إذ تتوالى الأيام في شهر أكتوبر/تشرين الأول، تظهر الأشرطة الوردية في كل مكان بدءًا باللوحات الإعلانية، مرورًا بالمطاعم والمقاهي ومتاجر التسوق، ووصولًا إلى المجلات وشاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي. لقد حلّ "شهر أكتوبر الوردي"، أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ "Pinktober".
يهدف "شهر أكتوبر الوردي" رسميًا، بوصفه شهر التوعية بسرطان الثدي، إلى رفع مستوى الوعي، ودعم وتشجيع إجراء تشخيصٍ ذاتي وفحوصٍ طبيةٍ كصُور الثدي الشعاعية (الماموغرام) والتصوير بالموجات فوق الصوتية والتصوير بالرنين المغناطيسي، وجمع الأموال من أجل البحوث والمنظمات التي تدعم المُصابات بالمرض، وتكريم ذكرى اللواتي قضَين بسببه.
لا يجوز الاستخفاف بهذه الأهداف نفسها، كما يجب ألّا تقتصر هذه الأخيرة على شهرٍ واحدٍ بالسنة. فنحن بحاجةٍ إلى تعزيز الوعي في شأن العلامات المبكرة لسرطان الثدي، ومشاركة المعلومات في شأن كيفية إجراء الفحوص الذاتية، وتوسيع نطاق التوعية لتشجيع النساء على إجراء الفحوص الطبية المبكرة التي قد تساعد في ضمان تشخيصهنّ على نحوٍ أفضل.
ولا يقتصر الأمر على وجوب تضمين أي متابعةٍ طبيةٍ جميع هذه السياسات، بل إنّ الحق في الوصول إلى المعلومات القائمة على الأدلة المتعلقة بجميع جوانب الرعاية والخدمات في مجال الصحة الجنسية والإنجابية، بما في ذلك سرطان الأعضاء التناسلية، هو في الواقع حقٌّ من حقوق الإنسان. في تعليقها العام بشأن الحق في الصحة الجنسية والإنجابية، أقرّت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التزام الدول قانونيًا بأن "تعتمد (الدول) التدابير التشريعية والإدارية والمالية والقضائية والترويجية وغيرها من التدابير الرامية إلى ضمان الإعمال الكامل للحق في الصحة الجنسية والإنجابية. وينبغي أن تسعى الدول إلى ضمان حصول الجميع من دون تمييز، بمَن في ذلك أفراد الفئات المحرومة والمهمّشة، على جميع خدمات الرعاية الجنسية والإنجابية الجيدة، بما في ذلك الرعاية الصحية النفاسية؛ وعلى المعلومات والخدمات المتصلة بوسائل منع الحمل؛ والإجهاض المأمون؛ وتوفير الوقاية والتشخيص والعلاج في ما يتصل بالعقم وسرطانات الأعضاء التناسلية والالتهابات المنقولة جنسيًا وفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، بما في ذلك باستخدام العقاقير الجَنيسة".
بالنسبة لي، لا تكمن المشكلة في الهدف الجدير بالثناء وراء ما يُسمى "شهر أكتوبر الوردي" ألا وهو محاولة كبح معدلات الوفيات بسرطان الثدي، بل في الأسلوب الليبرالي السائد في تنفيذ هذا الهدف. فهو يُميّعه إلى حدٍّ إفراغه من السياسة واستخدامه أداةً من قبَل الشركات والدول للتستّر على آثار سياساتها وممارساتها الضارة بالحقّ في الصحة بشكلٍ عام، والصحة الجنسية والإنجابية بشكلٍ خاص، إلى جانب الحق في بيئةٍ صحّية.
