من بُعد يارداتٍ وقوافل ونجومٍ مُبحرة أفقيًا في بطن السماء، تقترب خُطاه، كأنّ الكون عتمة أحشائك. تواصل اقترابها نحو سرابٍ لا وصول إليه. يترك الألم بينكما مسافةً مرعبة، ثم يثبُ دفعة واحدة، يخيّم ولا أجنحة له، يفترس ولا أنياب له، يخمش ولا مخالب له، مثل وحشٍ هاربةٍ ضراوتُه من استعارةٍ لغوية.
فقط حين تصبح أرحامنا شريحة لحمٍ مقدّد، ينتهي رعب الألم ويبدأ الألم.
لخُطى الألم إيقاعُ الخبب العذب. تتدافع الأحصنة القادمة من النافذة في جوفي، تسوقها جملة محمود درويش "لا تقتليني بالخطى المقتربة"، أتخيّله يخاطب بها الدورة الشهرية. ومثلما أتماهى مع شاعريّة العبارة تتماهى هي مع ألمي ويطمئنّ بعضنا إلى بعض، حيث لا طمأنينةَ الآن ولا راحةً ولا أمان. أصبحتُ أدخل مجازات الشعر كي أنجو مثلما يدخل النائم أحلامه "اللوسيد" عن سبق تخطيط.
"اللوسيد دريمز" هي أحلام تتحقّق في الأحلام، مكتفيةً بذاتها. لا تبحث عن كمالها في الواقع. ألم يدخل العرب قديمًا تجربة "اللوسيد دريمز" ليخترعوا لها اسمًا عربيًا؟ لماذا لا تعرف منها العربية إلّا ترجمتها: "الأحلام الواعية"؟ ولكن للأحلام الواعية في إرثنا العربي مرجعيةٌ ذهنيةٌ أخرى؛ فالأحلام الواعية كانت عصا الأعمى التي تحسّس بها الغزالي طريقه نحو الشكّ بالعقل والحواسّ، لربّما كان كلّ هذا الوعي حلمًا. ديكارت أيضًا فعل الشيء ذاته. لماذا يبحث هؤلاء عن الفلسفة في الحلم الذي يبدو واقعًا ولا يبحثون عنها في الواقع الذي يبدو حلمًا، كابوسًا مرعبًا، لعنةً قديمةً عالقةً هنا من أزمنة السحر الأسود. ماركس فعل ذلك. أما أنا فلا تعنيني الفلسفة، أنا فقط أبحث عن النجاة، النجاة من الحلم ومن الواقع معًا.
لولا التجربة لما عرفت أنني سأنجو، النجاة شيءٌ تتذكّره ولا تتخيّله، ينقطع الحبل كلّ مرّة، وتهوي عربة الملاك من سمائها السابعة، تتخلّع ألواحها، تتحطّم مقاعدها، ينزِف رُكّابها ثمّ تصلُ الأرض سالمةً، تهوي من سماء الواقع وترتطم بأرض الحلم، وأنا على متنها أتحطّم معها، وأعلاها أنظر إليها، وأسفلها أنتظرها.
2222 كلمة، ينقبضُ قاع البطن، أحسّ بدفقة داكنة تقطع المهبل ببطء وتبلّل مساحةً أكبر من الفوطة، سبعُ دفقات سعة امتصاص الفوطة الواحدة في اليوم الأول، وخمسٌ في اليومين الثاني والثالث ثم تزداد مجدّدًا، في الخامس على أقل تقدير، نستطيع أن نستبدل الأولويز بشريحة كير فري رقيقة ونرتدي بنطلون الجينز الضّيّق مجدّدًا، من المهم أن نعبر هذه المرحلة التمهيدية قبل أن نخلع الفوطة نهائيًا، كي لا نصبح عرضةً لشعورٍ مُلحٍّ بالركض في الشوارع بمؤخرات عارية، بعد أن نكون قد تخلّصنا فجأة من كتلة قطنٍ مرنّخة بالحيض بين فخذينا. على هذه القصص القصيرة أن تتحوّل الليلة إلى العربية. مثل جرّاحٍ دامٍ، عليّ الليلة أن أنتزع 2222 كلمة من رحم اللغة الإنجليزية وأضعها بين يدي اللغة العربية الحانيتين دون إراقة قطرة من دمها.
