لا تتبع النساءُ الجنائزَ في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ولا يحضرن موكب الدفن، فحدودهنّ مرسومةٌ عند عتبة الباب. أقام الفقه سياجًا من الفتاوى لتثبيت ذلك، وجرى توارث هذه العادة الشعبيّة – الفقهيّة إلى أن صارت في مرتبة المُحرَّمات. وبالعودة إلى أصل هذه العادة، نجدُ حديثًا لأمّ عطيّة الأنصاريّة1 نقلًا عن النبيّ محمّد تقول فيه: "نُهينا عن اتّباع الجنائز، ولم يُعزم علينا"، وهو ما وثّقَه معظم كتب الحديث، ورواه غالبية المُحدّثين وأبرزهم مسلم والبخاري.
ما نريدُهُ أساسًا في هذه المقدّمة هو وضع المسألة في إطارٍ تاريخي، لا مناقشة صحّة الحديث وما يُحيطُ به من إشكاليّاتٍ لا تعنينا في هذه اللّحظة. المهم أنّ هذه العادة - إن صحّ القول - مستمرّةٌ حتى زماننا الحاضر، وقد جرى تحدّيها في بعض الجنائز، وهو ما تُمكنُ قراءتهُ كثمرةِ رغبةِ النساء في إعادة التموضع داخل المجتمع وتحدّي السلطة الفقهيّة – الذكوريّة التي وضعتهنّ في المرتبة الثانية.
تحدّي الدين والمجتمع
شكّل حضور النساء في بعض الجنازات والسير وراءها وحمل النعش لحظةً فارقةً في المنطقة العربية، قطعَت مع السائد في الثقافة الإسلامية وما ترسّخ من الفتاوى الفقهية في العادات الاجتماعية. اختلفَت ردّات الفعل تجاه الأمر من بلدٍ عربي لآخر، إلّا أن المُشترك كان سيطرة الوعي الديني الذي ينظّم حياة الشخص المتديّن حتّى في لحظات وداعه وانفصاله عن عالم الأحياء.
على سبيل المثال، تأثّرَت المرأة التونسيّة بالبُنى المرجعية للوعي الديني على الرغم من أنها كانت سبّاقةً في انتزاع حرّيتها وحقوقها. لقد شكّل مشهد جنازة المناضلة الحقوقيّة والنسويّة، لينا بن مهنّي، مُنطلقًا للتأكيد على ضرورة المساواة بين المرأة والرجل، إذ حطّمَت النساء التونسيّات التقاليد الاجتماعية التي تُعرف بـ"السنّة"، وآمنّ بحقوقهنّ في المساواة والتعبير عن الحزن والتعاطف، بحيث غلب البُعد الإنساني على البعد الديني.2
شكّل حضور النساء في بعض الجنازات والسير وراءها وحمل النعش لحظةً فارقةً في المنطقة العربية، قطعَت مع السائد في الثقافة الإسلامية وما ترسّخ من الفتاوى الفقهية في العادات الاجتماعية
عُرِفت المدوِّنة لينا بن مهنّي بنضالها النسوي والاجتماعي ومشاركتها في حملاتٍ ضد قرارات السّلطة،3 ومن أبرز مواقفها كان دفاعها المستميت عن المساواة التامّة بين المرأة والرجل. وقد فقدَت بموتها الساحةُ النسوية والنضالية أيقونةً من أيقوناتها، بحيث خرجَت النساء في جنازتها لوداعها، وحمَلن نعشها على أكتافهنّ، في سابقةٍ أثارت حفيظة المحافظين الذين برز رفضهم لكلّ أشكال التثوير في المقدس والعادات الاجتماعية. وفي خلال الجنازة، أطلقَت النساء شعاراتٍ كان أبرزها "ليسَت مسامحة"، و"نعم سنموت ولكنّنا سنقتلع القمع من أرضنا". وغنّت لها الفنانة لبنى نعمان في وداعها "طريق الحبّ"، فيما علت الزغاريد والتصفيق والأهازيج في مقبرة الجلّاز.
هذه المشهديّة التي اختلَط فيها العاطفي بالإنساني والثقافي بالسياسي، تذكّرنا بلحظة اغتيال المناضلَين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إذ خرجَت النساء حينها أيضًا في الجنازتين ورفعن شعاراتٍ عدّة. ومع أنّ حضور النساء كان متباينًا بين جنازتَي بلعيد والبراهمي، إلّا أنّ الثابت كان تعمّدهن الخروج تنديدًا بتلك الجرائم وتأكيدًا على حضورهنّ في المشهد السياسي.