لا تكمن المشكلة في الهدف الجدير بالثناء وراء ما يُسمى "شهر أكتوبر الوردي" ألا وهو محاولة كبح معدلات الوفيات بسرطان الثدي، بل في الأسلوب الليبرالي السائد في تنفيذ هذا الهدف
بحسب أحدث إحصاءات منظمة الصحة العالمية، "في عام 2020، شُخّصت إصابة 2.3 مليون امرأةٍ بسرطان الثدي، وسُجلت 685000 حالة وفاةٍ بسببه على مستوى العالم. وفي نهاية عام 2020، كان هناك 7.8 مليون امرأة على قيد الحياة شُخّصن بالإصابة بسرطان الثدي في السنوات الخمس الماضية، ما يجعله أكثر أنواع السرطان انتشارًا في العالم. وتخسر النساء من سنوات العمر المصحّحة باحتساب مُدد العجز (DALYs) نتيجة سرطان الثدي أكثر من أيّ نوعٍ آخر من السرطان على الصعيد العالمي. ويصيب سرطان الثدي النساء في كل بلدان العالم ومن جميع الفئات العمرية بعد سنّ البلوغ، ولكن بمعدلاتٍ متزايدةٍ في مراحل متأخرةٍ من العمر".1
وبالنظر إلى وقع سرطان الثدي الهائل ومدى انتشاره، فمِن غير المعقول التعامل مع المشكلة من مجرد منظورٍ فردي يركّز على الخيارات وأساليب الحياة الشخصية. إنّ السردية السائدة التي تنقلها وسائل الإعلام والقائمة على تصوير المُصابة2 بسرطان الثدي على أنها مُحارِبةٌ تخوض حربًا ضد المرض، وحدها، كأنها معزولة عن نظامٍ اجتماعي أوسع له تأثيرٌ كبيرٌ ليس فقط على التشخيص المحتمل، بل على إمكانية إصابتها بسرطان الثدي أصلًا، لا تؤدي إلّا إلى إثقال كاهل مريضات ومرضى سرطان الثدي بشعور الذنب؛ كأنّ السبب في عدم نجاحهنّ في "التغلب" على سرطان الثدي يعود إليهنّ. وهنا، نجد أنفسنا أمام قالبٍ نمطي لمريض السرطان "الصالح"، وهو الشخص الذي لا يشكو، بالأخص عدم إمكانية الوصول إلى الخدمات والمعلومات الصحية، ويتحمّل عناء العلاج، ويبقى متفائلًا، ويشفى في نهاية المطاف.
لكن بالنسبة لمعظم المريضات، لا تتبع رحلتهنّ مع المرض هذا المسار المستقيم، ويُؤجج عدم نجاحهنّ في الامتثال لهذا المسار شعورهنّ بالغضب والذنب. لم تحمل والدتي، التي أُصيبت بسرطان الثدي وتوفيت بسببه في عام 2015، أيّ صفةٍ من صفات المريض "الصالح". فقد كانت تعاني آلامًا جسديةً وتخالجها الكثير من المشاعر والأحاسيس المتضاربة، إلى جانب متاعب التعامل مع النظام الصحي. لم يكن أمامها متسعًا من الوقت للتفاؤل كي تضمن ألا يشعر أحدٌ من حولها بعدم الارتياح.
لا يشمل الحق في الصحة غياب المرض والعجز، والحق في توفير الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية والملطّفة فحسب، بل يضمّ أيضًا المحدّدات الأساسية والاجتماعية للصحة، أي الشروط المادية التي تحدّد شكل علاقات الفرد الاجتماعية. وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن المحدّدات الاجتماعية للصحة هي "العوامل غير الطبية التي تؤثر في الحالة الصحية. هي الشروط والأوضاع التي يولد في ظلّها الأشخاص ويكبرون ويعملون ويعيشون ويتقدّمون في السّن، والمجموعة الأوسع من القوى والنُظم التي تحدّد شكل شروط الحياة اليومية".
تلمّع الشركاتُ صورتها وتُبعد عن كاهلها همّ التمحيص والتدقيق في أفعالها المتمثلة بعدم احترام حقوق العمال والعاملات وظروف العمل، وتأثير أنشطتها على البيئة، وحملاتها ضد القوانين والسياسات التي من شأنها أن تحمي البيئة
إن الحصول على المياه النظيفة الصالحة للشرب، وخدمات الصرف الصحي الملائمة، والغذاء الكافي والتغذية، والسكن الملائم، وظروف وبيئة العمل الآمنة والصحية، والتعليم والمعلومات المتعلقة بالصحة، والحماية الفعالة من كافة أشكال العنف والتعذيب والتمييز وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان، تؤثر بشكلٍ ملحوظٍ في إعمال الحق في الصحة.
