بينما كنّا ننتظر دورنا لشراء مشروب العرقي من أحد بيوت بيع الخمر المحلّي في الخرطوم، دخل شخصان بخطواتٍ مُسرعةٍ وواثقةٍ قلّما نشهدها في هذه الأماكن - خصوصًا أنّ الغالبيّة هنا إمّا يمشون بترنّحٍ من تأثير الخمر أو يخطون بهدوءٍ لبعث الطمأنينة في محيطهم. وبدأ أحدهما بالصراخ بفظاظةٍ مُدّعيًا أنّ السيِّدة التي باعته زجاجتَين من العرقي أخذَت منه مبلغًا زائدًا. طال الجدال. أرادَت السيِّدة حسمه. نفت تلك الاتهامات، مؤكِّدةً أنّها لا تُطِعم أطفالها حرامًا. فما كان من الرجل إلّا أنّ ردّ قائلًا: "الخمر هو الحرام بذاته"، ثمّ انصرف مع رفيقه وهما يكيلان الوعيد والتهديد. عندها شرعَت البائعة في إخفاء مخزونها من الخمر، وطلبَت منّا المغادرة فورًا والحذر في طريقنا لأنّ الرجلَين من القوّات النظاميّة، ومن المرجّح أنّ يعودا مع دوريّةٍ من الشرطة لإلقاء القبض عليها.
يبدو المشهد سرياليًا. الرجُلان من القوى الأمنيّة، ومن أبرز مهامهما مطاردة بائعات الخمور، لكنّهما يتناولان الخمر، ويتوعّدان بمعاقبة البائعة بحجّة تقاضيها مبالغ إضافيّة لكي تبيعهما الخمر. وأكثر من ذلك، أحدهما مُتديّنٌ، وبالتالي مُتيقّنٌ من حرمة تعاطي الخمر، لكنّه مع ذلك يشربه.
مهنةٌ مُحرمّةٌ وملاذٌ أخيرٌ
ينتشر العديد من المنازل التي تديرها سيِّداتٌ ينشطن في بيع الخمور السودانيّة التي تُصنَع محلّيًا بطرقٍ تقليديّة، على الرغم من تجريم بيعها وتناولها في العاصمة السودانيّة، بحيث يكاد لا يخلو حيٌّ سكنيٌّ واحدٌ في الخرطوم من منزلٍ مماثل.
تاريخيًا، يُعتبر إعداد الخمور وبيعها من الأعمال المُرتبطة بالنساء، وهو يُنسَبُ إلى تاريخ بعض المجتمعات السودانيّة حيث كانت صناعة الخمور من المهامّ المنزليّة الموكلة إليهنّ
ينطلق التحريم القانوني لتعاطي الخمور من أساسٍ ديني مصدره قانون الأحوال الشخصيّة الخاصّ بالمسلمين الذي يحرّم تعاطي الخمور وحيازتها والتجارة فيها، ويعتمد عقوبتَي الجلد والغرامة للنهي عنها. وعلى الرغم من وجود قانون أحوالٍ شخصيةٍ لغير المسلمين، إلا أنّه لم يُشرِّع لهم بيع الخمور وتعاطيها، بل طُبِّقت عليهم الأحكام نفسها كما المسلمين، وبالتالي بقي صنع الخمور والعمل فيها مُحرَّمًا على الجميع. مع ذلك، لم يتوقّف بيع الخمور في السودان بل شهد ارتفاعًا في نسبة الاستهلاك، بحيث حلّ السودان في المرتبة الثانية في استهلاك الكحول بين البلدان العربية بحسب تقريرٍ صادرٍ عن منظّمة الصحّة العالميّة في عام 2014. وبعد ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018، جرت بعض التغييرات الطفيفة، مثل السماح لغير المسلمين بشرب الخمور، لكنها لم ترقَ إلى تشريع بيع الخمور وحيازتها.
تاريخيًا، يُعتبر إعداد الخمور وبيعها من الأعمال المُرتبطة بالنساء، وهو يُنسَبُ إلى تاريخ بعض المجتمعات السودانيّة حيث كانت صناعة الخمور من المهامّ المنزليّة الموكلة إليهنّ، ومن واجبات الزوجة الفاضلة وفق ما نُسِب إلى محمد ابراهيم أبو سليم، أحد أشهر المؤرّخين السودانيّين. لاحقًا، وتحديدًا منذ ثمانينيّات القرن الماضي، فُرِضت تشريعات تحرِّم تعاطي الخمور والتجارة بها، وبالتالي تحوّلت هذه العادة من تقليد مجتمعي شائع إلى سلوكيّات خارجة عن القانون.