يلتفّ حبل السّرّة حول عنقي، وأختنق بالكلمات وتتعثّر الخطى المقتربة.
خببًا ذهبتْ تمشي الإبلُ
فعلنٌ فعلنٌ فعلنٌ فعلُ
قَبِلْت المهمّة وأنا على الحافّة المواجهة لمسافة الألم التي تقلّصت بمقدار 2222 كلمة. أقمتُ كعبةً فوق مربّع الكلمات المقدّس هذا، وطوّفتُ حولها سبعًا من بغايا المعبد، قدِمن تباعًا، من زمن الشعر الجاهليّ، وتعرّين في ظلام النصّ، واضعاتٍ يدًا فوق عانات تقطر منها الدم ويدًا فوق بطونٍ يقطر منها الألم، ومع اكتمال دورة طوافهنّ حول الكعبة، تكتملُ دورتهنّ الشّهريّة، ويُغلق مربّع الكلمات المفتوح.
علّمونا أن النصّ المترجم ليس انعكاس النصّ الأصلي في مرآة اللغة الوسيطة، ليس ظلّه حين يحجب شعاعَ الشمس عن الجهة النقيضة، إنّه مازوخيّة البناء اللغوي إذ يتفكّك من فكرةٍ إلى سياقٍ إلى نصٍّ إلى فقرة إلى جملةٍ إلى عبارةٍ إلى كلمة، ونرجسيّته حين يتكوّن بعد إذٍ على صفحة الماء المائج المضطرب كلمةً ثم عبارةً ثم جملةً ثم فقرةً ثم نصًّا ثم سياقًا ثم فكرة. الترجمة فعلٌ مرعبٌ، مُخاتلٌ، لا تعرف الكاتبة ماذا أبقت المترجمة من نصّها وماذا أسقطت، والأخطرُ ماذا حرّفت، والتحريفُ احترافُ استقامة الطريق ما بين رصيفي الانحرافِ والحرفنة. كلّ ذلك ذَنْبُ الحرفِ الذي انحَرَفَ ذَنبُه، في البدء كان الشعراء يتبعهم الغاوون، ومن جملة الغاوين المترجمون، الذين يحرّفون الكلِم عن مواضعه، ومواضع الكلم قابعةٌ في أعماق بحر النوايا، والبحر مدادٌ لكلمات ربّي، ورحمي يُترجم البويضة التي لم تجد غوايتها إلى لغة الألم، والألم لغةُ قصائد ومقاماتٍ وقصصٍ أبطالها نائمون على أسِرّة، تهزّها الدموع.
من رأسماليّة الترجمة أن يُعرّف الكاتب عالميّةَ نصّه بعدد اللغات الجاهزة التي يُترجم إليها، لا بعدد أجنّة اللغات التي يحبل بها رحم النصّ وتجعل من ترجمته أمرًا عَصيًّا.