هكذا تخلق الرأسمالية، والعنصرية، والتمييز ضد الأشخاص من ذوات وذوي الاحتياجات الخاصة، والأبوية، وغيرها من أنماط التمييز والقمع البنيوية ديناميات القوى، والتوزيع غير العادل للموارد والقوة، وتدعم وتعزز بعضها البعض من أجل تهميش مجموعاتٍ معينةٍ من الأشخاص. وتشكّل نُظم القمع هذه المحّددات الاجتماعية للصحة، وهي غالبًا ما ترِد في القوانين والسياسات، ويكون لها تأثيرٌ سلبي على تمكّن الفرد من الحصول على الرعاية الصحية الجيدة. وتُركّز النُظمُ القوةَ والمواردَ في أيدي ثلةٍ من الأشخاص (كالمدراء العامّين وصناع السياسات على سبيل المثال) الذين يُمثّلون "المعيار" والقاعدة لاتخاذ القرارات بشأن القوانين والسياسات المتعلقة بالصحة، في حين تضطرّ جماعاتٌ أخرى (كالنساء، وأفراد مجتمع الميم-عين، والعمال الأجانب، وفئاتٍ أخرى تواجه أشكالًا متقاطعةً من التمييز على سبيل المثال) الكفاح والنضال لخلق مجتمعٍ يعترف باحتياجاتها وحقوقها، ويحميها ويحترمها.
إن مواجهة نظُم التمييز والقمع هذه هي عمليةٌ سياسيةٌ بحتة تنطوي على التعبئة الجماهيرية، وإصلاحٌ شاملٌ للأساليب الاجتماعية والاقتصادية المنظّمة للمجتمعات، وتفكيك القوالب النمطية الجندرية والعنصرية وغيرها، والعَكس التامّ لديناميات القوى القائمة. ولن يتحقق أيٌّ من هذا عبر وضع الأشرطة الوردية على ثيابنا (وللّون دلالةٌ هنا – فالوردي "مخصّصٌ" للنساء تعزيزًا لفكرة أنّ المسألة خاصةٌ "بالنساء" وليسَت مشكلةً اجتماعية، ما يُعيد النساء إلى المفهوم التقليدي للثنائيات الجندرية)، أو بيع المنتجات ورديّة اللون، أو غيرها من حملات التسويق الماكرة التي تديرها الشركات.
لدى هذه الشركات مصلحةٌ راسخةٌ في مواصلة تصوير النضال ضد سرطان الثدي من منظورٍ فردي، وكأنه مسألةٌ تعني النساء وتنفصل عن المطالب الأوسع المتعلقة بإعمال الحق في الصحة بشكلٍ كاملٍ ومعالجة المحدّدات الرئيسة والاجتماعية للصحة. هذه الشركات نفسها التي تترك ورائها، بسبب أنشطتها، آثارًا بيئية قد تسبب زيادةً في معدلات سرطان الثدي.
بحسب المقرّر الخاص المعني بالآثار المترتبة في مجال حقوق الإنسان على إدارة المواد والنفايات الخطرة والتخلص منها بطرق سليمة بيئيًا، فإنه "ثمّة أدلة متزايدة تشير إلى وجود ترابطٍ بين سرطان الثدي والتعرّض المهني لمبيداتٍ ومواد كيميائيةٍ صناعيةٍ ومعادن شتى".3
تتمثل استجابة الرأسمالية لأيّ حركةٍ سياسيةٍ تهدد وجودها في مصادرتها واستخدامها أداةً للإبقاء على الوضع الراهن، بدلًا من السماح لها بتحقيق هدفها الأصلي بتقويض ديناميات القوة القائمة
ويبدو أن "شهر أكتوبر الوردي" يوفّر لتلك الشركات الفرصة المثالية للتهرّب من أي نوعٍ من أنواع المساءلة على الأدوار التي تؤدّيها في التأثير في معدلات سرطان الثدي، ومواجهة العطل المرضية، وظروف العمل الملائمة لموظفيها وموظّفاتها. هكذا، تلمّع الشركاتُ صورتها وتُبعد عن كاهلها همّ التمحيص والتدقيق في أفعالها المتمثلة بعدم احترام حقوق العمال والعاملات وظروف العمل، وتأثير أنشطتها على البيئة، وحملاتها ضد القوانين والسياسات التي من شأنها أن تحمي البيئة، وذلك عبر تنفيذها حملاتٍ مرتبطةً بسرطان الثدي، وبيعها منتجاتٍ تسويقية لإظهار دعمها للنضال ضد هذا المرض.