ترافق ذلك مع تردّي الأوضاع الاقتصاديّة ودخول البلاد في فترات طويلة من الحروب الدامية، ما دفع الكثير من السيِّدات إلى العمل في صناعة الخمور وبيعها لكسب عيشهن، فهي من المهن القليلة المُتاحة لهن، عدا أنّ معظمهنّ ينتمين إلى شرائح مهمّشةٍ مجتمعيًا واقتصاديًا، ويعانين من الحرمان من فرص التعليم الأساسي والعالي، وبالتالي من فرص العمل والتوظيف. في الواقع، تنتمي أولئك السيِّدات إلى مجتمعاتٍ قدِمت إلى الخرطوم في حقباتٍ متأخّرةٍ من نشأة المدينة، وتعود جذورهنّ إلى مناطق مختلفةٍ ثقافيًا ودينيًا عن العاصمة المركزيّة، وأبرزها جبال النوبة ومناطق النيل الأزرق وجنوب السودان، حيث يُعدُّ بيع الخمور وتعاطيها أمرًا مقبولًا اجتماعيًا، كما يندرج تناولها أحيانًا ضمن الثقافة الغذائيّة المحلّيّة.
خمرٌ في قلب العاصمة
لا يصعب التعرّف إلى أماكن بيع الخمور لأنّ سمَتها الشكليّة الهشّة مُتشابهة، فهي ليسَت منازل وفق الشكل المُتعارف عليه بل أقرب ما يكون إلى "العِشش"، أي البيوت التي تُشيَّد في زوايا هياكل العمارات غير المُكتملة أو في بيتٍ قديمٍ مهجورٍ ومتآكل. وعادةً ما تُستخدَم في بنائها مواد غير صالحةٍ للبناء أساسًا أو مواد تقليديّة مثل الطوب والطين، فيما يُصنع السقف من كرتونٍ أو قشٍّ أو قطع قماش، أو من ألواح الزنك أو أعواد الأشجار الضخمة، وغالبًا لا تصِلها الكهرباء. ولعلّ ذلك ما يحول دون معاملتها كمنازل فعليّة، سواء من قبَل الزبائن أو المجتمعات المحيطة أو حتّى الشرطة، على الرغم من كونها مساكن دائمةً لأولئك السيِّدات وأُسَرهنّ.
تقع على عاتق ربّات المنازل العاملات في بيع الخمور وسط الخرطوم أعباءٌ كبيرة، تبدأ من جلب الخمور التي تُصنَع في أماكن على أطراف العاصمة بعيدًا من الرقابة الأمنيّة والمجتمعيّة
في الواقع، تجاهد هذه المنازل للوقوف بجانب العمارات الفارهة في أشهر شوارع الخرطوم وأرقاها، بحيث تفضح بوجودها تناقضات المدينة الصارخة وتبايناتها الطبقيّة. وبوصفها نقاط بيع، تقع هذه المنازل في وسط العاصمة المُكتظّة بين أزقة السوقَين العربي والافرنجي ومحيطهما، حيث تتوزّع البيوت السكنيّة العريقة وبعض المنازل التي هجرها أصحابها منذ عشرات السنين، فضلًا عن بيوت العمّال والتجّار الوافدين إلى الخرطوم.
تقع على عاتق ربّات المنازل العاملات في بيع الخمور وسط الخرطوم أعباءٌ كبيرة، تبدأ من جلب الخمور التي تُصنَع في أماكن على أطراف العاصمة بعيدًا من الرقابة الأمنيّة والمجتمعيّة حيث نادرًا ما تتعرّض للمداهمة، ونقلها إلى منازلهنّ لبيعها. وتُحضر بائعات الخمور بضائعهنّ بكمّياتٍ قليلةٍ نسبيًا تحسّبًا لأيّ مداهمةٍ قد تُكلّفهنّ مخزونهنّ برمّته، خصوصًا أنها قد تقع في أيّ لحظة، وعلى يد رجل أمنٍ واحدٍ لو شاء.