أمّا في مصر، فقد مثّل اغتيال المناضلة النسوية والحقوقية اليسارية شيماء الصبّاغ حدثًا فارقًا، إذ خرجَت النساء أيضًا لوداعها، وحمَلن صورتها وندّدن بمسؤوليّة "الإخوان" عن مقتلها. وعُدّ خروج النساء في الجنازات في مصر آنذاك، ولا سيّما الوجوه القياديّة الحزبيّة أو شخصيّات "المجلس القومي للمرأة"، بمثابة تحدٍّ لسلطة الإخوان ومشروعهم الفكري. لقد كانت لحظة الموت ثوريةً أيضًا وتتناسب مع طبيعة الشخص الغائب. يقول عبد الرحيم بوهاها في مؤلّفه "طقوس العبور في الإسلام" إنّ الطقس "قد يحتوي على نشاطٍ رمزيّ يوازي النّشاط المادّي للفعل الطقسي".4 لذلك، يُمكن اعتبار هذه الأفعال نشاطاتٍ رمزيّة ذات أبعادٍ دلاليّةٍ تؤثّر في الواقع. ومن هنا، يمكن فهم ردّ فعل الطبقة المُحافظة عليها.
لم تستكنْ النساء في الدفاع عن حقوقهنّ وحرّيتهن، وربّما كانت هذه المناسبة وسيلةً لإبلاغ أصواتهنّ وتعرية السّلطة الذكورية الكامنة في المجتمع وعاداته.
النساء "يلوّثن" الجنازة!
يقتصرُ دور النساء في الجنازات وفق الثقافة العربيّة على الوقوف عند عتبة الباب. ويعودُ هذا أساسًا إلى اعتبار المرأة كائنًا دون الرجل، وقد ساهم الفقه في نحت هذه الرؤية. وعلّل بعضهم ذلك بأنّ حضور المرأة قد يُلغي قدسيّة المشهد الجنائزي، باعتبار أنّ الميّت يحتاج إلى الخشوع، والمودّعون يحتاجون إلى الصبر والتجلّد، فيما حضور المرأة يعكّر هذا الطقس كونها حسّاسةً وعاطفيّةً وغير قادرةٍ على كبت مشاعرها. فوفق ذلك المنطق، البكاء والنحيب والولولة تلغي الجانب القدسيّ الخاشع لطقوس الدفن.
يقتصرُ دور النساء في الجنازات وفق الثقافة العربيّة على الوقوف عند عتبة الباب. ويعودُ هذا أساسًا إلى اعتبار المرأة كائنًا دون الرجل، وقد ساهم الفقه في نحت هذه الرؤية
حاولَت النساء كسر هذا الحاجز من خلال إطلاق الزغاريد والتصفيق ورفع الشعارات والغناء. أرَدن إثبات حقّهن في الوداع. إنّه نداءٌ للحرّية والتخلّص من الموقف الفقهيّ-الذكوريّ الذي يعتبر المرأة كائنًا ملوّثًا لهذه المناسبة، قد يلفت حضورها النظر ويثير المشاعر، فعوض أن يتصبّر الرجل ويخشع، قد يجذبه صوتها أو حضورها الجسدي.5
اشتغل الفقه على تنظيم هذا الطقس باعتباره "عبورًا من عالم الأحياء إلى الآخرة ويجب أن تكتنفه السكينة وطلب الرحمة والمغفرة"، بحسب ما يوثّق عالم الاجتماع الفرنسي أرنولد فان غينيب (Arnold van Gennep)، متابعًا أن "المرأة كائنٌ مستبعدٌ من عمليّة إدماج الميّت في عالم الأموات لأنها جزعةٌ نائحةٌ لا تقدر على مغالبة هذا الشعور كما الرجل".6 من هذا المنطلق الفقهي، يمكن تأويل البعد الثانوي للمرأة التي "يُنظرُ إليها على أنّها عورةٌ حيّة أو ميتة، ومنزلتها في الجنائز هي جزءٌ من منظومةٍ ذكوريّة، ترى أن الرجال وحدهم قادرون على القيام بطقوس العبور".7
خطوةٌ نحو المساواة
يأتي حضور المرأة الجنائز - في المناسبات التي ذكرت أعلاه - في سياقاتٍ مُتشابهةٍ اختلط فيها السياسي بالديني، بحيث اكتسب حضور النساء معنًى خاصًا. فقد مثّل حضور جنائز شكري بلعيد والبراهمي وشيماء الصبّاغ منطلقًا لمطالبة النساء بالحقوق السياسيّة والمدنيّة، والتنديد بكلّ أشكال السلطة الدينيّة. أمّا مرافقة جنازة بن مهنّي، فشكّلَت تحدّيًا صريحًا لكلّ القوالب الدينيّة المتوارثة، وسعيًا للتخلّص من تلك الهيمنة والمطالبة بالحريّة شكلًا ومضمونًا.