يتفتّت جدار الرحم، تمتد يدي إلى حبّة التروفين الأولى ثم تتحرّك بحذر بحثًا عن كأس ماء فارغ، عليّ أن أنهض، وأهبط 12 درجة لأملأه من المطبخ البعيد البعيد في الطابق السفلي، ثمّ أصعدها مجدّدًا. الأدراجُ استفزازٌ محظورٌ لألم الحيض، توجّهت في خطةٍ بديلةٍ إلى صنبور الحمّام في الطابق العلويّ. عليك هنا أن تدير ذراع الصنبور إلى جهة الماء الساخن لينزل الماء البارد، اكتشفت ذلك في الأسبوع الثاني من انتقالي إلى المنزل، حين لاحظت أن الماء الساخن يتأخر في النزول من هذا الصنبور مقارنةً بحنفيّات المنزل الأخرى، يُؤجّل حضوره حتى أملّ من فرك الصابون في يديّ وأغلقه، لولا أنني تذكّرت خللًا شبيهًا في صنبور حمّام المنزل الذي تركته في رام الله لما أدركت أن الماء الساخن في هذا الصنبور البريطاني لا يتأخّر وإنما يمتنع تمامًا عن النزول إذا لم أُدِر الذراع نحو حرف C نافر في عظام المعدن. الترجمة، نفرت كل حروف اللغة معادنَ من عظامي، C، رمز الماء البارد، بطن المرأة الحائض يكره البرد أيضًا، الحائض تحتضن قربة الماء الساخن استعاضةً عن احتضان طفلها الذي سقط مع دم الحيض. قبل أن تؤدّي القربة دورها في كليشيه الحيض والأمومة، تخدم كملطّف لفكرة الألم، نحن نفهم الألم جيدًا ونحنو عليه، نخفّف من روعه بالدفء وبالاحتضان والسكون. على هذا العالم أن يهدأ من حولنا قليلًا الآن.
أيُّ حركةٍ تشمل منطقة الحوض تعني أن تشقّ مخالبُ الألم الذي لا مخالب له مساحةً أخرى من لحم الفريسة، علينا أن نحافظ على المخلب مغروزًا في مكانه حتّى يخدّرَ المسكّنُ موضعَ الألم، فيتلاشى الإحساس بحركة المخلب. المُسكِّنُ لا يُسكّن الألم، فالألم ساكنٌ فينا منذ البداية، ولكنّه يُسكّننا في ألمنا بعد أن يطردنا من مساكننا الأخرى، نسكن فيه، مثلما نسكن إلى أمّهاتنا.
أمّهاتنا؟ أتعلّق على خُطّاف الألم من فتحة أنفي وتجويف عمودي الفقري ومن حلمتيّ.
في المحيض، لا شأن لأعوامي الثمانية والعشرين في حاجتي الهستيرية إلى وجود أمي في الجوار.
تروفين لتسكين الألم.
كنت أغيّر جدولي باستمرار ليتناسب موعد زيارتي لمسكن أمي مع موعد حيضي، ولا أعرف كيف تجتاز ألمَ الحيض من لا أمّ لها. شعرتُ باليُتم، وأصبح السفر العاديّ غربةً، دون مبرّرات تحقّق شروطها. أمدّ يدي إلى حبّة التروفين الثانية، ولكنّ الهول لا تروفين له سوى وجه أمّي قرب السرير، وكوب الزنجبيل الممزوج بقلقها. أحبّ حين تقلقُ أمّي عليّ وهي تعرفُ أنّني سأنجو. يومان وأنجو، هكذا علّمتني التجربة، ولم تعلمني كيف أنتزع نصوص جامايكا كينكيد وجوناثان ليثم وليديا ديفيس من رحم أمّها بمبضع الألم. أرعبتني الأسماء، أحسستُ أنّي نصٌّ متهلهلٌ لم يرغب أحدٌ بترجمته، فحَزِنت كاتبته وحذفته، وكلّ شيء في يوم الحيض الأول يُرعب.
أتشبّث باستعاضة الدورة-الحبل في اقتناصٍ بيولوجيٍ مجحفٍ بحصّة الشاعريّة من الدورة الشهرية: ألم الحيض عقابُ فرصة الحَبَل الضائعة، توقِعهُ بويضةٌ لم تُخصَّب.
كنتُ في إحدى ليالي الحبّ بويضةً خُصّبت، ونجت من الهباء لتتورّط في العبث، وهذا شكلٌ آخر للعقاب، عقاب الفُرص التي تُنتَهز.