شهاداتٌ ومشاهداتٌ لمعاناةٍ مديدة
كان الوصول إلى إحدى هؤلاء السيِّدات لإجراء مقابلةٍ مهمّةً محفوفةً بالعقبات، فما أن تُعرِّف عن نفسك وطبيعة الموضوع الذي تعمل عليه حتّى تُفاجأ بتوجّسٍ شديدٍ يُعجِزكَ عن إقناعهنّ بأنّك لا تنوي أذيّتهنّ أو تعريضهنّ لخطر الشرطة. هذا فضلًا عن رفضهنّ القاطع لالتقاط أيّ صورةٍ للمكان، باعتبارها قد تكشف عناوين بيوتهنّ للقوى الأمنيّة. طبعًا، لا يبدو موقفهنّ مستغربًا، إذ اعتادَت السلطات شنّ مداهماتٍ أمنيّةٍ لا تراعي الأصول القانونيّة. فبدلًا من التزام الإجراءات القانونيّة المُعقّدة لاستصدار أمرٍ بتفتيش المنازل، كانت المداهمات تحصل بموجب أمرٍ أحادي المسار، ما ينتهك إحساسهنّ بالأمان، ويستبيح منازلهن، ويصادر الخمور الموجودة فيها، ويلقي القبض على ربّات المنازل مع تغريمهنّ آلاف الجنيهات السودانيّة.
مارثا (اسم مستعار)، هي بائعة خمورٍ تعود أصولها إلى جنوب السودان لكنها وُلِدت وترعرعَت في الخرطوم، وتقطن في راكوبة1 لا تتعدّى مساحتها 5 أمتارٍ مربعةٍ بصحبة أطفالها الثلاثة في أحد أزقة السوق العربي. تروي مارثا يوميّات عملها، فهي تجلب يوميًا نحو 20 زجاجة خمرٍ من منطقة الحاج يوسف شرق الخرطوم حيث تُصنع، ويعاونها في حملها إلى الخرطوم أطفالُها في حقائبهم المدرسيّة للتمويه عند التنقّل في المواصلات العامّة.
رجال الشرطة يبتزون البائعات بطلب المال لقاء التغاضي عن "جنايتهنّ" المُتمثلة في "حيازة" الخمور، والتي تصل عقوبتها إلى السجن، أو دفع الغرامة، أو الاثنتَين معًا
تقول مارثا إنّها بإحضارها هذه الكمّية البسيطة تقلّل من حجم الخسائر المُحتملة في حال حدوث مداهمةٍ أمنيّة، خصوصًا أن رجال الشرطة يبتزون البائعات بطلب المال لقاء التغاضي عن "جنايتهنّ" المُتمثلة في "حيازة" الخمور، والتي تصل عقوبتها إلى السجن، أو دفع الغرامة، أو الاثنتَين معًا. أمّا في حال عدم توفّر المال لديهنّ لتسديد الرشوة، فعادةً ما يصادر رجال الشرطة مخزونهنّ من الخمر. وتضيف مارثا: "طبعًا، لا يسلّم رجال الأمن الكمّيات المصادَرة إلى الشرطة، لأنّ ذلك يحتّم تسليم البائعة أيضًا، بل يصادرونه لمنفعتهم الخاصّة".
إلى ذلك، تسرد مارثا كيفيّة تعاملها مع المداهمات الأمنيّة مشيرةً إلى نسجها علاقةً جيّدةً مع أحد رجال الأمن في مركز الشرطة الذي يشنّ الحملات، بحيث تدفع له الرشوة ليبلغها مُسبقًا بمواعيد المداهمات، ما يمكّنها من إخفاء مخزونها بعيدًا من متناول الشرطة، وصرف الزبائن من المنزل.
لا تنحصر معاناة بائعات الخمور بمداهمات رجال الأمن بل تمتدّ أيضًا إلى العلاقة مع الزبائن. تقول مارثا إنّها لطالما عانت من الزبائن، ولاسيّما المنتمين منهم إلى الشرطة الذين غالبًا ما يشربون الخمر من دون تسديد ثمنه، ومن دون أنّ تجرؤ هي على مطالبتهم بالدفع خوفًا من إغضابهم و"دفعهم" لاستخدام سلطتهم وسطوتهم عليها. ويُضاف إلى هؤلاء مرتادو المنزل العاديّين الذين يشكّلون تهديدًا أيضًا، ما يدفعها إلى إخفاء مخزون الخمور بعيدًا من أعينهم خوفًا من سرقتها. ففي العادة، تطلب مارثا من زبائنها دخول المنزل ريثما تذهب لتحضير الحصّة المطلوبة من مخزونها الذي غالبًا ما تخبّئه في مكانٍ سرّي قريبٍ من منزلها. لكن وفقًا لها، ينجح بعض الزبائن في اكتشاف المخبأ، ويعودون في أوقاتٍ متأخّرةٍ من الليل لسرقة بعض القوارير أو المخزون كلّه أحيانًا.