في الواقع، كشفَت هذه المناسبات عن مدى استفحال النظرة المُحافظة في اللاوعي العربي، إذ وُسِمت النّساء المشارِكات في الجنائز بأبشع النعوت في تنكّرٍ سافرٍ لحقّهنّ بوداع أحبّائهن. ويشكّل هذا عنفًا لطالما طارد كلّ المحاولات النسائيّة للظفر بحقوقٍ ما، وهو متولّدٌ أساسًا من التمييز الذي يرسّخه الفقه. ولعلّ أخطر أنواع التّمييز ما بُني على أسُسٍ دينيةٍ غير ثابتة، لأن القرآن - وهو النصّ الأصلي من منظورٍ إيماني - لا يُشيرُ إلى مثل هذا الاستبعاد الذكوري.
عنفٌ رمزي ديني واجتماعي
يدخل هذا الاستبعاد ضمن ما يُسمّى بالعنف الرمزي، وهو عنفٌ مستبطنٌ في البنية الفكريّة والنفسيّة العربيّة. فما المانع من أن تحضر النّساء الجنائز مثلًا؟ ما المانع من تلاوتهنّ ترانيم الوداع؟ هل سيقوّض هذا أسُسَ العمران البشري؟
وُسِمت النّساء المشارِكات في الجنائز بأبشع النعوت في تنكّرٍ سافرٍ لحقّهنّ بوداع أحبّائهن. ويشكّل هذا عنفًا لطالما طارد كلّ المحاولات النسائيّة للظفر بحقوقٍ ما
لقد أقام الفقه الإسلامي فصلًا بين عالمَين، واحد للرجال وآخر للنساء، وفضّل أحدهما على الآخر في الحياة والممات. كما أزاحَت فتاويه بعض العادات الاجتماعية التي كانت قائمةً في بعض المجتمعات العربية والمُرتبطة بطقس الموت، والتي كان للمرأة فيها دورٌ مهمّ، واستبدلَتها بقواعد صارمةٍ جعلَت المرأة كائنًا ثانويًا.
لذا، الحاجة ملحّةٌ هنا إلى هدم المقولات الفقهيّة التي حجبَت النور عن هذه الأمّة، وأدخلَتها سنينَ دامسة الظلام لا تبارحها. لا ترتبط ثقافة المساواة في الحقّ بتفوّقٍ جندري ما، بل بماهية الكائن في حدّ ذاته باعتباره فاعلًا تاريخيًا وأنطولوجيًا.
تقول الباحثة والكاتبة التونسية رجاء بن سلامة إنّ "التمييز في حدّ ذاته عنف، أو بالأحرى نوعٌ من العنف الأساسي لأنّه يستهدف ملكيّة الآخر: ليس اعتداءً على ما يملك الآخر، بل نفيٌ لجوهر الإنسان في الآخر. إنّه كالعنصريّة، أي تمييزٌ على أساس العنصر، ونفيٌ لحقّ الآخر في أن يكون له حقٌّ".8
- 1تمتلك أمّ عطيّة مكانةً خاصةً في تاريخ الصدر الأوّل من الإسلام، وبحسب ما رُوي، كانت من الصّحابة وامتلكَت نزعةً إلى رواية الحديث والأمور الفقهيّة.
- 2 عمّار بن حمّودة، "أحكامُ الجنائز بين قداسة المرجعيّة الدّينيّة ومقدّسات الحرّية"، مؤمنون بلا حدود، 20 شباط/فبراير 2020.
- 3من ضمنها حملة "منيش مسامح" التي أطلقت عام 2014 رفضًا لمحاولة تمرير ما عرف حينها بقانون المصالحة الوطنيّة مع المنتسبين للنظام القديم. وقد قاد الحملة مجموعة من الشباب من بينهم المناضلة الحقوقيّة الراحلة لينا بن مهنّي.
- 4عبد الرّحيم بوهاها، "طقوسُ العُبور في الإسلام: دراسة في المصادر الفقهيّة"، مؤسّسة الانتشار العربي، 2008.
- 5من التفسيرات التي قدّمها الفقهاء لتبرير منع حضور المرأة الجنائز. تمكنُ العودة إلى كتب الفقه وأبواب الجنائز لتتبّع ذلك.
- 6Arnold van Gennep, Les rites de passage, Étude systématique des rites, 1ére édition, France, Picard, 1981, p. 15.
- 7 عمّار بن حمّودة، "أحكامُ الجنائز بين قداسة المرجعيّة الدّينيّة ومقدّسات الحريّة"، مؤمنون بلا حدود، 20 شباط/فبراير 2020.
- 8رجاء بن سلامة، "بنيان الفحولة : أبحاث في المذكّر والمؤنّث"، بترا للطباعة والنشر والتوزيع، 2005، ص. 85.
إضافة تعليق جديد