تتمثل استجابة الرأسمالية لأيّ حركةٍ سياسيةٍ تهدد وجودها في مصادرتها واستخدامها أداةً للإبقاء على الوضع الراهن، بدلًا من السماح لها بتحقيق هدفها الأصلي بتقويض ديناميات القوة القائمة. وهذا ما حصل في مسألة النسوية على سبيل المثال، مع ظهور النسوية اليمينية النيوليبرالية، وهي أحد أشكال النسوية التي لا تهدف إلى إبطال ديناميات القوة غير العادلة في المجتمع، بل تكتفي بالسّعي لتحسين وضع النساء من النخبة عبر دعم وصولهنّ إلى مجالس الإدارات مثلًا، فتركّز بذلك على الحالات الفردية لا على تفكيك النُظم. في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا، يبرز هذا الشكل المسمّى بالنسوية عندما تستخدم نساءٌ من النخب الاقتصادية أو الطائفية المؤسساتِ النافذة القائمة لتعزيز صورتهنّ الشخصية واسمهنّ الفردي والاستحواذ على المزيد من القوة، من دون السّعي الفعلي لوضع حدٍّ للبُنى والمعتقدات الأبوية.
وهذا ما تفعله الرأسمالية أيضًا بحركات العدالة الاجتماعية التي تحاول تأطير الصحة كحقٍ من حقوق الإنسان ينبغي بالدول أن تحترمه وتحميه وتعمل لإحقاقه بحسب التزاماتها الدولية، وكذلك بالحركات التي تكافح الخصخصة المتزايدة للأنظمة الصحية التي تعمّق أوجه اللامساواة، وتعرقل إمكانية حصول الجماعات المهمّشة على الخدمات.
إذا كانت فكرة "شهر أكتوبر الوردي" تهدف إلى تكريم أولئك اللواتي أُصِبن بالمرض أو لقوا حتفهنّ بسببه، فدعونا لا نهينهنّ بهذه الأشياء الورديّة السخيفة. هنّ لا يحتَجن أيًا منها. نستطيع تكريمهنّ بدلًا من ذلك عبر مساءلة الدولة والجهات المعنيّة الأخرى على التزاماتها، كما عبر ضمان الوصول العادل والشامل إلى الرعاية الصحية. نحن مديناتٌ ومدينون لهنّ بذلك.
- 1 اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التعليق العام رقم 22 (2016) بشأن الحق في الصحة الجنسية والإنجابية (المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
- 2يُصاب الرجال أيضًا بسرطان الثدي، لكن بنسبةٍ قليلةٍ مقارنةً بالنساء. لذلك، ولغايات هذا المقال، نستخدم حصرًا صيغة المؤنث للإشارة إلى المصابات بالمرض.
- 3تقرير المقرّر الخاص المعني بالآثار المترتبة في مجال حقوق الإنسان على إدارة المواد والنفايات الخطرة والتخلص منها بطرق سليمة بيئيًا، مجلس حقوق الإنسان، الدورة التاسعة والثلاثون، 10-28 أيلول/سبتمبر2018، وكونسيتا فينغا، "التعرض المهني وخطر الإصابة بسرطان الثدي"، بيوميديكال ريبورتس، 21 كانون الثاني/يناير 2016.
إضافة تعليق جديد