التحوّلات السياسيّة وتحريم الخمر
عرف السودانيون تعاطي الخمور منذ آلاف السنين، وتحيلنا أقرب التوثيقات إلى نحو مئة عامٍ مضَت، وقد وضعها الباحث في التراث الشعبي السوداني الطيب محمد الطيب، الذي أصدر كتابًا بعنوان "الإنداية"، وهي مشربٌ وملتقىً شعبي يؤمُّه السودانيّون لقضاء الوقت والحديث عن قضاياهم المحلّية.
يحكي الطيب محمد الطيب إحدى القصص التي قد توضح مدى تغيّر البنية المفاهيميّة للمجتمع السوداني تجاه تعاطي الخمور، فيقول إنّ إحدى السيِّدات العاملات في بيع المريسة2 اشتكَت لأحد الشيوخ ضيق الحال وقلّة الرزق بسبب انتشار الغشّ والفساد في المجتمع، فردّ عليها الشيخ لائمًا ومطالبًا إيّاها بعدم الحديث عن الغشّ، لأنّ بائعات المريسة هنّ أكثر من يمارسنه عبر إضافة الماء إلى ذلك المشروب!
لم تنقطع عادة تناول الخمر، لكنّ المخيال الشعبي تأثّر إلى حدٍّ كبيرٍ بقراراتٍ فرضَتها الأنظمة السياسيّة في محاولةٍ لتغيير ثقافة السودانيّين وتطويعها بما يتفق مع مشاريعها الأيديولوجيّة
شهد السودان فتراتٍ عدّةً من تحريم الخمور، تمثّلَت الأولى في الحقبة المهديّة القصيرة (1885- 1899)، التي حرّمَت الكثير من السلوكيّات الشخصيّة بما فيها تعاطي الخمر انطلاقًا من أساسٍ ديني، لكنّ تأثيرها على شرب الخمور بقي محدودًا بسبب قِصَر تلك الفترة وعدم سيطرة سلطانها على جميع أنحاء البلاد. أمّا الفترة الثانية، وهي الأكثر تأثيرًا على عادة شرب الخمور، فانطلقَت في أواخر عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري عام 1983، حين انتقل السودان من بلدٍ علماني تنتشر فيه البارات ومحلات شرب الخمور ويمتاز بمنتوجه الخاصّ من البيرة،3 إلى بلدٍ يحرّم تناول الخمور ويجرّمه. واستمرّ هذا الحُرم حتّى بعد الانقلاب على النميري في عام 1985 وتولّي عمر البشير رئاسة البلاد منذ عام 1989 وحتى عام 2019، في ما عُرف بفترة الإنقاذ. وفي خلال تلك الحقبة، ترسّخَت السلطةُ الدينيّة وشهدَت البلاد تشدّدًا في محاربة كلّ ما يُعتبَر مخالفًا للدّين، بما في ذلك بيع الخمور وتناولها. كما أُنشئَ ما عُرِفَ باسم شرطة النظام العام ومحاكمه، ركّزَت على مطاردة بائعات الخمر وتطبيق العقوبات بحقّهن.
النساء يدفعن الجزية
لم تنقطع عادة تناول الخمر، لكنّ المخيال الشعبي تأثّر إلى حدٍّ كبيرٍ بقراراتٍ فرضَتها الأنظمة السياسيّة في محاولةٍ لتغيير ثقافة السودانيّين وتطويعها بما يتفق مع مشاريعها الأيديولوجيّة. وبعد أن كانت هذه العادة مقبولةً اجتماعيًا، باتت في السنين الأخيرة بمثابة مذمّةٍ أخلاقيّةٍ تطال العاملات في بيع الخمور ومتعاطيها، كما تنطوي على مخاطر قانونيّةٍ واجتماعيّة.
في النتيجة، اختلطَت صناعة الخمور وبيعها التي امتهنَتها نساءٌ سودانيّاتٌ كوسيلةٍ لكسب العيش بهويتهنّ الشخصيّة. فهي لم تُكن قطّ مهنةً بساعات عملٍ مُحدّدة، بل شرطًا وجوديًا مُرتبطًا بتعريفهنّ وهويتهنّ وعلاقتهنّ مع المجتمع والدولة. ترسّخَت صورة هؤلاء البائعات كنساءٍ عاملاتٍ في مهنةٍ مُحرّمةٍ دينيًا وثقافيًا وقانونيًا، ما سهّل انتهاك حقوقهنّ، سواءً على يد المجتمع مُمثّلًا بالزبائن، أو النظام مُمثّلًا برجال الشرطة.
إضافة تعليق جديد