذا ما ارتأَت اللجنة العليا للأُسَر البديلة صلاحيّتهنّ لذلك.
رفض بعض الموظّفين طلب إيناس كفالة رحمة ظنًّا منهم أنّ القانون لا يسمح بذلك. وهناك من استنكر الفكرة بسبب وضعها الاجتماعي كعازبة، حتى أن أحد الموظفين قال لها بشكلٍ مهين «اتجوّزي وخلّفي أطفال وبلاش لعب عيال».
بعد ثلاث محاولات، تمكّنَت إيناس أخيرًا من كفالة ابنتها رحمة.
لم تنته مشاكل إيناس هنا، بل اتهمَها البعض بنشر ثقافةٍ مغايرةٍ في مجتمعٍ محافظ، وبتشجيع الفتيات على عدم الزواج والاكتفاء بتربية الأطفال. في إحدى المرّات، تعرّضَت إيناس لموقفٍ محرجٍ في أحد مكاتب السّجل المدني عندما ذهبَت لاستخراج شهادة ميلاد لرحمة. تقول إيناس، "الموظفة في السّجل المدني سألَتني أنا أبقى إيه للطفلة، لمّا قلتلها إنها بنتي وطلّعت عقد الكفالة، السّت بصّتلي بقرف وقالتلي، وانتي أمها ازاي وانتي مش متجوّزة. إنتي واللي زيّك بتشجعوا البنات ما يتجوّزوش وبوّظتوا المجتمع، استغفر الله… وكانت هاتضربني لولا الناس تدخّلت».
قرّرَت إيناس تقديم شكوى ضد الموظفة إلى مديرها المباشر، لكنّ المدير اكتفى بالاعتذار إليها والإسراع في استخراج الشهادة من دون كتابة شكوى رسمية بالواقعة.
غريزة الأمومة
تشير بعض الدراسات إلى أنّ الأمهات بالتبنّي يتمتعن بغريزة أمومةٍ مماثلةٍ لغريزة الأمهات البيولوجيّات. فقد أشارَت دراسة نُشرت في مجلة "Child Development" في عام 2013، إلى أنّ الأمهات بالتبنّي يتمتّعن بمستوياتٍ عاليةٍ من الاهتمام والمشاركة العاطفية مع أطفالهنّ المتبنّين، وأن تلك الروابط مفعمة بالحبّ والرعاية. وأظهرَت الدراسة أيضًا أنه يمكن للأمهات بالتبنّي أن يُظهرن مستوياتٍ مشابهةً لما تُظهره الأمهات البيولوجيّات من حساسيةٍ وتفاعلٍ مع احتياجات الطفل.
نظرًا لتغيّر الأوضاع الاجتماعية في مصر، وبخاصّةٍ ارتفاع نسَب الطلاق واستقلاليّة النساء مهنيًا وماديًا، تكوّنَت لدى البعض نظرةُ جديدةُ للحياة وكيفية تكوين الأُسَر. وبرغم التسهيلات التي جعلَت كفالة الأطفال أمرًا متاحًا وسهل التحقّق، ما زالت النساء العازبات في مصر يصطدمن بعقباتٍ ثقافيةٍ ومجتمعيةٍ تضعهنّ في مواجهة التيّارات المحافظة.
ترى ياسمينة الحبّال (42 عامًا) أنه ينبغي للأطفال العيش في بيوتٍ وليس في دور رعاية. ولهذا السبب، كانت قرّرَت كفالة طفلٍ حتى وإن تزوّجَت، لاسيّما بعد أن قرأَت قصة رشا مكي، صاحبة جمعية يلا كفالة. عندما أخبرَت ياسمينة أهلها بأنها تعتزم كفالة طفل، ذُعروا في البداية. تقول، "أهلي اتخضّوا من الفكرة وكانت لسه جديدة فكرة بنت تكفل، وقالولي هاتربّي ازاي بنت مش بنتك، وهاتصرفي عليها منين؟ دي مسؤولية كبير تشيليها لوحدك".
كانت عائلة ياسمينة تخشى نظرة المجتمع وضياع فرصها في تكوين أسرةٍ تقليدية. لكن عندما كفلت ابنتها غالية، تغيّر كلّ شيء. «أهلي احتضنوا غالية كأنها ابنتي منذ البداية، وبدأ كلّ شيءٍ في حياتي يدور حولها وحول احتياجاتها ومستقبلها. وأي رجلٍ لا يقبل بوجودها في حياتي، فهو لا يناسبني».