تزحف الأسطر فوق الشاشة البيضاء، وتبدو النصوص دلوًا ممتلئًا بالديدان الساخنة، أبتلع ريقي، فيتحرّك على إثره مخلب الألم المغروس في لحم الفريسة، أسأل أمّي أن تمسح دماء الحيض عن وجهي، فتجيب: "اغسلي الثياب البيضاء يوم الإثنين وانشريها على كومة الحجارة، اغسلي الثياب الملونة يوم الثلاثاء وعلّقيها على حبل الغسيل لتجفّ، لا تسيري تحت الشمس الحامية دون أن تغطّي رأسك، سخّني الزيت الحلو جيّدًا قبل أن تضعي فيه عجينة فطائر اليقطين، انقعي أقمشة الدورة الشهرية مباشرة بعد خلعها."1
هنا، ينظّفون مؤخّراتهم من الغائط باستخدام "ويت وايبس"، يمسحون أعضاءهم بمادة الفينوكسي إيثانول. لم أتخيّل استخدام المحارم المعطّرة إلّا لمسح الغبار عن الأثاث. انغرَست مخالب الألم أعمق في شريحة اللحم. صفحةٌ كاملة عن براز البجع. "إنّ بجعةً لتجترعُ قطعانًا كاملةً من يرقات البرمائيات وتهضمها وتتغوّطها ثمّ تمشي أحيانًا بين لطخات هذا الغائط أو تجلس فوقه".2 كلّ سكّان هذه البلاد في المراحيض بجعٌ بشريٌّ يتغوّط، وأنا الآن أيضًا بجعة. احترتُ في اختيار بديل لكلمة shit: غائط، براز، خراء، قذارة...؟ لم تكن لديّ رفاهية البحث في المعاجم العربيّة عمّا إذا كان العرب الذين امتهنوا الكلام وأكلوه وشربوه وسكروا به قد خصّصوا مصطلحًا معيّنًا لوصف براز البجع عن غيره من الحيوانات، وتذكّرت أن العربيّة ترعرعتْ في الصحراء حيث لا بجع يتغوّط في الأرجاء، إنها واحدة من الخواطر التي يركن إليها العقل بارتياح، أراحتني الفكرة، وأزاحت بعض الألم الغائط في أنفاس الغرفة. سخِرت أميليا غري في قصّتها من البجع باعتباره مجازًا للحبّ، فهام البجع حول بحيرتي حُبًّا لا مجاز له. فاضت عواطفي، فأحببتُ -ولو قليلًا- أن أُكرّم البجع الذي أُهين على طول هذه القصّة، وأعيد مردّ القصور الذي تفترض أميليا غري وجوده في المجاز القائم بين البجع والحب لا للبجع ولكن للحب؛ تدخّلت في خاتمة القصّة، كما يليق بمحرِّفة محترفة، وبدّلت الكلمة الأخيرة في مربع الكلمات المقدّس 2222، مترجمةً الجملة التي تقول "That’s all for today about swans" إلى "وهذا كلّ ما لدينا اليوم عن الحُبّ".
أرسلت الترجمات وبينيلوبي3 تنقض خيوط الفجر من غزل الليل المعتم، وغرقت مرتاحةً في ألمي، كما تغرق البجعات في غائطها، مثل حبٍّ لا يعبأ بالمجاز.
- 1 جامايكا كينكيد، "فتاة". ترجمتي
- 2أميليا غري، "البجعة مجازًا للحبّ". ترجمتي
- 3بينيلوبي هي إحدى الشخصيّات الروائية الإغريقية التي تظهر في كتاب الأوديسة لهوميروس على أنّها زوجة أوديسيوس ملك إيثاكا الذي تاه في البحار وغاب عنها طويلًا بعد حرب طروادة فظنّ الجميع أنّه مات، ما عدا زوجته، فتقدّم لخطبتها عشرات الرّجال. وخوفًا على نفسها وعلى ابنها من انتقام الخاطبين لو رفضتهم، وعدتهم بأنّ تختار واحدًا منهم بعد أن تُنهي حياكة كفن والد زوجها. وكانت تنقض ليلًا ما تحيكه نهارًا؛ حتى لا ينتهي غزلها. نجد أيضًا في القرآن إشارة أخرى لامرأة في مكّة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته، فجاءت فيها الآية 92 من سورة النحل (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا).
التعليقات
كتير حلو!! بتمنى تكتبي كمان مقالات :)))
إضافة تعليق جديد