لم تتزوج ياسمينة حتى الآن، لكنها تتمنى أن يُنظر إلى الأُسَر الكافِلة كأُسرٍ طبيعية، لا كأمرٍ غريبٍ ومرفوض.
الشروط الخاصة بنظام الكفالة في مصر
يُقدّر العدد الرسمي للأطفال الأيتام المسجّلين في مصر بحوالي 1,430 مليون طفل، بحسب بيانٍ لوزارة التضامن الاجتماعي. من هؤلاء الأطفال، 70% هم أيتام الأب، و27٪ أيتام الأم. أما أيتام الأبوَين فتبلغ نسبتهم 3%. وتسعى الدولة لوقف نظام دور الأيتام بحلول عام 2025 عن طريق الأُسر البديلة. وتؤيّد هذا التوجّه الدراسات التي تشير إلى أن الأطفال الذين يعيشون في مراكز الرعاية ينقصهم الكثير من التطوّر النفسي والجسدي كما الأيتام أكثر عرضة لسوء التغذية وضعف الصحة البدنية ،والمعوقات التعليمية التوتر والقلق مقارنةً بالأطفال الذين يكبرون داخل أُسَر.
الأطفال يعيشون في دور الأيتام لأن الأشخاص المفترض الاعتناء بهم تخلوا عنهم، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة. بعض العائلات أيضًا تتخلى عن الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة أو الإعاقات الجسدية. أو أن يكون أحد الأبوين نزيل مستشفي الأمراض العقلية أو السجون إلى جانب الأطفال التي يتم العثور عليهم بطرقات لذا، يعتبر دور الأيتام خيارًا ملائمًا بالنسبة لبعض الأسر لتحسين مستوى حياة أبنائهم، ووقتها يدخل الطفل في منظومة الأيتام الذين لا يملكون رعاية أسرية، ويمكن كفالتهم.
وتُشرف على تنظيم وتطبيق نظام الكفالة في مصر وزارةُ التضامن الاجتماعي التي وضعَت شروطًا لكفالة الأمهات العازبات للأطفال، أوّلها ألّا يقلّ سنّ الأم عن 30 عامًا، وأن تتوفّر فيها شروط الصلاحية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والصحية لتلبية احتياجات الطفل، كقدرتها على تلبية الحاجات الأساسية مثل الطعام والشراب والمأوى والتعليم والرعاية الصحية والنفسية، وتوفير بيئةٍ معيشيةٍ آمنةٍ وصحية، وأن تكون حاصلةً على شهادة الثانوية العامة على الأقل، أو ما يعادلها. ويجب على الأم الراغبة في الكفالة أن تجتاز الدورة التدريبية التي تنظّمها الوزارة، لفهم وتعلّم كيفية تلبية احتياجات الطفل ورعايته.
ويمكن تقديم طلب الكفالة عن طريق الموقع الإلكتروني التابع للوزارة. وفي حال قرّرَت اللجنة قبول الطلب، يتمّ تسليم الطفل إلى الأم الكافِلة بعد أن توقّع على عقد رعاية طفلٍ يُجدّد سنويًا. وتتمّ متابعة تطوّر الطفل وحالته الصحية والنفسية بانتظامٍ من قبل الوزارة.
رفض المجتمع لكفالة الأطفال
مروة (35 عامًا) هي أمٌّ عازبةٌ خاضَت تجربة زواجٍ سابقةٍ انتهَت بالانفصال. عندما قرّرَت كفالة طفلها حمزة، واجهَتها تعليقاتٌ قاسيةٌ من صديقاتها.
تساءلَت إحداهنّ كيف يمكن لمروة أن تربّي "ابن حرام" (أي طفلًا مجهول النسَب)، وقالت أخرى إنّ مروة لن تشعر بالأمومة ما دامت لم تنجبه من رحمها، وأن هذا القرار سيؤثّر على فرصها في الزواج مستقبلًا.
يفضّل معظم الأمّهات إرضاع أطفالهنّ بالكفالة، لأنّ إرضاع الطفل تحت سنّ السّنتَين يجعل الأم محرّمةً عليه بحسب الشريعة الإسلامية وفي نصّ الحديث النبوي1 . وتقوم استشاريةُ الرضاعة بمساعدة النساء اللآتي لم يُنجبن من قبل على إدرار الحليب لإرضاع أطفالهنّ بالكفالة، عن طريقة استراتيجيةٍ خاصةٍ تعتمد على تناول المكمّلات الغذائية المُدرّة للحليب، وتمارين تدليك الثدي، واستخدام مضخّة شفط الحليب الكهربائية.
لكن عندما قرّرَت مروة إرضاع حمزة وأخبرَت طبيبها بذلك، قال لها إنّه "مش من حقّها إرضاع الطفل"، ثم حاول إقناعها بالزواج بدلًا من ذلك. وعندما ألحّت عليه ليساعدها في إرضاع الطفل، قال الطبيب لمروة «النت مليان فيديوهات، إتعلمي إنتي بنفسك». تعجّبَت مروة يومها من ردّ فعله كونه طبيبًا وليس وصيًّا عليها. وعندما قصدَت طبيبًا آخر، أبدى هو الآخر تعجّبه وحاول فرض آراءه عليها، لكنّ مروة أصرّت على موقفها، فلَم يكن أمامه سوى أن يساعدها.
لم تحظَ مروة بأيّ دعمٍ من والدَيها، سواء ماديًا أو من حيث التربية، ما اضطرّها إلى طلب إجازةٍ طويلةٍ والمكوث مع الطفل في سنواته الأولى. وبعد مرور خمس سنوات، ترى مروة أنّ الوضع تغيّر بالنسبة لأهلها، إذ أصبح حمزة الحفيد الأقرب إلى قلوبهم. لكن حتى الآن، كلّما تراجع أحدُهم عن خطبتها لأنها أمٌّ كافلة، يحمّل أهلُها حمزةَ المسؤولية ويطلبون منها التخلّي عنه لمواصلة حياتها.
من جهةٍ أخرى، رفضَت المدارس قبول ابنها بحجّة أنها لا تستقبل طفلًا مكفولًا وسط الأطفال "العاديّين"، حتى أنّ المدرّسة المسؤولة قالت لمروة بوضوحٍ إنّ "ظروف حمزة غير مناسبةٍ لشروط المدرسة"، من دون أن تشرح ماهيّة تلك الظروف.
أحلامٌ بعيدة المنال
تخطّط وزارة التضامن الاجتماعي للانتقال من الرعاية المؤسّسية إلى الرعاية الأُسرية البديلة بحلول عام 2025، أي في غضون أقلّ من عامٍ تقريبًا. لذا، أنشأَت مركز الكفالة الوطني لاستقبال الأطفال الأيتام وتأمين رعايةٍ تشبه رعاية الأسرة قدر الإمكان، في حين يتمّ تدريب الموظّفين وتأهيلهم لتلبية احتياجات الأطفال. لكن تبقى المشكلة في أنّ مدّة الإقامة في المركز لا تزيد على ثلاثة أشهرٍ قبل دمج الأطفال في أُسَرهم مجدّدًا، سواء كانت أُسَرهم البيولوجية أو الكافِلة. وفي حال تعذّر إيداع الطفل في كنف أسرةٍ كافِلةٍ أو لدى أُسرته الأصلية، يجري إيداعه مرةً أخرى في دور رعاية الأيتام.
أما عن برنامج الأسر البديلة، فتقول الوزارة في تقريرٍ شاركَته عبر موقعها إنّ إجمالي الأُسر البديلة الكافِلة بين عامَي 2014 و2021 بلغ 11.633 أسرة لكلّ 11.825 طفلٍ وطفلة داخل مصر، بفضل التيسيرات التي أتاحَتها لجهة المستوى التعليمي، والحالة الاجتماعية، والسّن، وإضافة لقب عائلة الأسرة الكافِلة للطفل، والتقديم الإلكتروني الذي بدوره زاد معدّل الطلبات بنسبة 17%. مع ذلك، لا تستطيع هذه التسهيلات تغيير قناعات مجتمعٍ لا يزال يعتبر الطفلَ المكفول "ابن حرام"، لاسيّما أنّ البرنامج قيد التطبيق منذ أكثر من خمسة عقودٍ عبر نظام الكفالة، ولم ينجح في دمج الأطفال المكفولين في المجتمع بشكلٍ كاملٍ حتى الآن.
- 1"يحرّم من الرضاع ما يحرّم من النسَب" (متّفق عليه).
إضافة تعليق جديد